ذاكرة – مع عصام العطار الدرس الأول في اللقاء الأول

أصبح النيل من بعضنا بعضا يشغل ‎فريقا كبيرا‎‎ ممن يتحدثون باسم الإسلام وباسم التغيير الحضاري

150
عصام العطار ومسجد بلال

ــــــــــ

لا أدري كيف كان عصام العطار يتحدث مع سواي عن الآخرين من المعروفين في العمل الإسلامي عندما يُسأل عن ذلك، ولكن لا أحسبه مختلفا عن أسلوب جوابه عندما أسأله أحيانا عن فلان أو فلان، فيستفيض في ذكر المناقب ويوجز في ذكر سواها مع الحرص أن يكون بقدر الضرورة المشروعة والمصلحة العامة. وأذكر في بعض الحالات أنه كان يتجنب الحديث لغياب الضرورة والمصلحة، وقد يكتفي بتعبير “رجل حبّاب”، حتى أصبحت الكلمة عندي لردح من الزمن أشبه بإشارة تحذير.

وهذا -فيما أقدّر- من أسباب امتناعه عن كتابة “يوميات” حركية، قد تستوجب التفصيل.. وقد عقب على ذلك هاتفيا مشيرا إلى كلمات صريحة وقوية نشرها مؤخرا عن بعض الأمور وعن بعض أصحاب العلاقة بها!

نعم.. كلامه عن الأحداث والمواقف “صريح وقوي” ولكنه بعيد عن أساليب في الكلام انتشرت فيما مضى، وانتشرت الآن أيضا لتنخر في مسار ثورات التغيير الشعبية، ومحورها النيل من الآخرين، واستقصاء أخطائهم ونواقصهم، والتركيز عليها.. فما كان هذا من شأنه فيما مضى وحتى الآن.

هذا أول ما عرفته عنه منذ اللقاء المباشر الأول معه.. وإليكم الحكاية من بدايتها.

وصلت مدينة بون في ألمانيا أواخر عام ١٩٦٥م، وتعرفت بعد فترة وجيزة على مسجد بلال وهو في طور البناء بإشراف مجموعة من طلبة الجامعة التقنية بمدينة آخن، قرروا تسليم إدارة المركز الإسلامي في آخن -مسجد بلال- للأستاذ عصام العطار، وكان قد تحسّن وضعه نسبيا من شلل جعله يعتمد لفترة طويلة على زوجه أم أيمن رحمها الله، حتى في تناول الطعام. وقد حمل آثار المرض في بداية وجوده في مسجد بلال، فكان يقضي ما يصل إلى نصف ساعة للصعود بصعوبة على سلم لولبي من بضع عشرة درجة، من الطابق الأسفل حيث سكن في غرفة فيه، إلى الحرم.
لم يمنعه المرض المبكر من الشروع في جلسات محلية والدعوة إلى ندوة شهرية من ظهر السبت الأخير من كل شهر ميلادي إلى ظهر يوم الأحد التالي، وقد بدأت فعلا ببضع عشرات من الأفراد غالبهم من آخن، ولكن استقطبت مع الزمن الألوف من أنحاء أوروبا حتى ضاق بها المسجد.

لم تكن استجابة العرب والمسلمين للدعوة الإسلامية كبيرة آنذاك، ففي بون مثلا نادرا ما بلغ تعداد المصلين يوم الجمعة الثلاثين فردا في مصلى تلقى الخطبة فيه بالعربية، ومثل ذلك في مصلى مماثل أقامه الإخوة الأتراك – وفي بون حاليا بضعة عشر مصلى ومسجدا تجمع الألوف – فكان أستاذي الجليل يبحث عمن يشارك في الأنشطة الإسلامية الوليدة، ولم يستخدم البريد والهاتف – ولم تكن الوسائل التقنية الحديثة معروفة بعد – بل عمد إلى اللقاء المباشر، وذاك من “أسلوب التواصل” الذي يحث على ممارسته إلى اليوم، وشمل تواصله كاتب هذه السطور إذ أبلغه أحد الأصدقاء أن “عصام العطار” راغب في زيارته في بيته في بون!

