خاطرة – لسنا ضحايا!

لا يبقى الضحية ضحية إلاّ بمقدار ما يساهم هو في تأبيد وضعه الذاتي تحت تأثير حدث من الأحداث

37

 

نحن في عالمنا العربي والإسلامي.. ضحايا المؤامرات الغربية التي حيكت ونُفّذت ضدّ شعوبنا وبلادنا طوال القرن الميلادي العشرين، وما تزال مستمرّة..

نحن ضحايا موجات مشاريع الهيمنة الصهيوأمريكية والإيرانية الطائفية والروسية الهمجية وضحايا الاستبداد الداخلي والاستبداد الدولي وضحايا الإجرام والمذابح والمآسي المتوالية..

نحن ضحايا هوّة التقدّم والتخلّف بين الشمال والجنوب.. ضحايا الجهل والأمّية، والمرض والعجز، ضحايا سياسات التفرقة والنزاعات بين بلادنا وداخل البلد الواحد، شبابنا ضحايا الأوضاع الاجتماعية القاهرة، وفتياتنا ضحايا الظلم المزدوج على حساب جنس المرأة، وأسرنا ضحايا الفضائيات الإباحية..

وماذا بعد؟

 

القائمة طويلة، والإحساس بالوجود في موقع الضحيّة استشرى استشراءً خطيرا، ولم يعد يقتصر على الإحساس وحده، بل باتت تترجمه مظاهر سلبية عديدة في واقع حياتنا، في معيشتنا اليومية، في انتشار اليأس ونشره، والاتّكاء على ذرائع حقيقية ووهمية، للقعود عن العمل وتغيير واقعنا، وبات كثير من العبارات التي تدور على ألسنتنا يعبّر عن هذه الحالة الأشبه بحلقة مفرغة، محورها السؤال: وما عساي أصنع؟

 

كلا.. لسنا ضحايا، ولا يوجد في واقع الحياة البشرية فئة يمكن وصفها بفئة الضحايا من الولادة حتى الموت، فوصف "الضحية" -حسب علماء النفس- هو وصف حالة وقتية، وليس صفة لاصقة بفرد أو جماعة، فيمكن أن يكون الإنسان ضحية كارثة طبيعية، فإذا انقضت، ونجا بأن أغاث نفسه أو أغيث، تجاوزها ولم يعد في موقع "الضحية" لها، ويمكن أن يكون ضحيّة كارثة من صنع أخيه الإنسان، ككوارث الحروب، وهذه لا يبقى الضحية ضحية فيها إلاّ بمقدار ما يساهم هو في تأبيد وضعه الذاتي تحت تأثيرها، وفي الحياة المعيشية اليومية حالات لا تنتهي، يكون المرء فيها ضحية يوما، وقد يكون سواه ضحية لعمل من أعماله يوما آخر.

لو أنّ جميع أفراد شعب فلسطين وضعوا أنفسهم في موضع "الضحية الأبدية" لَما عايشنا الانتفاضة بعد الانتفاضة، وألوانا من البطولات الفردية والجماعية الفذّة بعد ألوان، ولو أنّ جميع أفراد شعب العراق وضعوا أنفسهم في هذا الموضع، لَما وجدنا الدولة الكبرى بعد سنوات معدودات تبحث عن مخرج يواري سوأة الهزيمة وعمّا يعوّضها بمكاسب سياسية ما، وهذا أو شبيهه يسري على "ثورات الربيع العربي".

بل إنّ في معظم الإسهامات في صناعة مفاصل التقدّم البشري من مختلف الأمم وفي مختلف ميادين الحياة، ما يؤكّد نقيض الوهم الكبير بتأبيد موقع الضحية ذاتيا. وفي السيرة المطهّرة ما يفوق تلك الأمثلة وضوحا وتعليما، عندما ننظر الآن من وراء القرون إلى بلال وياسر وسمية وأقرانهم وهم ضحايا قريش ثمّ ما آل إليه حال الأمّة وقد وصلت خلال فترة وجيزة من عمر التاريخ إلى ما بين سور الصين وبحر الظلمات.

