ذاكرة سياسية – ميدان شعبي في النفاق السياسي

مع يوم انقلاب الانفصال على وحدة مصر وسورية

لا بد من خروج جيل النهوض والمستقبل من أنفاق النفاق السياسي

0 270
٤:٤٥ دقيقة

ليوم الثامن والعشرين من أيلول / سبتمبر مكانة خاصة عند كاتب هذه اللمحات من الذاكرة، وهي هنا من حلقات الذاكرة السياسية. وبالمنظور السياسي التاريخي كان اليوم المذكور من سنة ١٩٦١م يوم تفتيت أول دولة عربية نشأت باسم الجمهورية العربية المتحدة وجمعت مصر وسورية، نشأت بقرار فوقي وبتأييد شعبي كبير، ولكن تفتتت بعد أقل من ثلاثة أعوام من قيامها، إذ وقع انقلاب عسكري من جانب فريق من ضباط الجيش في سورية، ففصلها، ويوصف هذا الحدث بيوم الانفصال، انفصال الإقليم الشمالي، أي سورية عن مصر، أو الإقليم الجنوبي، وتعليل ذلك أن زعامة جمال عبد الناصر الشعبية غرقت في ممارسة الاستبداد؛ ومن المفارقات أنه توفي يوم الثامن والعشرين من أيلول / سبتمبر أيضا ولكن في سنة ١٩٧٠م.

في يوم الانفصال كنت  ناشئا في الرابعة عشرة من العمر، مع بداية تكوين الوعي السياسي، بعد أن كان يوم الوحدة الثنائية عام ١٩٥٨م بداية الشغف بالسياسة. ورغم هذا الشغف، سرعان ما أدركت شيئا عما يقع من مظالم استبدادية وقمع عشوائي، ورغم ذلك لا أنكر الانزعاج من وقوع الانقلاب وسقوط أول دولة جسدت الوحدة العزيزة على النفوس.

كنت يوم الانفصال عند صديق لي، في بيته في حيّ الشُهداء بدمشق، وكان الدارج تسميتُه بفتح الشين وحذف الهمزة، أي الشَهَدا، ووقفنا كلانا في شرفة المنزل، المطلة على الحي، نتابع مظاهرة صغيرة انطلقت تأييدا للانقلاب، وقد رُفع أحد المشاركين فيها على أكتاف آخر، وهو يهتف والجمع يرددون من ورائه: (يسقط.. يسقط عبد الناصر) وما شابه ذلك؛ وقد تجاوزت الساعة الواحدة ظهرا بقليل، وبعد بضع دقائق رأيت شخصا يقترب من قائدها ذاك ويهمس في أذنه شيئا، فنزل من على ظهر زميله وصعد آخر مكانه وخلال لحظات كان المتظاهرون يحولون اتجاه مسيرتهم بمقدار مائة وثمانين درجة، فيمشون في الاتجاه المعاكس في الحي نفسه، وهم يهتفون وراء قائدهم الجديد: ( يعيش.. يعيش عبد الناصر) وما شابه ذلك.

* * *

لم أفهم آنذاك ما حدث، وعلمت لاحقا أنه أعلن في الواحدة ظهرا عن نهاية الانقلاب عبر مفاوضات شملت  إطلاق سراح عبد الحكيم عامر، الرجل الثاني في دولة الوحدة بعد عبد الناصر، ولكن عادت حالة الانقلاب بعد ذلك إلى ما كانت عليه، ولا أدري حتى اليوم هل دارت تلك المظاهرة على عقبيها مجددا وبدلت هتافاتها ضد عبد الناصر!

فاجأني كثيرا كيف كان الأشخاص أنفسهم يهتفون بأمر ونقيضه خلال لحظات، دون أن يشرح أحد لهم ما حدث مما يدور في أروقة السياسة، ولكن تغير قائدهم فتغير هتافهم الحماسي، ويبدو أنهم كانوا لا يفكرون سوى بما سيحصلون عليه من أجر مادي مقابل المشاركة في تلك المظاهرة الشعبية، العفوية كما يقال.

في ذلك اليوم بدأت أعي أنه لا ينبغي في عالم السياسة تصديق ما نشهد أو نسمع أو لنقل ما تنقله الحواس الخمس، إنما ينبغي التساؤل عن حقيقته وماهيته وما وراءه ومن وراءه لنحكم على مجرى الأحداث بشكل أقرب إلى الحقيقة، بما في ذلك ما يجري بمشاركة جماهيرية شعبية، ونحن نعلم أن الشعب لا يكذب، ولكن نعلم أيضا بوجود بعض من يشاركون باسمه في ألوان من النفاق السياسي.

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.