ذاكرة إسلامية – يمان الطنطاوي رحمها الله
رحم الله الأخت المربية الفقيهة، والأستاذة الجامعية القديرة، د. يمان الطنطاوي
كلمات كتبت ونشرت في ١٨/ ١٠/ ٢٠٠٨م، اليوم التالي لوفاتها رحمها الله
رحمها الله وغفر لها وأسكنها فسيح جنانه وجمعها مع أحبتها ممن سبقوها إلى مرضاة الله تعالى.. رحم الله الأخت المربية الفقيهة، والأستاذة الجامعية القديرة، د. يمان الطنطاوي، ابنة الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، والشقيقة الصغرى للشهيدة بنان زوج أستاذي الجليل عصام العطار.. وكانت وفاة د. يمان الطنطاوي بحادث مروري أثناء عودتها من الطواف حول الكعبة المشرفة إلى جدة ليلة الجمعة، ١٧ شوال ١٤٢٩هـ و١٧ تشرين أول/ أكتوبر ٢٠٠٨م.
وصلني خبر وفاتها فلم أستطع مجرد الاتصال بأحبائي من أقربائها في آخن وفي المملكة العربية السعودية للتعبير عن الحزن العميق في كلمة عزاء.. وما مضى وقت طويل على وداع الفقيدة الشابة هدى عابدين، ابنة أخت الفقيدة يمان، وحفيدة الشهيدة بنان، ويبدو لي وكأنه لم يمض سوى أيام وليس زهاء تسع سنوات على رحيل الشيخ الجليل علي الطنطاوي.. وما غابت تلك الأيام التي عايشناها بقلوب تنزف بالألم يوم اغتيال الشهيدة بنان، أم هادية وأيمن.. رحم الله أحباءكم أيها الأحبة، وغفر الله لهم، وللمؤمنين والمؤمنات من بعدهم، الصادقين والصادقات، على دربهم.
ما أصعب حديث العزاء مع أولئك الأحبة الذين لا يكاد يلتئم جرح مؤلم في قلوبهم وحياتهم إلا ويليه جرح مؤلم آخر، وهم على ما كانوا عليه عاما بعد عام، وفي ابتلاء بعد ابتلاء.. هم على ما وجده فيهم ورآه في حياتهم كل من عرفهم من كثب، مؤمنون، صابرون، محتسبون، عاملون، مجاهدون، فإلى تلك الثلّة المؤمنة أصدق العزاء، وأخلص دعوة، أن يغفر الله لمن فقدتم، وأن يلهمكم ويلهم سائر ذوي الفقيدة الصبر والسلوان، وأن يشفي من أصيب منهم في الحادث المروري الأليم، وأن يرفع من درجاتكم في جنة الخلد، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
. . .
لم يمض يوم واحد على وفاة الأخت الفاضلة د. يمان الطنطاوي رحمها الله، عندما جلست أبحث عن شيء عنها عبر الشبكة العالمية، فوجدت الكثير مما سارع إلى تسجيله ممّن عرفها، فأنقل قليلا من ذلك مما يشير إشارة عابرة إلى بعض ما كانت عليه وما تركته من أثر لدى من عرفها.. وقد شارك في التعزية من خلال المنتديات والمواقع الشبكية كثيرون وتناقلوا خبر الوفاة ومن ذلك:
(انتقلت إلى رحمة الله تعالى الابنة الصغرى للعلّامة الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، الفقيهة الدّاعية: يمان علي الطنطاوي، وهي فقيهة داعية، تدرّس الفقه على المذاهب الأربعة في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، و ذلك إثر حادث سير مؤسف، ليلة الجمعة قبيل الفجر، وهي عائدة من الحرم المكّي بعد زيارته والطواف به. وقد صُلي عليها فجر هذا اليوم الجمعة، ودفنت رحمها الله رحمة واسعة، كما كانت توصي في حياتها من رغبتها بتطبيق واتباع السنّة في كلّ شيء، والتعجيل بدفنها حيث تتوفّى!
رحمها الله وأسكنها الفردوس الأعلى، فقد كانت -رحمها الله- من الداعيات المتميزات، والشخصيات التي قلّ مثيلها في هذا الزمان، وبذلك خسر عالمنا وريثة الشيخ علي الطنطاوي، ابنته الفقيهة الداعية.
وكان من فضل الله تعالى أن توفيت ليلة الجمعة، وكان آخر عهدها بالدنيا زيارة بيت الله الحرام والتعبّد به).
. . .
وكتبت إحدى تلميذاتها تقول:
أستاذتنا الحبيبة، يمان الطنطاوي.. كانت تفرش لنا بساطها الفقهي بعطاء بلا حدود.. أرجو من كل من أحبها.. وسمع باسمها أن نتبرع لها بكل ما يرفعها في عليين.. ولو بدعوة.
. . .
وكتبت أخرى:
تمر الحياة بنا سريعا.. أيام عشناها وسنوات.. غدت طيفا من الذكريات.. كانت فيها بصمة مضيئة.. أنارت لنا الدرب.. وأوقدت العقل والقلب..
كانت علما من أعلام العلم والدعوة بجامعة الملك عبد العزيز خاصة.. وبمجتمع المملكة وخارجها عامة.. نهلنا منها العديد من العلوم الإسلامية والحياتية والمجتمعية.. أحببناها.. غادرت عالمنا فجر اليوم ابنة الشيخ علي الطنطاوي (يمان) رحمهما الله إثر حادث مروري.. دعواتكم لها بالرحمة والمغفرة والفردوس الأعلى.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
. . .
وكتبت ثالثة:
عدت البارحة من عزاء الأستاذة "يمان الطنطاوي".. ابنة الشيخ صاحب أسلوب السهل الممتنع، وصاحب المؤلفات الرائعة، والحضور الرائع في برنامجه الرمضاني القديم (على مائدة رمضان).. الشيخ الذي أحبه الجميع "علي الطنطاوي" رحمهما الله جميعا..
الأستاذة يمان، والتي حملت من اسمها نصيبا جميلا من الخير والبركة، لم يسبق لي أن سجلت معها في أي مادة من موادها التي تدرسها في جامعة الملك عبد العزيز بجدة.. ولكني حضرت لها بضع محاضرات هنا وهناك.. وأسرني الأسلوب "الطنطاوي" المتوارث من والدها الكريم.. وأصبح هذا الاسم بالذات -رغم أن لها أخوات أستاذات في نفس الجامعة يشتركن معها في نفس الأسلوب- يرنّ في نفسي وذهني كلما سمعته.. ليس فقط لهذا السبب، بل لأسباب أخرى سأذكرها بعد قليل..
سن المراهقة، سن صعب ومحير.. وربما لا تكفي الكلمات لأصف كيف كنت أيامها.. ولكن واقعة مميزة لا أستطيع نسيانها أبدا وأذكرها بين الحين والآخر، كانت بداية قصة الإعجاب بهذه الشخصية الرائعة "يمان الطنطاوي". حين جمعتنا صديقة والدتي مع مجموعة من المراهقات (أمثالي) لنقضي يوما جميلا عند إنسانة رائعة، لا أذكر أسمها، ولكن أذكر ابتسامتها وبشاشتها، وترحيبها بنا، ونحن في سن نؤسَر فيه ببضع كلمات طيبات. وكانت ضيفة الشرف حينها الأستاذة "يمان الطنطاوي"، حين جلسنا حولها وتحدثت معنا، حقيقة أنا لا أذكر من كلامها الشيء الكثير، أو لعلي لا أذكره أبدا.. إلا أني أذكر كيف تحدثت معنا بأسلوب بسيط لتدخل لنفوسنا وتخاطبنا وتخاطب عمرنا وتعطينا نصائح حلوة مغلفة كمثل الحلوى التي لا يزيد تغليفها إلا جمالاً.. ثم وزعت علينا هدية بسيطة لتكتمل عندي وتتوج عملية الحب والاحترام لهذه الشخصية الجميلة..
ومرت الأيام.. وأدخل الجامعة، وأصير أسأل عنها وعن مكتبها، وعن محاضراتها.. ولكن لم يتسنّ لي الاجتماع معها في أي مادة وخاصة أني كنت في كلية غير التي كانت هي.. ولكني رأيتها وحضرت لها محاضرات عامة بعد ذلك..
أنا لا أدري كيف كان وقع المصاب على طالباتها.. إن كنت أنا نفسي وجدتها تكذب الخبر ولا تصدقه!!
في العزاء قابلت إحدى طالباتها وهي تقول (غدًا موعد أولى محاضرتي معها..) ولكن الله اختارها بجانبه.. نشاطها لم يقتصر على محاضراتها، حبها للخير زيارات واستضافات دورية من كلية غير كليتها لتأتي وينال غير طالباتها من علمها الوفير، وفقهها في الدين… سمعتُ في العزاء أنها كانت تخطط وتتفق معهم.. عسى الله أن يكتب لها أجر هذا كله..
الموت صعب.. والأصعب عندما يكون لأناس لهم مكانة وثقل بين الناس.. الثغرة حينها التي تصيب أعظم وآلم…
تعود النفس لتتفكر كيف ماتت! في ليلة الجمعة.. وقد كانت عائدة من مكة، وقد طافت في البيت الحرام، وزارت أهلا لها هناك، (وهذا من علامات حسن الخاتمة أن منّ الله، فآخر عهدها من الدنيا عبادة، وأيضا يوم الجمعة)، وفي طريق العودة تأتي سيارة عند المفترق فتصيبها، وفي السيارة ابنتها وزوجها وأختاه.. بالتأكيد كل هذا أسباب وضعها الله تعالى، والأجل قد جاءها حتما لازما سواء كانت في السيارة أو خارجها.. الموت حق.. كلمة قوية، كالصخرة تقع على رؤوس الأحياء.. تُرى فكيف يكون وقعها على الأموات!!!
زوجها ما زال في غيبوبة في المستشفى، وابنتها في العزاء تتحدث وتتحدث عما حدث، والكل حولها يتحلق.. ما زالت الصدمة تشمل الجميع.. أنظر للجميع.. أرى عيونا تبكي، ولا أرى دموعا.. الكل يحاول الصمود.. الكل يحاول أن يلم شتات نفسه، وعدتُ أنا لألُم شتات حزن نفسي.. ولأذكر أحبابا لي ماتوا.. وأذكر الدنيا.. وأذكر إسراعي فيها.. أعمال يجب أن تنجز في وقتها.. اجتماع مهم يجب أن يُرتب له.. مشاريع ما زالت كلاما على ورق.. صلاتي.. ذكري.. أين أنا من كل ما حدث، وما يحدث!!… (والموت أقرب من أحدكم من شراك نعله) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
نبيل شبيب