ذاكرة – عبد القادر طاش وجمال خاشقجي
عند تغييب قيم الرسالة الإعلامية تغيب معايير الإتقان مهنيا وكفاءةً عند شغل مواقع التحرير وإدارته
ــــــــــ
يتزامن نشر هذه السطور في “ذاكرة إعلامية” مع ما أثاره “ملف خاشقجي” – كما يوصف إعلاميا – حتى أصبح حدثا إنسانيا وحقوقيا وسياسيا دوليا في وقت واحد، والمفروض أن يكون التعامل مع الجناية والجناة كالتعامل مع أي جريمة جنائية بشعة، وهذا ما لا يزال غير مضمون ساعة كتابة هذه السطور، التي استهدفت في الأصل الحديث عن ظاهرة تعيين رؤساء التحرير “بالنيابة، ثم عدم تثبيتهم بعد سنوات، ظهر خلالها ارتفاع مستواهم مهنيا، وظهرت استقامتهم على طريق أداء رسالة الإعلام تحريريا، لا سيما بمنظورها القيمي والواقعي الإسلامي.
وقد كان للحدث الذي لا يكاد يُصدّق حصوله، والمؤثر أعمق تأثير، بإزهاق روح جمال خاشقجي رحمه الله دوره في إعادة الذاكرة إلى أيام مضى عليها أكثر من ربع قرن، بالإضافة إلى ما سبق وأثارته متابعة كثير من عطاءاته، لا سيما في الشهور الأخيرة بعد اغترابه عن بلده، الذي سيطرت عليه سلطة انقلابية بالمعنى الأخطر لكلمة “انقلاب”.
قيود يرفضها الإعلاميون الأحرار
كان قد ارتبط اسم جمال خاشقجي لديّ من قبل بفترة زمنية امتدت بضعة شهور بين عامي ١٩٩٠ و١٩٩١م، عندما شغل موقع “مدير تحرير ونائب رئيس تحرير بالنيابة” في جريدة “المدينة” السعودية، وكانت تنافس “الرياض” على مكانة الصدارة بين الصحف اليومية. خلال تلك الشهور وبعد مكالمة هاتفية مباشرة، كان ينشر لي ما أرسل إليه عبر “الفاكس” كمقالة يومية تتناول قضايا عربية وإسلامية، أو نقاط التماس بينها وبين السياسات الغربية، ولم أعلم بانقطاع عمله في الجريدة إلا بعد فترة من انقطاع كتابتي فيها.
آنذاك لم يتم تثبيت جمال في موقع رئيس التحرير، رغم دوره الملحوظ في رفع مستوى جريدة “المدينة” وعطائها الإعلامي، أو ربما بسبب ذلك الدور وقدرته المميزة، ليس لدي معلومات مباشرة، ولكن يبدو لي أنه رفض شروطا صدرت عمن يملك تلك الجريدة، التي حملت اسم “المدينة” النبوية، إنما كانت الشروط – على الأرجح – قيودا تتناقض مع نهجه الداعم لتحرّر الإعلام الإسلامي فكرا وقلما، بينما دأب غالبية من أمسكوا بزمام الإعلام في السعودية “مالاً وسلطة” على نشر ما يُنشر تحت “عناوين” إسلامية ولكن دون طرح إسلامي لقضايا رقي الإنسان والأوطان، وتطوير المجتمع نحو الأفضل والأسمى، علما وعملا، سياسة واقتصادا، قانونا وأمنا، ومثل هذا التغييب لقيم الرسالة الإعلامية يوجّه عمدا عبر تغييب معايير الإتقان والمهنية والكفاءات عند شغل مواقع التحرير ورئاسته.
نموذج العلم والكفاءة والخبرة
في المثال التالي عن د. عبد القادر طاش رحمه الله وجريدة “المسلمون” يمكن الاعتماد على المعلومات المباشرة أكثر من المثال السابق حول التعامل مع جمال خاشقجي رحمه الله. فالتوجيه السلبي المتعمد بميزان الكفاءات والخبرات أقدّره تقديرا بصدد جريدة المدينة لعدم الاطلاع بما يكفي على مسارات الإدارة وصناعة القرار، هذا رغم تجدّد التواصل بالقلم مع الجريدة لاحقا، عندما استلم د. عبد القادر طاش عام ٢٠٠٠م تحرير “ملحق الرسالة” الذي أسّسه في جريدة المدينة، وقد دعاني للنشر فيه، وأذكر ممّا نشرت آنذاك مقالة بعنوان: “انتهاك سيادة لغتنا العربية”.. وأشهد أنها ما زالت تتعرض لمزيد من الانتهاك الخطير بل المضاعف كما ونوعا، لا سيما عبر وسائل الإعلام.
