العزوف عن القراءة

القراءة سلوك مكتسب

خواطر – ينبغي تعويد الأطفال على القراءة مبكرا وينبغي دفع الأقلام إلى مستويات تتجاوب مع القراء وطموحاتهم

113
القراءة والأطفال

خواطر

يكتب كثيرون ويتحدثون حول عزوف ناشئتنا وشبابنا عن القراءة، ويمعنون بتوجيه اللوم لهم؛ فهم في نظر اللائمين يعبثون ولا يقرؤون، ويقبلون على أسباب التسلية واللهو ولا يقبلون على أسباب العلم والمعرفة، ثم إن قرؤوا إنما يقرؤون ما يروق لهم من نصوص مختزلة قصيرة، لا تكفي لتحصيل ثقافة متوازنة.

 

حدود الإشكالية

مشكلة العزوف عن القراءة قائمة ولكنها ليست عويصة في الأصل، بل يغيب عن أذهاننا أن الإقبال على القراءة من السلوكيات المكتسبة وليست صفة ولادية، وتعني كلمة مكتسبة هنا، أنها تتحقق بمقدار الجهد المبذول لاكتسابها، وتضمر بمقدار الامتناع عن بذله، فكما يحتاج الطفل إلى التدريب على المشي، وتناول الطعام والشراب، وارتداء الملابس، إلى أن يتقن ذلك شيئا فشيئا فيصبح جزءا مما يعتاده في حياته اليومية، كذلك يحتاج إلى التدريب على القراءة حتى يتقنها وتصبح جزءا مما يعتاده في حياته اليومية.

إن المعالجة المتأخرة بتوجيه اللوم للشبيبة معالجة عقيمة، ولا يعني هذا تجاهل قسطهم من المسؤولية الذاتية، إنما المطلوب أن ندرك جميعا أن مواجهة ظاهرة العزوف تتطلب جهودا متكاملة، منطلقها الأول هو تعويد الطفل على القراءة من نعومة أظفاره بحيث يتفتُّح ذهنه على الحياة من حوله.

وإذا كانت هذه من مهمات الآباء والأمهات والأجداد والجدات في البيوت، لأنهم الأقدر على الشروع في النهوض بها، والأولى بذلك، فلا يصح الاعتقاد بأنها مهمتهم وحدهم، وهي مهمة كبيرة فالظاهرة حالكة السواد، بحكم سواد آفاق المستقبل الذي تنذر به إن بقينا مكتوفي الأيدي وهي تتفاقم وتفعل فعلها في واقع المجتمع.

في التعامل السليم مع مرحلة الطفولة ما يحقق الوقاية من الظاهرة المرضية قبل استفحالها، أما علاج ما ظهر منها واستفحل فيتطلب الكثير، ويكفي هنا التنويه بضرورة التساؤل عن فحوى ما يقدمه أصحاب الأقلام إلى جيل الناشئة والشبيبة، فجوهر المشكلة كامن في قلم الكاتب وليس في عين القارئ، ومن ذلك ما يسببه القصور عن تقديم المفيد في قالب يثير الرغبة في الإقبال عليه، وتجنب الغث المثير ونشره وإن كان فارغا ثقافيا، هذا علاوة على أن المشكلة الأكبر هي أجواء القهر الفكري والثقافي، الذي يسبب التقوقع الفكري في إطار اتجاه ما، بينما المرجو ثقافيا وفكريا لشبابنا وفتياتنا، ولنا جميعا صغارا وكبارا، هو التعرف على كافة التصورات، والانفتاح على مختلف الأفكار، ولكن مع تنمية المعايير الذاتية للتقويم، فهي عماد الشخصية المستقلة، القادرة على القبول والرفض وفق الاقتناعات الذاتية، وذاك جوهر الحرية.

مقولات ضبابية عن ظاهرة خطيرة

من الأخطاء الجسيمة التسليم لمقولة شائعة تزعم أن المجتمع المتقدم يؤمن أسباب الإقبال على القراءة بمعناها الشامل المذكور وأن المجتمع المتخلف يسدّ الأبواب دونها؛ فبهذه المقولة -إلى جانب أننا ننسب مجتمعاتنا بحق إلى أوضاع التخلف- كأننا نقول لأنفسنا: هذه مشكلة مزمنة لا حل لها، فسنبقى متخلفين على الدوام! وهذا تصوّر لا يجوز التسليم به بأي حال!

إن كان الفارق المذكور بين معطيات متوافرة في المجتمعات المتقدمة دون المتخلفة صحيحا فهو يمثل عاملا من العوامل فقط، والأهم بالنسبة إلينا وانطلاقا من واقعنا هو الانتباه إلى الوجه الآخر من الميدالية، وهو أن الاستفادة من المعطيات الأولية المتوافرة في كل مجتمع متخلّف، وإن كانت قليلة، تؤدّي إلى تقدمه، وأن عدم الاستفادة منها تؤدي إلى ازدياده تخلفا.

