ذاكرة – حبيب زين العابدين رحمه الله
نسأله تعالى أن يعوض عنه بمن يسير على خطاه إيمانا وإخلاصا وعلما وعملا وقيما وأخلاقا وسلوكا
ــــــــــ
كان الأخ الحبيب د. حبيب زين العابدين، ابن مكة المكرمة، و”مهندس” مشاريع التوسعة وتحسين الخدمات من أجل الحجاج والمعتمرين في الشعائر المقدسة فيها وحولها، وهو يرقد في هذه الأثناء في “بقيع الغرقد” في المدينة المنورة، وقد انتقل إلى جوار ربه يوم ٨ / ١٢ / ٢٠٢٠م، تغمده الله برحمته وفضله، وجعل مثواه في الفردوس الأعلى، وألهم ذويه ومحبيه من بعده السكينة والصبر والسلوان.
لقد كان الأخ حبيب متميزا بدماثة أخلاقه، مع تمسكه الشديد بما يراه من الحق، وكان غالبا المبادر للتواصل مع إخوانه، والاطمئنان على أحوالهم، فكان حبيبا لهم، وموضع الثقة لديهم، بل يستشعر جليسه الإخلاص على وجهه وفي حديثه وفي حرصه على عمله. وأشهد أنه كان في المقدمة إقبالا وفي المقدمة حظوةً بين من كانوا دوما على مقربة من أستاذي الجليل عصام العطار، الذي أعرب عن شعوره بالأسى والألم، أنه لم يستطع أن يذكر الأخ حبيب كما ينبغي بالكتابة عنه، وكان هو أول من أعلن في صفحته الشبكية خبر وفاته في الرياض. ولكن القصد بالكتابة هو بعض الاستفاضة في ذكره وذكر مناقبه والعلاقة معه، عبر “الإملاء” على ابنته هادية، رعاها الله، لتكتب هي ما يمليه وتنشره، وفي هذا الوضع عذر لا يخفى على أحد، فقد بلغت وطأة المرض على أبي هادية وأيمن مبلغها، وهو الذي كانت جهوده من أجل العمل الإسلامي عبر المركز الإسلامي في آخن غرب ألمانيا (مسجد بلال) هي التي جمعت بفضل من الله وتوفيق، كثيرا من المسلمين المقيمين في ألمانيا وبلدان أوروبية أخرى، وكان منهم في مطلع سبعينات القرن الميلادي العشرين حبيب الذي درس في مدينة هانوفر الهندسة المدنية، فتخرج منها، ثم انتقل إلى مدينة آخن، فحصل فيها على الدكتوراة من المعهد العالي التقني عام ١٩٧٥م، وكان موضوع رسالة الدكتوراة حول “الخرسانة المعمارية وخواصها”.
ومنذ كان طالبا في هانوفر، لم يعد ينقطع اللقاء به في آخن غالبا وفي كل مكان تنعقد فيه ندوات ولقاءات وأنشطة إسلامية، فقد كان شديد الحرص على المشاركة فيها بما يشمل إعدادها وتقويمها وتطويرها، واستمرت مشاركته بحضورها وأحيانا بإلقاء محاضرة فيها، إلى ما بعد عودته إلى بلده، لا سيما بحضور المؤتمر الثقافي الذي كان ينعقد سنويا بدعوة من جانب المركز الإسلامي في آخن واتحاد الطلبة المسلمين في أوروبا، هذا علاوة على زياراته المتكررة لأحبائه ومحبيه في مدينة آخن وفي ألمانيا عموما.
بعد فترة وجيزة نسبيا من عودته إلى بلده، حمل د. حبيب مسؤوليات متميزة في وزارة شؤون الأشغال العامة، لا سيما في قطاع المختبرات للمنشآت العامة، إلى أن حمل مسؤولية الوكيل الوزاري للشؤون البلدية والقروية، ورئيس الإدارة المركزية للمشروعات التطويرية، هذا إلى جانب التدريس الجامعي زهاء عشرة أعوام. وقد شملت مسؤولياته جلّ ما تابعناه لعدة عقود من مشاريع التوسعة والتطوير وتحسين الخدمات في المسجد الحرام والشعائر المقدسة، مثل الخيام المضادة للحريق في منى، ومنشأة متطورة لإطفاء الحريق فيها وفي عرفات، وإنشاء مدينة الهدي والأضحية في المعيصم، وتطوير بناء منشأة الجمرات، وتوزيع الجسر بين الشمال والجنوب من المشاعر، وتمديد خط السكة الحديدية بينها.
