خواطر – الذكاء الاصطناعي منحاز أيضا؟
تطبيقات حديثة غير حيادية
قررت الاستعانة ببرنامج يستخدم الذكاء الاصطناعي وجاءت المناسبة مع أحداث النيجر ٢٠٢٣م
لا يزال من المبكر طرح قول جازم بشأن الذكاء الاصطناعي، وقد ننزلق إلى الوقوع في أحكام مسبقة، ولكن اسمحوا لي في البداية بذكر جانب شخصي يتضمن ما دفعني إلى تسجيل بعض الخواطر عن الذكاء الاصطناعي، وتعاملنا معه بوضعه الراهن.
لقد اشتغلت في عدد من وسائل الإعلام التقليدية لعدة عقود، وتابعت ذلك في بعض المواقع الإعلامية الشبكية وعبر موقعي الشخصي منذ ١٩٩٨م، كما تابعت المستجدات في عالم الإعلام حتى اليوم. وحدثني بعض من أعرف حديث المتحمس لظهور تقنية الذكاء الاصطناعي وأنه سيصنع ثورة جديدة في الإعلام وسواه من عوالم التواصل، بل سيغير مجرى حياتنا على كوكب الأرض، ومن يدري ربما خارج نطاقها مستقبلا. ووضع لي محدّثي الشاب برنامجا في حاسوبي المحمول يستخدم الذكاء الاصطناعي بلغات عديدة، منها العربية، ويجيب الأسئلة باستفاضة أو بإيجاز، حسب الطلب، كما يحسّن صياغة ما قد أكتبه في مقالة وفي جمع المعلومات وربطها ببعضها بصياغة مناسبة، وغير ذلك من فنون الكتابة مما يعرفه أصحاب الأقلام.
سألته ماذا عن مكانة القيم والمبادئ فيما يصنع، قال هذا مرتبط بمن يستخدمه؛ وأقول بصراحة إنني شككت في ذلك، وأميل إلى أن هذا مرتبط حتى الآن بمن يصنع آليات استخدامه وليس من يستخدمها.
قررت تجربة البرنامج وجاءت المناسبة مع أحداث النيجر ٢٠٢٣م، ومخاطر نشوب حرب كبيرة بعد الانقلاب العسكري ضد الهيمنة الاستغلالية الفرنسية ومن ورائها الغربية؛ فبادرت أولا إلى جمع المعلومات الأقرب إلى ترجيح صحتها، لذكرها في الخلفيات لمقالة رأي، واستخدمت الطرق التقليدية، فكانت معلومات تشهد بالاستغلال الفرنسي الخانق للنيجر ودول إفريقية أخرى، في الفترة الاستعمارية، ثم بعد “الاستقلال”، ومن ذلك استغلال اليورانيوم والذهب والغاز لصالح فرنسا والغرب، وبقاء أهل النيجر وبلدان أخرى تحت خط الفقر، وتشهد على ذلك الأرقام والتواريخ من مصادر موثوقة ومعتمدة، واعتبرت هذا في نهاية المطاف هو سبب التهديد بتدخل عسكري، إفريقي التنفيذ، فرنسي الهندسة، غربي الهدف.
ويبقى تعليل ذلك بمتطلبات الشرعية وضرورة العودة إلى الديمقراطية مجرد ذريعة؛ وصحيح أن الانقلابات مرفوضة ولكن هل كان الوضع السياسي من قبل مشروعا؟ أما كانت الانتخابات مفصلة على مقاس الهيمنة تحت عنوان مصالح فرنسية؟
طلبت من برنامج الذكاء الاصطناعي أن يكتب لي مقالة حول العلاقة بين فرنسا وإفريقية عموما والنيجر تخصيصا؛ وجاء الجواب في أربع فقرات تتحدث بأسلوب تعميمي عن علاقة استعمارية ثم علاقات غير متوازنة.
طلبت تعديل المقالة وإضافة معلومات وتواريخ محددة لبيان ما يعنيه افتقاد التوازن في العلاقات.
جاء الجواب بذكر رقمين اثنين لا يحددان المطلوب وسط عبارات تعميمية تبرر الخلل ثم جاء التنويه باحتمال تحقيق الأفضل مستقبلا.
خيل إلى أنني لا أتحدث مع آلة حيادية بل مع مسؤول فرنسي يريد أن يحيط الموضوع بالضباب لمنع الرؤية الواضحة للواقع الاستغلالي كما هو. ومرة ثالثة طلبت أرقاما تحدد الخلل وحجمه وتوثق المعلومات المعنية، بلا جدوى.
هل هذا الذكاء الاصطناعي أم هو انحياز مصبوب في قالب ذكي؟ وتساءلت بيني وبين نفسي ماذا لو سألت عن نزاع السودان بين طرفين عسكريين، هل سينحاز الجواب إلى أحدهما ما لم يكن مرتبطا بجهة أجنبية غربية؟
ليس المقصود عدم استخدام الذكاء الاصطناعي، ففيه الفائدة المرتبطة بوعي من يطلبها، وفيه سوى ذلك مما يثير السؤال: كيف يتحقق الانحياز من جانب أداة؟
لا أعتقد أنها منحازة أما الذكاء فهو ما يتصف به صانعوها. وهؤلاء يتأثرون بمفعول انتماءاتهم إلى جهات يهمها أن ينتشر ما تراه من رؤى سياسية وفكرية واجتماعية وأن تسود تلك الرؤى عالميا، ومهما كانت الأداة معقدة تقنيا فهي تنفذ ما يراه صانعها في نهاية المطاف، ربما بأسلوب أذكى من أدوات أخرى سبق استخدامها.
ورجعت إلى المعلومات التي جمعتها بأسلوب تقليدي وكتبت مقالة الرأي كما أصنع من قبل دون استعانة بذكاء اصطناعي.
٠ ٠ ٠
الواقع أنني لم أكتشف شيئا جديدا ولا أحسب أنني أكشف لكم شيئا لم ترجحوه من قبل؛ الأدوات تخضع في صنعها وعطائها لمفعول تمويل من يصنعونها وإدارتهم.
ولكن هل يعني ذلك سد المنافذ أمام أنفسنا وأمام تغيير واجب؟
ليس الأمر بسيطا ولكن ليس مستحيل المنال إذا توفر شرطان، الأول هو العلم بالتقنيات المعنية وكيفية إدارتها، والثاني هو الإقدام على مشاريع ضخمة لصنع الأدوات الحديثة وهذا ما يتطلب استثمارات هائلة.
إن العلم والإدارة يحتاجان إلى جهود كبيرة ومثابرة راسخة، أما الاستثمار فيحتاج إلى ضمير يتحرك، ذلك أن أصحاب المال في بلادنا وعالمنا كثيرون ولديهم ما يكفي لمشاريع ضخمة، إنما ما يزال فريق أقرب في الأصل إلى الطرف المسلوبة حقوقه وحرياته، ولكن يفضل خدمة الطرف الآخر على حساب الإنسان، جنس الإنسان.
وأستودعكم الله وأستودعه مصير الأجيال المقبلة من البشرية ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب