حوار – مع مسؤولين في الغوطة الشرقية
نحتاج إلى دراسات أصولية وفقهية وسياسية وحقوقية ينبثق عنها مشروع أو مشاريع متكاملة لاحتياجاتنا في عالمنا وعصرنا
مقدمة
في ٩/ ١١/ ٢٠١٥م استضافت كاتب هذه السطور مجموعة شبكية تضم عددا كبيرا من أهلنا في الغوطة الشرقية، منهم مسؤولون في قطاعات مدنية وميدانية، وجرى حوار مطول مكتوب، بقي خارج نطاق النشر حتى اليوم (١١/ ٥/ ٢٠١٧م) وقد يكون في نشر مقتطفات رئيسية منه في ست حلقات بعض الفائدة على خلفية ما شهدته وتشهده الغوطة الشرقية من "اقتتال انتحاري" لا يجوز استمراره، ولا يجوز استبقاء الأسباب التي أدّت إلى اندلاعه. صحيح أن فيما ينشر من الحوار صيغة تعميمية، إنما تتناول بشكل غير مباشر أسباب النزاعات، بينما أصبح الخوض في التفاصيل من العقبات في وجه التلاقي على ما اندلعت الثورة من أجله بدلا من هدر الدماء والإمكانات. فيما يلي ست فقرات من الحوار وتبقى فقرات أخرى تنشر في أبواب تتعلق بمحتواها بشكل مباشر.
. . .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أخوكم نبيل شبيب.. أكرمه الله بدخول هذه الغرفة ليستفيد من الجمع الكريم فيها، ويكون على تواصل مع أهله في الغوطة الشرقية في هذه الظروف الصعبة، وليس الحوار عن بعد سهلا، فاسمحوا لي بمقدمة قصيرة، إذ أعيش عن بعد ما يواجهه أهلنا من عدوان يومي يرفع عدد الشهداء والمصابين ويضاعف حجم المعاناة، وليس من يتابع كمن يعايش مباشرة، فأقدر صعوبة الحوار حول أمور فكرية وأمور سياسية كما ورد في الأسئلة المطروحة، ولكن نعلم جميعا أن أحد أسباب طول فترة الثورة وطول فترة المعاناة، هو عدم الوصول معا إلى رؤية مشتركة، وإلى قواعد منهجية وملزمة للتعامل فيما بيننا، على مستوى الفصائل، وعلى مستوى ما سمي الداخل والخارج، وعلى مستوى من ينظّر ومن يعمل، وعلى مستوى من يجاهد ومن يموّل، وكذلك على مستوى القيادات فيما بينها وتجاه من ينتظرون التوجيه الحكيم الواعي من جانب القيادات، ناهيك عن التعامل مع الحاضنة الشعبية وما يسمى الموالين.
نتائج هذا النقص مؤلمة، ولكن المعاناة تساهم في البناء إن أحسنا التعامل معها، ولا يزال المسار يستدعي -رغم المعاناة- الاطمئنان إلى الأمل بالله، فضلا عن العمل وتطويره، ولهذا وجب بذل الجهود للتلاقي على الرؤى والأفكار وتصويب بعضنا بعضا أثناء مجرى الأحداث..
أقول أثناء مجرى الأحداث.. فهذا ما تعلمناه من القرآن الكريم عندما كان الوحي لا ينتظر حتى تهدأ الأمور وتستقر، بل كان يبين للمسلمين أثناء المعركة وبعدها ما يعنيه النصر عند اتخاذ أسبابه، كما كان مع غزوة بدر ويوم الفتح، وما تعنيه الهزيمة أو الانتكاسة عندما تقع الأخطاء، كما كان مع غزوة أحد وبداية يوم حنين..
إن الكلمة الصائبة بين العاملين أثناء عملهم وجهادهم، تجد مفعولها المباشر إذا أحسن قائلها صياغة عباراتها في نطاق ظروف واقعية قائمة، وأحسن سامعها الإصغاء واعيا لما فيها ليقبل أو يرفض وفي الحالتين ليتخذ خطوة عملية فلا يبقى الحوار نظريا فقط.
. . .
أرضية تنظيمية للثورة؟
السؤال الأول يتناول الأرضية الحركية للعمل الثوري وما بعد الثورة، وهو أساس يفيد تناوله للنظر في نزاعات بات من أسبابها التشدد في تبني وجهة النظر الذاتية، وبعض ذلك من منطلقات اجتهادية حركية وغير حركية.
أولا: هل تتطلب الثورة عملا تحت مسميات حركية ومظلة تنظيمات حركية، أم عملا تحت مسمى شامل لجميع من نريد أن يشارك في الثورة، ومن ينبغي أن يستفيد من انتصار الثورة، فهذا هو الحافز للمشاركة؟
في اعتقادي على وجه التعميم: تحتاج الثورة إلى عنوان جامع شامل واحد، هو عنوان الثورة الشعبية السورية.