وتعود العلاقة مع د. عبد القادر طاش رحمه الله لفترة سابقة، وكان من أقدر من عرفهم الإعلام العربي وليس السعودي فقط، وقد درس اللغة العربية وآدابها في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وحصل على “الماجستير” في الصحافة والإعلام من جامعة أوكلاهوما الأمريكية، ثم على شهادة الدكتوراة في الصحافة والإعلام الدولي من جامعة جنوب آلينوي الأمريكية أيضا، ومارس تدريس الإعلام ورئاسة كليته في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. لم ينقصه العلم ولا الخبرة.. ولكن كانت توجد في عمله إشكالية من قبيل ما يتحدث عنه الشاعر القائل:
“فخر الفتى كثرة الأرزاء تطرقه – – – والسيف يفخر في حدّيه بالثلم”.
بعد وفاته عام ٢٠٠٤م كتب رفيق دربه د. عبد العزيز قاسم في رثائه:
(لا أحد يستطيع أن ينسب الدكتور طاش إلى صفه.. لا أحد! إنه الوحيد الذي يقف في صف الجميع.. هو النموذج الأخلاقي والمهني الذي يلائم اللحظة العربية الراهنة تحديدا. وهو النموذج الأصلي، الذي نفتّش عنه اليوم، ونحن نشاهد، في مختلف البلاد العربية، هذا المهرجان الوحشي للدم والتطرف والطائفية. ومنذ دخوله إلى عالم الصحافة عام ١٤١٠هـ، كان الدكتور طاش ينزع إلى وضع مفهوم مختلف، في بيئتنا المحلية، للمثقف والكاتب وحتى.. لرئيس التحرير!)
ويتابع فيقول:
(لكن مشوار طاش الإعلامي، بقدر ما كان حافلا بالنجاحات، إلا أنه كان حافلا بالعقبات أيضا. سواء خلال رئاسته جريدة “المسلمون”، أو “عرب نيوز” أو “البلاد” بعد ذلك، وحتى في فترة إدارته قناة اقرأ، فإنه لم يسلم من محاولات الوصاية والاصطفافات، والتي نجح بعضها في إبعاده، لكنها لم تكن قادرة، أبدا، على إقصائه من المشهد الإعلامي).
بين هدم معيار الكفاءات.. وهدم الإعلام
كان أول ما سمعت باسم عبد القادر طاش عند إدارته لمجلة “أمل” التي أصدرها أثناء دراسته في المغترب الأمريكي، في مطلع الثمانينات من القرن الميلادي العشرين، وأحسبه قد سمع بي عن بعد أيضا، كما يشير ذكره آنذاك شيئا عن كتاب “الحق والباطل” الذي نشرته حول قضية فلسطين عام ١٩٧٨م. ثم عرفته لاحقا من خلال بعض ما كتبته لمجلة “الدعوة” في السعودية التي كان عبد القادر طاش نائب رئيس تحريرها عام ١٩٩٠م، أما العلاقة الأعمق فكانت عبر الكتابة الأسبوعية في جريدة “المسلمون”، وقد تزامنت مع ترددي على السعودية سنويا للمشاركة في لقاء “الجنادرية” الفكري السنوي.
آنذاك لفتت نظري أيضا ظاهرة رئاسة التحرير “بالنيابة”، فهذا ما كان يحدّد مهمة د. عبد القادر طاش – رحمه الله – في جريدة “المسلمون” بين عامي ١٩٩١ و١٩٩٥م.