ولكن هل لدينا في المجتمعات المتخلفة معطيات يمكن الانطلاق منها أصلا للخروج من ظاهرة العزوف عن القراءة بمعنى الكلمة الشامل؟

نعود للتأمل في نقطة الانطلاق في هذه الظاهرة وسنجد معطيات أساسية مرتبطة بها، وهي متوافرة عند كل إنسان فرد وفي كل مجتمع عموما، وتمكّن من مواجهة المشكلة وحلها، ويبقى ما سواها من قبيل “العوامل الإضافية المساعدة”، وكثير منها قابل لإيجاده إن لم يكن موجودا من الأصل.

 

مكافحة العزوف عن القراءة

بشيء من التبسيط كيلا نطيل بالاسترسال يمكن تحديد مرتكزات الإقبال على القراءة بالمعنى الشامل المشار إليه في ثلاثة عناوين: (١) حب الاستطلاع دافعا، و(٢) استخدام العقل أداة، و(٣) تحسين البيئة وعاءً وميدانا.

ونلاحظ أن المرتكزين الأول والثاني متوافران أصلا، فلا ينبغي أن نقضي عليهما بأنفسنا، وأن الجهد الإضافي المطلوب مطلوب في نطاق المرتكز الثالث في الدرجة الأولى.

أما البيئة المقصودة كوعاء وميدان للقراءة -بمعنى طلب العلم والمعرفة عموما- فهي (١) تلك التي تحيط بالطفل والناشئ أولا، وهنا يحمل المسؤولية عنها الأقربون إليه، ثم هي (٢) البيئة التي تحيط بالإنسان في مرحلة الشبيبة وما بعدها، وهنا يصبح الشاب الفرد نفسه شريكا في حمل المسؤولية مع الأقربين، ومع المجتمع من حوله.

إن المسؤولية في التعامل مع العناصر الثلاثة المذكورة ليست كلمة ضبابية المعنى، هلامية المضمون، بل لعل كثرة التعميم في الحديث عن مسؤولياتنا مع الميل إلى أسلوب تدافع المسؤولية بدلا من استشعارها والشروع المباشر في النهوض بالقسط الواقع منها على المتكلم عنها، هو أحد الأسباب الرئيسية من وراء القصور عن القيام بما تقتضيه مسؤولياتنا في مواجهة مختلف المظاهر والظواهر السلبية في حياتنا، ومن بينها ما انتشر وصفه بظاهرة العزوف عن القراءة.

لا يوجد ما يعفي الحكومات من مسؤوليتها الشامل -عدا المناهج المدرسية- لكافة المناهج الأخرى لتحصيل المعلومة وتنمية الفكر وتطوير الموهبة، ولا يوجد ما يستدعي الكف عن مطالبة الحكومات -بمختلف السبل والوسائل وفي مختلف الأوقات- أن تؤدي مسؤولياتها حق الأداء.

إنما لا يلغي ذلك مسؤوليةَ العاملين والناشطين في الجماعات والأحزاب والروابط والمواقع الشبكية والمعاهد ورياض الأطفال والمدارس ووسائل الإعلام وغيرها من المؤسسات والأجهزة، أن يبتكروا -رغم مختلف الظروف المعيقة القائمة- صيغا مدروسة عملية، تتناسب مع إمكاناتهم الفعلية من جهة، وتتلاءم من جهة أخرى (١) مع ضرورة التعويض عن النقص الكبير الذي تحمل الحكومات المسؤولية الأولى عنه، وكذلك (٢) التعويض عما لم تصنعه تلك الجهات غير الحكومية من قبل، رغم أنه يقع في نطاق مسؤولياتها المباشرة، من أنشطة وفعاليات متواصلة ومتكاملة مع بعضها بعضا، ليكون هدف التعويد على القراءة -بمعناها الواسع المذكور- (١) هدفا خاصا بكل جهة على حدة، له مكانة متقدمة في برامج عملها في أي وقت وأي ميدان، و(٢) هدفا مشتركا للتعاون فيما يمكن التعاون فيه.

وستبقى من قبل ذلك ومن بعده مسؤولية الأقربين من عامة الأفراد مسؤولية كبيرة، وهم آباء وأمهات، وأجداد وجدات، وإخوة وأخوات أكبر سنا، تجاه الأطفال في نشأتهم الأولى، وتجاه الناشئة في سنوات وعيهم الأولى على الحياة من حولهم، ولا يمكن أن يعوض النقص هنا أيُّ جهد آخر خارج نطاق الأسرة، كما أن أداء هذه المسؤولية لا يحقق هدف “التعويد على القراءة فحسب، بل يشمل في الوقت نفسه -وهذا أمر بالغ الأهمية- تنشئة جيل قادم، يعي أبعاد المشكلة عمليا، فيتعامل معها ومع أمثالها على نحو آخر، عندما يصل إلى مواضع المسؤولية عن عمل اجتماعي وسياسي وثقافي أوسع نطاقا، في مكونات المجتمع الأهلي ومكوّنات الدولة، فيتبع أساليب أخرى غير أساليب الجيل الذي سبقه وأوجد مثل هذه المشكلات، كما يستشعر حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه على طريق النهوض والتقدم، استشعارا أكبر مما يصنع جيلنا الآن، ربما متأخرا، وربما بأسلوب لا يحل المشكلة إذا ما استمر الحديث الوافر عنها، والامتناع غالبا عن سلوك سبل عملية في مواجهتها.

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب