د. بشير موسى نافع – في ذكرى الوحدة المصرية السورية

أخطاء دولة الوحدة لم تكن لتبرر الانفصال

لم تكن الوحدة حدثاً متعجلاً بل جاءت الوحدة المصرية-السورية نتاجاً لسياق طويل من الحركة العربية

0 368

كتب أستاذ التاريخ والدراسات الإسلامية، د بشير موسى نافع، يوم ٢٢ / ٢ / ٢٠٠٨م في جريدة العرب القطرية يقول:

يصادف هذا الأسبوع الذكرى الخمسين للوحدة المصرية-السورية، إحدى أبرز المحطات في تاريخ الحركة القومية العربية. نصف قرن مرّ على حدث الوحدة الذي ألهب عواطف وآمال جيل بأكمله من العرب، الحدث الذي انتهى سريعاً وفي شكل وأسلوب أصابا العرب جميعاً بقدر أكبر من خيبة الأمل والإحباط. ولكن لا إخفاق دولة الوحدة، ولا مرور السنين على انطلاقة الحركة العربية، لا التجذر المستمر للدولة القُطرية، ولا عودة الاستعمار المباشر إلى المجال العربي، ولا تزايد العقبات في طريق التضامن بين الدول العربية، أطاح طموحات الوحدة لدى العرب.

لم تكن الوحدة حدثاً متعجلاً كما قيل بعد ذلك لتفسير الانفصال، الحقيقة أن الوحدة المصرية-السورية جاءت نتاجاً لسياق طويل من الحركة العربية نحو الوحدة، بدأت منذ نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، وكان لدمشق والقاهرة فيها دور بالغ الخصوصية. وُلدت الفكرة العربية أولاً كحركة ثقافية في أوساط العلماء الإصلاحيين الإسلاميين العرب وتلاميذهم، الذين وُصفوا أحياناً باسم “السلفيين الجدد”، كما في أوساط مسيحية شامية ساهمت مساهمة بارزة في الإحياء العربي اللغوي الحديث. وكانت سوريا -بمعناها الكبير- ومصر مهْد التيارين ومحلَّيْ تجليهما الأبلغ.

منذ انقلاب جمعية الاتحاد والترقي على السلطان عبد الحميد في ١٩٠٨–١٩٠٩، أخذت العروبة الثقافية في التحول إلى حركة سياسية، عبرت عن نفسها بعدد من الجمعيات السرية والعلنية التي تأسست في دمشق وإسطنبول والقاهرة. نادى أغلب هذه الجمعيات بحقوق متساوية للعرب داخل نطاق الرابطة العثمانية، أو بدرجة من الحكم غير المركزي، وذلك في وقت أخذت النزعة التركية في السيطرة على أوساط الحكم الجديد في العاصمة العثمانية، ولأن الحركة العربية في طورها السياسي كانت حركة رد فعل على الأزمة العثمانية في عهد الدولة الأخير، ولأن مصر والمغرب العربي كانا آنذاك فعلياً خارج النطاق العثماني، لم يبرزا ضمن المطالب العربية، ولم يشكِّلا جزءاً من خيال الجماعة العربية السياسية. خلال سنوات الحرب الأولى، أطلقت الحركة العربية محاولتها الأولى لتحقيق الاستقلال، وبناء دولة عربية واحدة في المشرق، لكن القوة العربية الحاملة للمشروع كانت أضعف من مواجهة التحالف البريطاني-الفرنسي الذي قسّم الولايات العربية العثمانية السابقة إلى دول حديثة خاضعة لسيطرة فرنسية وبريطانية مباشرة.

بيد أن من الضروري ملاحظة إنجازين كبيرين للحركة العربية في تلك الحقبة الحرجة، فمن ناحية، وُحِّد معظم الجزيرة العربية ضمن دولة واحدة، ومن ناحية أخرى، عُزِّز موقع الفكرة العربية في العراق، وما إن وضعت الحرب نهاية للسلطنة العثمانية حتى برزت مصر باعتبارها المركز البديل لإسطنبول، بكل ما يحمله المركز من معنى. شعور مصر بذاتها كقوة قائدة، وتحولها إلى حاضنة لعدد كبير من النشطين وأهل الفكر العروبيين، ولعدد من الدوريات والجمعيات والهيئات ذات التوجه العروبي، والصلات الوثيقة والمتزايدة بين العروبيين المشرقيين وقيادات مصر الفكرية والسياسية، سرعان ما دفع مصر (غير الرسمية) إلى اعتناق الفكرة العربية. وما شهدته مصر، كان يأخذ طريقه إلى كافة بلدان المغرب العربي. أصبحت القاهرة قاعدة هامة لمساندة الثورتين السورية والفلسطينية، لمساندة نضالات المغاربة، من طرابلس إلى مراكش، من أجل الحرية، وإلى مقر للقاءات عربية جامعة، ولعل أول لقاء سياسي عربي رسمي كان ذلك الذي دعا إليه رئيس الوزراء المصري محمد محمود باشا في العام ١٩٣٨ لتنسيق جهود ومواقف الدول العربية قبل الالتحاق بمؤتمر لندن الخاص بالقضية الفلسطينية.

منذ مطلع الثلاثينيات وقادة العراق يطلقون مشروعاً للوحدة العربية تلو الآخر، بعد أن أصبح العراق قاعدة رئيسة للحركة العربية، ولكن المساعي العراقية أخفقت على صخرة معارضة الحلفاء البريطانيين وخشيتهم (وفرنسا بالطبع) من اجتياح مشروع الوحدة العربية للنفوذ الإمبريالي الأجنبي، وليس حتى سنوات الحرب الثانية الحرجة أن عملت بريطانيا على امتصاص الغضب العربي المتصاعد ضد سياساتها ووجودها في المنطقة بأن أبدت نصف تأييد لفكرة الجامعة العربية، وقد نجم عن مشروع الجامعة العربية نتيجتان جوهريتان: الأولى، كانت تفريغ المشروع من جوهره الوحدوي، ليتحول إلى منتدى للتنسيق بين دول ينص ميثاق الجامعة على الحفاظ على سيادتها واستقلالها، والثانية، كانت تسلُّم مصر قيادة المشروع من نوري سعيد، وتزعُّمها، للمرة الأولى على مستوى رسمي لفكرة أن العرب أمة واحدة.

كان وقوف الملك وحكومة النحاس باشا خلف مشروع الجامعة العربية مؤشراً نهائياً وقاطعاً على أن الجدل الذي شهدته مصر بعد انهيار الرابطة العثمانية حول مسألة الهوية قد حسم لصالح العروبة، ولم يكن غريباً بالتالي أن تصبح القاهرة المركز الرئيس للتحضيرات العربية للتعامل مع المشكلة الفلسطينية في نهاية ١٩٤٧ و١٩٤٨، وأن يكون الملك المصري مَنْ اتخذ قرار عبور الجيش المصري للحدود المصرية-الفلسطينية مباشرة بعد نهاية الانسحاب البريطاني في منتصف مايو (وليس عبد الناصر أو السادات). ولعل في هذا إجابة عن الجدل الدائر اليوم حول التزامات مصر العربية، إذ حتى في عهد سيطرة بريطانيا على جزء من القرار المصري، وتواجد قواتها في قواعد على الأرض المصرية، وتربع على رأس الدولة ملك لم يكن بالضرورة جديراً بحكم مصر، كانت ثوابت مصر وشروط وجودها الاستراتيجية واضحة لرجال الحكم والدولة. منذ ولدت الدولة العبرية أصبح واضحاً في القاهرة أنها تواجه تهديداً هائلاً على حدودها الشرقية، ليس فقط لما أظهرته الدولة العبرية من نزعة عدوانية وتوسعية، ولكن أيضاً لأن طريق مصر إلى الشرق قد أغلقت، وليس ثمة شك أن عبدالناصر رأى في مشروع الوحدة مع سوريا إجابة -ولو جزئية- على العقبة والتهديد الاستراتيجيين اللذين مثلتهما الدولة العبرية.

لم تكن الوحدة المصرية-السورية تطوراً مرحباً به في العواصم الغربية الرئيسة وفي عدد من الدول العربية، وكما وقعت مصر الجمهورية، في عصورها الثلاثة، أسيرة رؤية سلطوية بالغة للحكم، كذلك كانت السمة الغالبة لإدارة دولة الوحدة في سوريا. أخطاء دولة الوحدة لم تكن لتبرر الانفصال، وبدون التدخلات الخارجية لم يكن يجب للانفصال أن يقع. خلال العقود التالية، دهمت المنطقة العربية سلسلة من الأحداث العاصفة، من أربعة حروب عربية-إسرائيلية، عملية سلام مزقت الموقف العربي الرسمي من القضية الفلسطينية، حرب عربية–عربية مدمرة، تحولات اقتصادية كبرى ذات أثر سياسي واسع وعميق، إلى عودة القواعد العسكرية الغربية إلى الأرض العربية، ولكن حلم الوحدة لم يختف، الجامعة العربية لا تزال باقية تعمل، عدد من التجمعات العربية الإقليمية يحرز إنجازات متفاوتة من التوحيد وكسر الجدر الفاصلة، ووحدة بين شطري اليمن، ولكن الأهم من ذلك كله أن المئات الثلاثة من ملايين العرب لم يشعروا بوجودهم كأمة كما يشعرون اليوم، وأكثريتهم تشاهد نشرة أخبار واحدة، وتقرأ الصحف نفسها، وتزور مواقع الإنترنت نفسها، ومثقفوهم يناقشون الكتب نفسها وتوحد وعيهم الجمعي القضايا الفكرية نفسها، وعلى نحو من الأنحاء، ربما، يعاني أغلب العرب من ضيق أفق الدولة القُطرية نفسها، كذلك.

بشير موسى نافع