ولم يتردد حبيب في إطار مسؤولياته هذه أن يتحرك في مواجهة الأخطاء وما يمكن اعتباره من الفساد العام ابتداء من مظاهره الأولى، كالتوجه إلى الإعلام بالشكوى من تقصير وزارة المالية في حمل مسؤوليتها في المواعيد المقررة لتمويل مشروع السكة الحديدية، أو كالملاحقة القانونية لمن استورد مواد “حديدية” للبناء لا تتوافر فيها المواصفات المقررة في مشاريع التوسعة، وشملت عينات التفتيش للتأكد من الجودة زهاء ٥٠٠ ألف عينة. ولا يزال بعض ما تقرر من مشاريع التوسعة والتطوير ويُتوقع تنفيذه بعد وفاته رحمه الله، هو مما طرحه من قبل، مثل مشاريع التشجير والزراعة وتحسين الظروف البيئية في المشاعر المقدسة، لا سيما عرفات، حيث يتم تظليل ٣٠ في المائة من مساحتها.
وقد حصل د. حبيب زين العابدين على وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى، وهو من أعلى أوسمة تقدير الخدمات والكفاءات منذ أسس له الملك الراحل فيصل عام ١٩٧١م.
واقترنت جهود حبيب على الأرض بجهود علمية متتابعة، عبر حضور المؤتمرات العلمية والنشر في المجلات التخصصية، وتجاوز عطاؤه على هذا الطريق مائة بحث ودراسة. هذا علاوة على الكتابة الإعلامية، وكان منها مقالة دورية في مجلة “المسلمون” التي كانت تصدر في جدة، وكان منها كتابه بعنوان “ومضات” الصادر عام ١٩٨٠م، ومن تلك الومضات ما نشر – إلى جانب مواضيع أخرى – في مجلة الرائد التي تصدرها الدار الإسلامية للإعلام، ومن ذلك ما نشر تحت عنوان “الانتصار الحقيقي”، في العدد ٩٦ من الرائد الصادر بتاريخ ١٢ / ١٩٨٦م، وجاء في النص:
(أما الهزيمة الحقيقية فتكون عندما نفقد الثقة في أنفسنا ومقدراتنا، وعندما نسلّم بانتصار الأعداء، ونعتقد باستحالة الانتصار عليهم. هذه والله هي الهزيمة الداخلية التي توقع الناس في ظلام دامس واستعباد كبير من قبل أعدائهم إلا إذا غيروا ما بأنفسهم وانتصروا عليها، فيعينهم الله ويعيد لهم الحياة من جديد)
ومن تلك الومضات أيضا ما نشر تحت عنوان “إلى الأقصى”، في العدد ١٠٨ من الرائد الصادر بتاريخ ٤ / ١٩٨٨م، وجاء في النص:
(اجتمعنا في هذا اليوم على طعام الغداء عند أحد الأقرباء وتطرق الحديث إلى الوسائل المجدية التي يمكن للأمة الإسلامية الجريحة أن تستعملها لو أن العدو الصهيوني الغادر الأليم تمادى كعادته في إذلال هذه الأمة بتدنيس مقدساتها، وبمزيد من التقتيل لأبنائها والنهب لأراضيها، والتوسع في بلادها وفرض الأحكام والقوانين التي يريد على الشعب الفلسطيني المسلم المناضل…)
ومن عطائه عبر المؤتمرات محاضرة ألقاها في النادي الثقافي في مكة المكرمة / وصدرت في نشرة تتوافر نسخة منها دون تأريخ، لدى كاتب هذه السطور، وهي بعنوان: (استعمال اللغة العربية في المجالات العلمية والتقنية).
رحم الله الأخ الحبيب حبيب وغفر له، وأنزله منزلا كريما، مع النبيين والشهداء والصالحين، في جنات عدن التي وعد المتقون، ونسأله تعالى أن يعوض عنه بمن يسير على خطاه إيمانا وإخلاصا وعلما وعملا وقيما وأخلاقا وسلوكا.
نبيل شبيب