ذاكرة شخصية – مريض ٢ من ٧
اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك
(لله الحمد من قبل ومن بعد.. لقد مضى ١٥ عاما على تحرير "خواطر مريض" هذه ونشرها، وها هي تنشر الآن تباعا في سبع حلقات في باب "ذاكرة.. أيام شخصية" من هذه الإصدارة من مداد القلم، ابتداء من يوم ٢٨/ ٩ / ٢٠١٧م، بعد نشرها يوم ٢٨/ ٩ / ٢٠٠٢م في إصدارة سابقة، عقب دخولي المستشفى لأول مرة لإجراء عملية جراحية "بسيطة" بمعنى الكلمة، إنما تسابقت هذه الخواطر إلى القلم، في تلك الأيام ما بين الفحص الأول والخروج من المستشفى.. ولله الحمد من قبل ومن بعد)
يفترق الناس بين مؤمن وكافر، ويجادل أهل الباطل عن باطلهم ما شاء لهم الجدل.. إنّما هل يملك أحد إنكار أنّ الموت قادم، لا محالة، على غير انتظار، آجلا أو عاجلا، شاء من شاء وأبى من أبى.. فويل للمتكبّرين، والعاقبة للمتقين.
¤ ¤ ¤
أوّل ما أمسكت بالقلم لتسجيل بعض الأفكار والمشاعر ممّا يتداعى على مريض يقيم في المستشفى لأول مرة، بدأت أفكّر بالعنوان المناسب، وبما سأكتبه قبل العملية الجراحية، وما سأكتبه بعدها، ثمّ كيف سأنشر هذه الخواطر، وأين سأنشرها..
وقطعتْ وخزاتُ ألم مفاجئة حبلَ أفكاري فوجدتني أتساءل: يا سبحان الله، هل سأكتبها وأنشرها أصلا؟
¤ ¤ ¤
يأبى القلم إلاّ أن يغالب الألم وينقل هذه الخواطر إلى الورق، وسيّان بعد ذلك هل اكتملت أم انقطعت، فقد تجد أو يجد ما يكتمل منها طريقه إلى النشر، وليكن تحت عنوان: "خواطر مريض"، أو حتى تحت عنوان: "آخر ما كتبه فلان رحمه الله".
¤ ¤ ¤
قال الأطباء يطمئنون المريض: إنّها عمليّة جراحيّة لا خطر فيها!
هل في كلامهم ما يضمن ساعة واحدة من حياة أيّ مريض تحت العلاج بين أيديهم؟
أم هل يضمن أحدٌ منهم أو جميعهم وجميع أهل الأرض معهم ساعة واحدة من حياة أيّ إنسان، وإن كان يتمتّع بسائر ما وصل إليه علمهم من أسباب العلاج والسلامة؟
شكر المريض الأطباء، وقال في نفسه: إنّما التطبيب من الأسباب، وأمّا النتائج فيقرّرها مسبّب الأسباب.
¤ ¤ ¤
رحم الله أبي وغفر له، كان -كما أنا الآن- في الخامسة والخمسين من عمره، عندما أجريت له عملية جراحية، نجحت.. ثمّ تبعتها مضاعفات لم يتوقّعها الأطباء، إنّما حلّ أجله فتوفي على إثرها، رحمه الله وغفر له.
¤ ¤ ¤
مواجهة الموت ساعة مرض المؤمن الغافل، أشبه بوميض نور مفاجئ في ظلام حالك، يزيح ما تسرّب من أسباب التشبّث بالحياة الدنيا إلى النفس وحوّل حتّى العبادات إلى ممارسات وعادات رتيبة، فينكشف خواء الاغترار بطول الأجل وخطر الانشغال بعاجل الأمل. فمن لم يخرج وميض النور به من غفلته، تطبق عليه الظلمة من جديد إلى ما شاء الله، ومن ينتفع بالذكرى فينتبّه من غفلته، يبصر الطريق إلى نور الفجر ويمسك بطوق النجاة من الظلمات.
¤ ¤ ¤
وصلتني من أخ عزيز دعواته بالشفاء وأنّه عازم على زيارتي في المستشفى، وسرّني ما وصلني منه، ولكن شغل أفكاري قليلا، فالأخ العزيز مقيم في مدينة قريبة، يسكنها عدد كبير من الأحبّة الذين مضى على معرفتي بمعظمهم أكثر من ربع قرن.. وكنت أودّ لو لم يصل الخبر إليهم، كيلا يتكبّدوا عناء الاتصال والسؤال أو السفر والزيارة.
رغم ذلك وجدت نفسي في الأيام التالية تفرح وتحزن، وتُسرّ وتستاء، فكثير من الاتّصالات والزيارات كان ممّن لم أتوقّع سؤاله، وكثير من الانقطاع كان ممّن لم أتوقع غيابه، لا سيّما من يذكّر سواه بعيادة المريض وثوابها الكبير وأثرها في حياة المسلمين وعلاقاتهم ببعضهم بعضا!
¤ ¤ ¤
حقّ لك أن تفرح بمن اتّصل عن بعد، وسأل من وراء المسافات، أو زارك فواساك، ولكن كيف تبيح لنفسك أن تعتب ولو للحظات على بعض مَن لم يسأل عنك وأنت مريض، وأنت تعلم أنّك كثيرا ما كنت تقصّر في السؤال عن سواك وهو مريض، وتلتمس لنفسك من الأعذار ما قد يكون مقبولا حينا، وغير مقبول في غالب الأحيان؟!
¤ ¤ ¤
يتحدّث أحدنا عن واجباتنا تجاه سوانا، ولطالما وارى الحديثُ نشوةً داخليةً أن يعرّف المتحدّث الآخرين بنفسه وحسن أخلاقه واستقامة سلوكه، وربّما غاب عنّا تطبيق ما نتحدّث عنه في واقع معاملاتنا وممارساتنا اليومية، بل غدا محورُ تفكيرنا وسلوكنا يدور حول السؤال عن واجبات سوانا نحونا وتقصيره في أدائها!
¤ ¤ ¤
ما أشدّ اطمئنان المؤمن عندما يرى الموت مقتربا، ويوم الحساب قاب قوسين أو أدنى، إذا كان له "ولدٌ صالح يدعو له" فلا ينقطع عمله بموته.. فكيف بمن يعلم بوجود شباب وفتيات، يحمل لهم من المحبة في أعماق قلبه مثل ما يحمل الوالدان للأبناء والبنات.. منهم من يعرف مباشرة ومنهم من لم يره قط، هم في عمر أبنائه وبناته، ويعلم أنّهم يدعون له كأبنائه وبناته، وذاك ما يغمره بالسكينة إلى أعمق أعماقه، وينعكس على شفتيه فتردّدان مع كلّ جارحة من جوارحه، ونفس من أنفاسه، حتى يلقى وجه ربه:
يرعاكم الله ويسدّد خطاكم، يرعاكم الله ويسدّد خطاكم، يرعاكم الله ويسدّد خطاكم.. حيثما كنتم وأنّى حللتم.
نبيل شبيب