أهلا وسهلا.. يقولها من لم يبلغ العشرين بعد “معجبا بنفسه”، مع نية “استفزاز” من كان يشغل موقع “المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية” وله مكانته العابرة للحدود بين البلدان العربية والإسلامية.
كان هادئا، لين الحديث، واضح العبارة، لا يستشعر سامعه أن وراء ما يقوله هدفا غير الذي يصرح به، ولكن كنت في “عالم آخر”، أفكر بما أعددته لذلك اللقاء الأول، انطلاقا من فترة عامين قبل مغادرة دمشق، حيث كان لاسم عصام العطار أصداء لا تغيب عن الأسماع.. ولكن كنت أتردد آنذاك على الشيخ أحمد كفتارو – رحمه الله – في مسجد أبي النور، قرب حي الأكراد آنذاك المعروف بحي ركن الدين حاليا.
كنت أشهد من كثب ما أُنكره من التربية على الطاعة دون تفكير، ومن تعامل غير مقبول مع السلطة، وأعيب على بعض من عرفت أو من ينسبون أنفسهم إلى “الإخوان المسلمين” بالمقابل انتقادهم إياه فيما ليس فيه، والغفلة عن أمور أجدر بالنقد.
الأهم من ذلك ما اندلع من خلاف على خلفية دورة انتخابية نيابية في سورية عندما أيّد كفتارو مرشح البعثيين رياض المالكي على حساب المرشح الإسلامي.. هذه فرصة سانحة إذن لإثارة “جدال” مع الضيف الكبير في أول لقاء يجمعني به! وقبل وصوله استخرجت صورة لكفتارو لدي، ووضعتها في إطار على طاولة الدراسة بحيث يراها من يدخل إلى الغرفة تلقائيا.
على عادته – كما عرفته من بعد – دار الحديث عن أوضاعنا الدراسية والعامة في الغربة، كما شمل أوضاع الإسلام والمسلمين، ومسجد بلال، والندوة الشهرية الوليدة، ولم يشغلني ذلك عما أردت، فاخترعت سببا واهيا ليقوم معي من أصبح “أستاذي الجليل” من بعد – وكان آنذاك دون الأربعين من العمر – وليدخل الغرفة الأخرى ويقع بصره على صورة كفتارو، ولأسمع ما يقوله عن “غريم” له.. وما ظننت أنه سيذكره بخير!

لم أسمع تعليقا.. لم أسمع ما أردت سماعه.. لم أسمع جوابا على استفسارات استفزازية.. وترك ذاك الذي “لم أسمعه” أثرا أعمق لدي مما سمعته.
وما زلت عبر عشرات السنين التالية لا أسمعه يتحدّث إلا نادرا بما يمسّ الآخرين من أوساط العمل الإسلامي والفكر الإسلامي، وكلمة “نادرا” تعني أنه كان يستجيب بقدر ما تفرضه الضرورة والمصلحة لمواجهة واقعة تمر بنا، ونتيجة إلحاحنا للاستفادة من معلوماته بحكم التجربة، والمعايشة، والمشكلات الكبيرة والصغيرة.

بين يدي مثال على “حدّ الضرورة والمصلحة”.. من فترة أحداث الثمانينات في سورية، وكنت في مؤتمر في أحد البلدان الأوروبية، فطلب المسؤولون أن أشارك بكلمة عن الأحداث، بسبب “ضجة وراء كواليس اللقاء” اصطنعها أربعة أفراد قدموا من بلد عربي، وكانوا ينفردون بشاب بعد شاب فيمارسون ما لا يليق صنعه من منطلق إسلامي أو منطق سياسي، لاستمالتهم إلى من يمثلونهم، إلى جانب حديثهم عن عصام العطار بما لا يليق أدبا، ولا يصح مضمونا، للنيل من مكانته لدى أولئك الشباب.

قلت إن الكلمة لا بد أن تتضمن الحديث الصريح المباشر مما يكشف أمر هؤلاء أمام الحاضرين على غير ما اعتدنا عليه في المؤتمرات والندوات.. واعترض المسؤولون عن المؤتمر، وهم يعرفون مثل ما أعرف عن أستاذي الجليل فاحتجوا به: “لا ريب أن الأستاذ لا يرضى بمثل ذلك”.
اتصلنا به هاتفيا وحصلت على مزيد من المعلومات منه، وكان جوابه: “بل يجب البيان بقوة وبقدر الضرورة، فلا يجوز إغواء الشباب على هذا النحو، لا سيما ونحن نعايش المآسي في بلادنا”.

إن أشد ما يحزّ في نفوسنا هذه الأيام شديد الشبه بما كان يحزّ في نفوسنا في تلك الأيام..
أصبح النيل من بعضنا بعضا هو الشغل الشاغل لفريق كبير ممن يتحدثون باسم ثورة ٢٠١١م شبيها بما شغل فريقا ممن كانوا يتحدثون باسم الثورة خلال أحداث الثمانينات..
هذا.. ونحن نتابع منذ سنوات، ما يمزق القلوب مما يحمل عناوين البراميل المتفجرة والكيمياوي وقوائم الشهداء والضحايا وألوانا لا تطاق من المعاناة.. وما يحمل الانقلابات المضادة و”سخاء” لصالح المتمردين على الإرادة الشعبية هنا وهناك، ودعمهم بالمال والسلاح..

هذا.. وقد وصلتنا في تلك الأيام قديما، وتحديدا أثناء المؤتمر الذي نوهت إليه الأخبار الأولى عن المذبحة الإجرامية بحق المعتقلين في سجن تدمر، إحدى المذابح الأشد من سواها فحشا وفجورا في السنوات الثلاث، ما بين ١٩٧٩ و١٩٨٢م.

ليس أمرا جانبيا في واقع الحياة أن يكون من صميم الالتزام بالإسلام التحذير الشديد من آفات اللسان – والقلم مثله – إنما لا يمكن اصطناع السلوك المطلوب وتطبيقه بين ليلة وضحاها، بل يتحقق تلقائيا في فترة الأزمات والمحن -والثورات- عندما يكون في سائر الأيام جزءا عضويا لا ينفصل عن تكوين الجوانب الأخرى من شخصية الإنسان الفردية السوية.

نبيل شبيب