وقبل تلك الفترة كنت أتابع جريدة “المسلمون (كانت مجلة وتحولت إلى جريدة) انطلاقا من البحث عن إعلام جدير بوصف “الإسلامي”، ورأيت آنذاك أنها بعيدة عن ذلك، فكأنها قد صدرت لمجرد تكملة ألوان قوس القزح الذي تصدره “الشركة السعودية للأبحاث والنشر” ومنه جريدة “الشرق الأوسط” ومجلات “المجلة” و”سيدتي” و”الرجل”، وغير ذلك، وجميعه متناقض مع مختلف المعايير الموضوعية لوصف “إعلام إسلامي”.
كنت أسعى للاطلاع على أحد أعداد جريدة “المسلمون” بين الفينة والأخرى لرصد ما إذا تطورت، وحدث أن اتصل بي أحد المعارف الموثوقين، فأكد لي ارتفاع مستوى الجريدة حرفيا وإسلاميا منذ استلم عبد القادر طاش رئاسة تحريرها بالنيابة، وتيقنت من ذلك فاستجبت لدعوته أن أكتب مقالة أسبوعية فيها.
للمقارنة:
خلال أولى زياراتي السنوية لجدّة على هامش أداء العمرة بعد المشاركة في “الجنادرية”، كنت أسأل عن جريدة “المسلمون” في أكشاك بيع الصحف والمجلات، فيقال لي إنهم لا يأتون بها لأنها لا تجد من يشتريها، ثم أصبح يقال لي: لقد نفدت الأعداد، فالإقبال على شرائها تصاعد بشكل كبير، ولا أشك أن هذا كان من فضل الله ثم بجهود د. عبد القادر طاش ومن تعاون معه مثل د عبد العزيز قاسم.
تحولت الجريدة من أوراق لا قيمة لها إعلاميا، وليس فيها محتوى جدير بتسميتها، ولا تجلب مشتركين أو مشترين لها وبالتالي لا تجد التمويل عبر إعلانات تجارية كسواها.. تحوّلت إلى جريدة تنفد أعدادها سريعا، ويرتفع عدد نسخها المطبوعة والمباعة، وتغطي تكاليفها بالإعلانات تمويلا، ثم بعد ذلك كله تتخذ الشركة المالكة قرارا بعدم تثبيت رئيس تحريرها “بالنيابة” وتعيين سواه، للعودة بها إلى سابق عهدها، أي للتحول عن قضايا الإنسان والأوطان إلى تخصيص العناوين الرئيسية لمسائل من قبيل السحر، والشعوذة، والتنجيم، والحسد، والغيرة، وما شابه ذلك بعيدا عن أحداث الساعة والقضايا الأهم في حياة الإنسان الفرد والمجتمع والأسرة البشرية، ثمّ بعد فترة وجيزة تقرر وقف إصدارها نهائيا بدعوى أنها مشروع خاسر، وأن “المسلمين” لا يقبلون على اقتناء جريدة “إسلامية”، كما قيل في تعليل الشركة لقرار وقف إصدارها.
وتكاد تتكرر الصورة دون اختلاف كبير بين عامي ٢٠٠٠ و٢٠٠٢م مع إدارة د. عبد القادر طاش لمدة سنتين لفضائية “اقرأ” بعد أن أسسها، وعند مشاركتي في لقاء حواري في الفضائية، فوجئت بأن غرفة المخرج كانت ضيقة للغاية لا تتسع لاستقبال ضيف واحد فيها، وكأنها فضائية منبوذة في مجمّع ضخم لفضائيات “الشركة الإعلامية العربية” (في هذه الأثناء أصبح لفضائية اقرأ بناء مستقل للإدارة والبث في جدّة)، ورغم ذلك ارتقى مستوى الفضائية إلى حد كبير خلال الفترة القصيرة لإدارة عبد القادر طاش، إنما يسري على تلك الفترة أيضا قول د عبد العزيز كما ورد آنفا: “.. وحتى في فترة إدارته قناة اقرأ، فإنه لم يسلم من محاولات الوصاية والاصطفافات”.
هي لقطات أو محطات.. تضاعف اليقين بأن طريق الإعلام مهما بلغ التطور التقني فيه لا يوصل إلى الهدف دون الكفاءة والإخلاص والإحساس الصادق العميق بالمسؤولية، بدءا بتحرير الكلمة وصولا إلى إدارة التحرير والتمويل.
نبيل شبيب