خاطرة – وأقبل العيد من جديد
نرى من وراء الظلمات المتراكمة نورا، وفي قلب اليأس والتيئيس أملا، وفي قاع المنحدر الذي وصلنا إليه مرتقى إلى العلياء من جديد
أقبل العيد من جديد وانقضى شهر الصيام الفضيل، فكم منّا من كان صائما حقا، ومن اكتفى بالصيام، وكم من المسلمين صائمون في رمضان وسائر شهور العام، ولعلّهم يقرؤون أو يسمعون قوله تعالى {وأنّ هذه أمّتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاتقون}
. . .
انقضى شهر تجديد الإيمان، فكم منّا من يدرك أنّ ارتباطه بالله العزيز القاهر، الرزّاق ذي الطّول ربّ العرش العظيم، يغنيه عن كل ارتباط بأيّ مخلوق، بأيّ قوّة من قوى الأرض، وإن شاء ينصره – على قدر صدقه وعزمه وعمله – على كلّ طاغوت من الطواغيت الصغار، والكبار.. أو من يحسبون أنفسهم كبارا، وهم على درب فرعون وقارون وهامان وعاد وأمثالهم، وقد كانوا مثلهم ترابا، وسيُهال عليهم مثلهم التراب.
انقضى شهر الجهاد.. والفتوحات والانتصارات من يوم بدر إلى يوم عين جالوت، فهل ندرك هول الجريمة التي تُرتكب بحق أمّتنا وحقّ البشرية على السواء، وقد عايشنا ونعايش ما يُبذل من مساع وجهود للتخلّي عن الجهاد كما شرّعه الله، أو الانحراف بحقيقته عن شرع الله، مع الحيلولة دون التربية عليه وفق مفهومه القويم الشامل، في وجه كلّ معتد أثيم، ولنصرة كلّ مظلوم من جنس الإنسان، كرّمه ربّ العالمين على سائر مخلوقاته.
انقضى شهر التربية والإعداد على الصبر والعطاء والتعاون والتكافل، ونحن في مقاعد المتفرّجين، على ما يجري لحرمان بلادنا وأهلينا من أبسط أسباب الإعداد لوسائل القوّة، المفروضة لإرهاب عدوّ فاجر، في عصر لا ينقطع فيه تسلّح الأعداء واحتكارهم لأفتك أنواع الأسلحة، ولا ينقطعون عن استخدامها ضد الشعوب مع حرمانها من أي سلاح رادع، عسكري كان أو في أي ميدان من ميادين القوة، علما ومعرفة، وتعاونا وتكتّلا، وعزيمة وإرادة.
. . .
أقبل العيد من جديد.. اقبل على أطفالنا وهم مستعمَرون ومشرّدون، ومعتقلون ومحاصرون، ومقاوِمون ومقيّدون، وفي أرضهم وحقولهم ودورهم محرومون من أبسط الاحتياجات المعيشية، ومن عون إخوتهم وأخواتهم في أنحاء الأرض المحجوزين عنهم بكلّ ما تفتّق عنه الإجرام الحديث من وسائل وأساليب، لممارسة الإبادة بالقتل البطيء، ولمنع كلمة المواساة فضلا عن تقديم الغوث والدعم.. وهم لا يعلمون بوجود عيد حقيقي، لا تُدمي أيّامَه ألوان القهر والمعاناة، والعنف العدواني والإجرام، والتشريد في الكهوف والخيام، وافتقاد ما تعنيه كلمة "أمّة الإسلام" أو تعنيه كلمة "الأسرة البشرية" في الأعياد.. وفي سائر الأيام.
. . .
أقبل العيد.. فهل نرى بصيص أمل يبيح لنا الدعاء لبعضنا بعضا أن يتقبّل الله صالح العمل، وأن يكتب فيه الخير لعباده؟
إنّنا لنرى من وراء الظلمات المتراكمة نورا، وفي قلب اليأس والتيئيس أملا، وفي قاع المنحدر الذي وصلنا إليه مرتقى إلى العلياء من جديد.
إنّنا لنرى الأمل الجليل الكبير في عيون إخوة وأخوات في أعمار الزهور المتفتّحة في أنحاء الأرض، يشعّ الإيمان من قلوبهم، وينعكس بالدعاء على ألسنتهم، وعبر الالتزام في خلقهم وسيرتهم، ويجدّد العزم في قلوبهم وسواعدهم، وطلب العلم والمعرفة والوعي وسلوك درب العمل والعطاء والإنجاز، والتلاقي من وراء الحواجز والقيود والحدود على طريق النهوض بالأمّة من جديد.
هؤلاء.. هم الذين يؤكّدون حيثما ظهرت جموعهم في الأرض الإسلامية وخارج حدودها، كاشفين الظلمات المتراكمة فوق بعضها بعضا، أنّ هذه الأمّة قد دبّت فيها الحياة مجدّدا، وأنّ جيل المستقبل آخذ بأيديها لتستعيد مكانتها الجديرة بها في حياة البشرية، وهؤلاء.. هم الجديرون بتحيّة العيد ودعاء العيد وأمل الأمّة ببلوغ أهدافها الجليلة.
هؤلاء هم القادرون بعون الله أن يصنعوا لبلادهم وأمّتهم أعيادا قادمة، لا نستحيي فيها من قولنا "كلّ عام وأنتم بخير"، ففيهم تتوقّد شعلة الإيمان، وبهم تُستعاد الإرادة والأوطان، ومن خلالهم نعيش مجدّدا عزّة الإسلام ونستعيد كرامة الإنسان.. فقد فتحوا أبواب النهوض، وسيمضون فيه بإذن الله علما وعملا، بناء وإنجازا، إعدادا وجهادا، تعاونا وتكافلا، تحرّرا ووحدة، رقيّا وتقدّما.
إنّ أمّة الإسلام بخير رغم الآلام والعقبات والانحرافات ما دام يولد فيها أمل جديد بجيل يجسّد ارتباطها بدينها، عقيدة لا تتزعزع، ومنارا حضاريا لا يخبو، وقوّة تقهر الطاغوت، ومنهجا يصنع النهوض، ورسالة حقّ وعدالة وإحسانا تحمل للبشرية الرحمة والخير والهداية.
نبيل شبيب