 

إنّ النسبة الأكبر من أسباب سلوك الاستمساك بموقع الضحية هي الأسباب الذاتية المستمرة وليس الأسباب الخارجية الوقتية، فكأنّ هذا الصنف من الضحايا، يستسيغ البقاء في موضع الشكوى، ويهوى تسويغَ قعوده عن التحرّك بأنّه لا يملك من أمره شيئا ليخرج من القفص الحقيقي أو الوهمي الذي يحبس نفسه وراء قضبانه.

لسنا ضحايا إلا بمقدار ما نجعل أنفسنا أسرى لحالة نفسانية، لقيودها مفعول أكبر من مفعول جميع القيود الخارجية، ولا يمكن أن تنكسر القيود الخارجية تلقائيا، ولن تتوقف جهود صناعتها، ما دام يوجد في الدنيا حق وباطل، وخير وشرّ، إنّما يضعف مفعول العوامل الخارجية، وتفقد قوتها بمقدار ما نكسر بأنفسنا -ولا يوجد إطلاقا مَن يتولّى عنّا هذه المهمة- قيودنا الذاتية.

لسنا ضحايا.. شريطة أن يستوعب الواحد منّا نفسه وقدراته أوّلا، والواقع مهما كان قاتما حوله ثانيا، والطريق الموصلة إلى تغيير نفسه بنفسه وتغيير الواقع بنفسه ثالثا، ولو كان لا يملك -مثلا- إلاّ "درعا" يبيعها بدرهمين فيقتات في يومه بأحدهما ويستثمر الآخر لغده، كما علّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحد الصحابة وقد جاءه يشكو ما معناه أنّه "ضحيّة الفقر".

وما كان يسري على الفرد كان يسري على الجماعة في الشُّعب، ويسري على الجماعة من وراء الخندق، ويسري على الجماعة في صحراء شبه الجزيرة وحولها دولتان كبريان في أوج قوّتهما وهيمنتهما الدولية.

 

لهذا نتعلّم في تربيتنا عندما تكون مناهج التربية قويمة، أنّ الإيمان واليأس لا يجتمعان في قلب المؤمن، ونتعلّم أنّ مقياس القوّة أن يملك الواحد منّا نفسه في اللحظة التي يلقى فيها ما يستثير غضبه، ونتعلّم الجمعَ في آن واحد بين الرضى بقضاء الله والعمل لتغيير أوضاعنا الذاتية وأوضاع من حولنا وفق ما أمر الله.

ولدينا معين لا ينضب من هذا وأمثاله، من أجل أن نتحرّك في هذه الحياة الدنيا، ليكون لنا ما نصبو إليه فيها وفي الآخرة. مشكلة المشاكل واحدة، لا تتبدّل، أن يتحوّل ما نعلمه من الدين بالضرورة أو نتعلّمه، من كلام نقول، إلى عمل نصنع، ولا يوجد في الدنيا حائل دون ذلك، أكبر من الحائل الذاتي في أنفسنا، فلا نبحثنّ عن أسباب خارجية نتّخذها ذريعة، ولا نتجاهلها فنغفل عن أخذها بعين الاعتبار.

العمل المطلوب صنعه، هو ما يجب صنعه رغم العوائق الخارجية، وليس عند زوالها، وهي لا تزول من تلقاء نفسها، إلى أن تزول الدنيا وما فيها، وآنذاك نقف بين يدي الديّان، في يوم لا تزول فيه قدما عبد حتى يسأل عن أربع، حياته وشبابه وعلمه وماله، أفلا نلاحظ أنّه لا يُسأل عمّا يصنع الآخرون، وما إذا كان فيما يصنعون عائقا بينه وبين الإحساس بأنعم الله عليه، ليشكره عليها؟ وما الشكر إلا بتوظيفها وليس بتعطيلها وسجنها وراء قضبان وهمِ الإحساس أنّنا ضحايا إلى الأبد.

نبيل شبيب