ذاكرة إسلامية – أم خلاد.. رجاء الهواري رحمها الله
رحيل أم خلاد يترك فراغا كبيرا عند كل من عرفها، ولا نقول إلا ما يرضي الله تعالى، إنّا لله وإنا إليه راجعون، سائلين الله لها المغفرة والرضوان
قبل قليل من هذا اليوم ٢٩/ ٦/ ١٤٢٩هـ و٥/ ٧/ ٢٠٠٨م وصلني خبر وفاة الأخت المؤمنة الفاضلة أم خلاد، رجاء الهواري رحمها، وأحسست برعشة تسري في أعماق النفس مع الأوصال، واختلطت لدي رهبة الموت ومشاعر الحزن باليقين أنّ الأخت التي غادرتنا، إنّما انتقلت بإذن الله إلى دار الرضوان والنعيم، فما أعلم أحدا إلا ويشهد لها أنّها لذلك أهل.
توالت لحظة وصول الخبر إلي صور عديدة متتابعة، من صور الإيمان والعطاء والخير والرضى، عبر بضعة وثلاثين عاما مضت على قدومها إلى هذه الديار، وزواجها بالأخ حسن سويد، الأخ الفاضل العزيز الكريم، فكانا في كل ما عرفناه عنهما من كثب وعن بعد، صورة مجسّدة لأسرة السكينة والمودة والرحمة.
منذ ذلك الحين أخذت أم خلاد مكانة متميزة في نفوس جمع من الأخوات والإخوة، لا يسهل تصوّر غياب أختهم الكريمة عنه، بعد أن ملأت المكان بحيوية نشاطها وأنس معشرها وجود عطائها، حتى في السنوات الأخيرة التي كان المرض يصارعها، ولا تجد فيها ما يشير أنها تصارعه أيضا، لم تستسلم له.. ولكنها بدت وكأنّها لم تعتبره عدوا أصلا، بل هي مرحلة اختبار وابتلاء، يجمّلها الصبر فيحولها إلى باب للمغفرة، فما غاب عن وجهها التفاؤل، ولا خبت شعلة الثقة بخالقها، والرضى بما يرضاه لها.
كان آخر مرة رأيتها فيها يوم الاحتفال بزفاف ابنها، وقد تكلّمت يومذاك في جمع غفير من الأحبة وفدوا من كل مكان، فما أظهرت على نفسها أثرا للإعياء، وإن بدت تغالب آلامها وتكتمها وراء تعابير الفرحة بالمناسبة، وهي التي قال لها الأطباء قبل سنوات عديدة إنها قد لا تكمل عامها ذاك، فأكملته وأكملت ما بعده، دون أن يطرأ على مجرى حياتها تبديل.. إلا في حدود ما كان المرض يجبر عليه والعلاج يتطلبه. وقد تجدها وهي تتحرك بصعوبة، تقوم بزيارة بعض المعارف، أو المشاركة في بعض المناسبات، إحساسا منها أنّ عليها واجبا تؤدّيه، وهي الصفة التي لازمتها طوال معرفتنا بها، وكانت أخواتها يغبطنها على ما يجدنه عندها إذا أردن مواساتها في فراش المرض، عندما أصبحت مضطرة إلى البقاء فيه أياما متوالية، ويتحدّثن عن أنهنّ لا يسمعن منها شكوى ولا يلاحظن ضيقا، وما فارقتها قوّة إيمانها، لتجعل من الألم الشديد قربى لها عند الله عز وجل سائلة مغفرته.
. . .
رحلت أم خلاد التي كانت تشارك في الأنشطة الإسلامية في آخن بألمانيا وخارجها حيثما استطاعت، ولم يكن أحد يحتاج إلى سماع كلامها ليعرف ما تريد، فقد كانت تعمل أضعاف ما تقول بضرورة عمله، وتتحرك في العطاء المتواصل قبل أن يطلب منها العطاء، ولا أعلم عن أحد ذكرها في مناسبة من المناسبات، إلا وذكرها بخير.
وكان همّها الأكبر فيما شاركت فيه من أنشطة -من بينها تدريس الأطفال- أن ينشأ ذلك الجيل الذي تحدّثت عنه يوم زفاف ابنها، حديثا مستفيضا يبدو لي في هذه اللحظات وكأنّه كان الوصية لبناتها وأبنائها، وما أكثرهم في آخن وخارج آخن، ولأخواتها اللواتي سرن معها على طريق الإسلام الذي جمعهنّ في ديار الغربة، ولقد أعطتهنّ نموذجا حيا من خلال الأسرة التي كوّنتها في مدينة آخن، فلجميع أفرادها مكانه في الحياة الإسلامية حولها، وكأنّها نسخة عن الأسرة الإسلامية الملتزمة الكريمة، التي نشأت أم خلاد نفسها نشأتها الأولى فيها، والتي عرفنا بعض أفرادها، ولكل منهم أيضا مكانه في الحياة الإسلامية، وله أسرته التي عمل على أن تكون إسلامية ملتزمة.
رحيل أم خلاد يترك فراغا كبيرا عند كل من عرفها، فالعزاء لأسرتها، ولجميع ذويها، لآل الهواري وآل السويد، ولأهل آخن، ولنا جميعا، ولا نقول إلا ما يرضي الله تعالى، إنّا لله وإنا إليه راجعون، سائلين لها المغفرة والرضوان.
نبيل شبيب