ذاكرة – مع عصام العطار أيام زمان
ما زلت إلى اليوم مقتنعا بمدى حاجة السياسة المعاصرة إلى قيم وأخلاق ومعايير
ــــــــــ
أول ما عرفته عن السياسات المنحرفة كان من خلال مشهد معبر يوم ٢٨ / ٩ / ١٩٦١م، يوم انفصال سورية عن مصر بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة بثلاث سنوات، وكنت في بيت أحد الأصدقاء في شارع الصالحية بدمشق، قرب ساحة عرنوس (وقد بدلوا شكلها واسمها لاحقا) وتابعنا عبر النافذة مظاهرة تكيل الشتائم لجمال عبد الناصر آنذاك، ورأيت رجلا يقترب من “قائد المظاهرة” فيهمس في أذنيه بكلمات، وإن هي إلا دقائق، وإذ بشخص آخر يعتلي الأكتاف وبالمظاهرة تعكس مسارها باتجاه بوابة الصالحية بدلا من الجسر الأبيض.. ولم يتبدل الأشخاص، ولكن تبدلت الهتافات فانطلقت بتمجيد جمال عبد الناصر.
أدركت فيما بعد أن قلب المظاهرة رأسا على عقب كان بسبب ما شاع في الساعة الواحدة ظهرا من يوم الانقلاب، ومفاده التوصل إلى حل وسطي مع “الرئيس”، وقد تبين لاحقا غير ذلك، ولكن إدراكي للحدث كان إدراك فتى في الرابعة عشرة من العمر، فترك مشهد المظاهرة جيئة وذهابا في نفسي أثره، لا سيما حول “النفاق السياسي”، وما زلت إلى اليوم مقتنعا بمدى حاجة السياسة المعاصرة إلى قيم وأخلاق ومعايير.
في تلك الفترة سمعت بعصام العطار لأول مرة، وكان المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية، الجماعة التي حظرتها دولة الوحدة مع سواها من الأحزاب، وقد كان له من الانفصال موقف سياسي أخلاقي متميز، فرغم معارضته المعلنة للجوانب الاستبدادية في السياسة الداخلية لجمال عبد الناصر، اعترض على الانفصال، مؤكدا التمسك بالوحدة هدفا يحقق مصلحة عليا لا ينبغي إسقاطها ضحية للسياسة.
. . .
كانت حماستي الشبابية للوحدة كبيرة، ولعل هذا ما دفعني بعد عام تقريبا، أثناء تقلب السلطات عبر الانقلابات العسكرية في سورية، للتوجه في يوم جمعة إلى جامعة دمشق للاستماع إلى من أصبح اسمه وأصبحت خطبته الأسبوعية في مسجد الجامعة على كل شفة ولسان.
لم يكن باستطاعتي رؤيته مباشرة على المنبر، فقد كان مسجد الجامعة والساحات والميادين حوله مليئة بعشرات الألوف من المصلين، وكان صوته القوي الجهوري يهدر عبر مكبرات الصوت، وتضمنت الخطبة يومذاك التهديد لحكومة جديدة كان الشيوعيون مسيطرين عليها عبر الجيش من وراء ستار، فطالب باستقالتها منذرا بكشف أمرها إن لم تستجب قبل يوم الجمعة التالي.. واستقالت.
. . .
إذا كانت قوة الزعامة السياسية الحقيقية تقاس عند امتلاك السلطة بوجود زعيم سياسي على رأسها وحوله كثير من القادة والزعماء، وهو لا يحتاج إلى إقصائهم لتظهر كفاءته وقدرته، فإن قوة الزعامة السياسية الحقيقية تقاس في ميادين المعارضة بثبات الزعيم السياسي المعتمد على شعبيته ليجهر بما يعتقده حقا وصوابا، حتى عندما ينفرد به الميدان، وكان هذا بالذات شأن عصام العطار في تلك الأيام في سورية.
كان في فترة الوحدة وفترة الانفصال الزعيم الإسلامي الشعبي الشاب بلا منازع، وبقي في المقدمة أثناء الانقلابات التالية للانفصال حتى الانقلاب البعثي في ٨ / ٣ / ١٩٦٣م.
. . .
باشر حزب البعث على الفور بتنفيذ عملية استئصال واسعة النطاق لكل من لا “يتبعه” في جميع مكوّنات الوطن الفكرية والسياسية والتعليمية والإعلامية والحزبية وغيرها، ولا أعلم عن “سياسي” آخر بقي يعارض سلطة البعث بقوة جهارا نهارا سوى عصام العطار، وقد كان في تلك الفترة في الثلاثينات من عمره، ولكن زعامته الشعبية تركت أثرها على السلطات البعثية العسكرية، فخشيت من محاولة التخلص منه كسواه، اعتقالا أو إعداما (ولم تعرف الحياة السياسية السورية إعدام المناوئين والبطش بهم إلا بعد ذلك الانقلاب البعثي) ولهذا استغل البعثيون خروج عصام العطار إلى الحج سنة ١٩٦٤م، فأغلقوا في وجهه الحدود عند عودته ثم عندما كرّر محاولة العودة مرارا متحديا السلطات أن “تحاكمه قضائيا” إن كانت تملك أي اتهام لتبرير إجراءاتها ضده، وشهدت تلك الفترة حركة احتجاجية كبيرة من مطالبها عودة عصام العطار، فكان إخمادها بقصف مسجد السلطان في حماة عام ١٩٦٤م مع حملة اعتقالات وتعذيب واسعة النطاق، ثم اندلعت الاحتجاجات في دمشق فكان إخمادها باقتحام المسجد الأموي بالدبابات مع حملة اعتقالات وتعذيب تالية.
. . .
كان في الذاكرة السياسية في مطلع الشباب متسع لترسخ فيها المشاهد والاقتناعات، وكان من محاورها صورة الزعيم الإسلامي الشعبي السياسي الشاب، ولم أعلم إلا بعد فترة من الزمن، أنه ثبت على ما كان عليه في سورية عندما حمله الترحال إلى أكثر من بلد عربي آخر، أي أيام كانت الأنظمة في تلك البلدان تستقطب الإسلاميين ممّن هاجروا أو هُجّروا من سورية (ومن مصر أيضا حيث طالتهم حملات إعدامات واعتقالات وتعذيب وتشريد).
آنذاك كانت المعركة محتدمة عربيا بين التيار “القومي – الاشتراكي” بزعامة جمال عبد الناصر، وبين دول “الرجعيين” وفق تصنيفه لهم، فكانت هذه الدول حريصة على “احتواء” الإسلاميين، ومقتضى الاحتواء أن يمارسوا “معارضتهم” للأنظمة الناصرية والبعثية وما يماثلها كيفما شاؤوا، بشرط عدم التعرض للأوضاع في البلد “المضيف” وما تنطوي عليه من استبداد وفساد.
لم يقبل عصام العطار أن يوظف موقفه الرافض للاستبداد هنا في خدمة الاستبداد هناك، ودفع الثمن تشريدا بعد تشريد، ثم اعتقالا وسجنا في لبنان بتدبير من جمال عبد الناصر عبر أنصاره في لبنان، انتقاما من دفاع قلم العطار يومذاك عن أرتال الإسلاميين ممّن أعدمهم جمال عبد الناصر وكان من أشهرهم عبد القادر عودة وسيد قطب رحمهما الله.
ومن السجن في لبنان.. انتقل (بل نقل) إلى سرير المرض في أوروبا، وبعد فترة وجيزة كان اللقاء التالي المباشر مع أستاذي الجليل.
نبيل شبيب