ثانيا: نشأت الحاجة إلى عمل إسلامي حركي تنظيمي مع بداية انهيار الدولة العثمانية، في صيغة إصلاحية أولا ثم في صيغة حركية -كما تسمى- بعد انهيار الدولة.. ويفصلنا عن ذلك العصر ما بين تسعين عاما ومائتي عام، والسؤال بالمقابل: ألا يحتاج العمل للإسلام، في سبيل الله، في هذا العصر، في الظروف الحالية، صيغة أخرى غير الصيغ المتوارثة إصلاحا وتنظيما؟
في اعتقادي.. نعم نحتاج إلى ذلك، نحتاج إلى مظلة جديدة الصياغة للعمل الجماعي، بديلا عما كان حتى الآن قبل الثورة، وقد تسنح الفرصة أثناء الحوار لبيان بعض التفاصيل.
والله أعلم
أرضية سياسية للثورة؟
هل تحتاج الثورة الشعبية إلى أرضية سياسية لتحقق أهدافها؟
عرف التاريخ عمليات تغيير كبرى، أعظمها ما كان عن طريق الرسالات الربانية ونعلم أن آثارها باقية إلى يوم القيامة، ومنها ما يمكن وصفه بأحداث تغيير من صنع البشر بمشيئة الله، وهي التحولات الحضارية كما كان مثلا في أوروبا قبل قرون.
في جميع الأحوال لا تولد السياسة ومناهجها في بداية حدث التغيير بل يكون هو مخاضا وإرهاصات أولى للمناهج السياسية المفصلة والتطبيقية فيما بعد.
الانتفاضات الفلسطينية والثورات العربية ولا سيما في سورية تمر بمرحلة المخاض، ولن يستقر المنهج السياسي أثناء الثورة ولا حتى بعد النصر مباشرة، ولهذا تعتبر جولات الصراع الجارية بسبب رؤى سياسية مستقبلية عبئا على الثورة وليست مصدر قوة لها، لا سيما وأنها جميعا مستمدة من تجارب سابقة، تجاوزها حدث التغيير الثوري.
هل يعني ذلك الاستغناء عن السياسة أثناء الثورة؟
هذا خطأ كبير في فهم ما سبق، فالمقصود هو تجنب التفاصيل "المستقبلية" إنما المطلوب من البداية، أثناء الثورة، هو التلاقي على أرضية سياسية مشتركة تدفع الثورة في اتجاه النصر، والاكتفاء بقواعد متفق عليها للتعامل السياسي بين أطراف الثورة أي الفصائل والداعمين للثورة، وبينهم وبين القوى الإقليمية والدولية.
في السنة الخامسة فقط من عمر الثورة، أي بعد النكسة الكبيرة في السنة الرابعة بدأ الحديث بأصوات متفرقة ومحدودة التأثير حول الحاجة لمثل هذا التلاقي، وبدأت تطرأ تعديلات مبدئية على بعض مناهج الفصائل، وبالمقابل ازداد تصعيد استخدام القوة الخارجية للحيلولة دون تطور مسار الثورة باتجاه النصر.
ما نمر به سياسيا يتطلب أن نبحث عن العناصر المشتركة سياسيا ودعمها وعن عناصر الاختلاف وتأجيل الصراع حولها إلى أن يتحول مستقبلا إلى تنافسٍ مشروع ومدروس أثناء الانتقال من وضع الثورة إلى وضع الدولة.. وهذا ما يحتاج إلى عملية سياسية وليس إلى ما يسمى حلا سياسيا أو إلى منهج سياسي قسري.
. . .
السؤال عن أرضية سياسية يتبعه السؤال المطروح من جانب أحد الإخوة أيضا:
هل نتحدث عن السياسة الشرعية أم السياسة العامة؟
لنبدأ على سبيل الدعابة.. بما قاله أبو العلاء المعري عن السياسيين في عصره.. قال:
يَسُوسُونَ الْبِلادَ بِغَيْرِ عَقْل
فَيَنْفُذُ أَمْرُهُمْ ويُقَالُ سَاسَهْ
فَأُفَّ مِنَ الْحَيَاةِ وَأُفَّ مِنِّي
وَمِنْ زَمَنٍ رِئَاسَتُه خَسَاسَهْ
صفة "شرعية" لا تكتسب وزنها الفعال دون نص شرعي قطعي الدلالة من القرآن الكريم أو نص شرعي قطعي الورود والدلالة من الحديث الشريف، ونعلم أن كلمة السياسة غير واردة على هذا النحو، بل ورد المعنى في الحديث عن بعض الملوك، أو العدل، وما شابه ذلك.
الواقع أن هذا شأن كلمة "العقيدة" أيضا، فهي غير واردة في القرآن الكريم ولكنّ محور الآيات القرآنية كما نعلم هو العقيدة.
المقصود بهذه المقارنة: إن النص الشرعي القرآني والنبوي لم يستخدم عبارة واضحة تصلح لاستخدامها تعريفا اصطلاحيا لكلمة سياسة، وبالتالي فكل ما يتعلق بالكلمة بعد انقطاع الوحي هو اجتهادات لها ضوابطها ومعاييرها.
السياسة العامة هي إدارة الشؤون الجماعية العامة.. هذا مصطلح بشري ثابت وله مفهوم متوافق عليه نسبيا.
أما عندما نقول: السياسة المدنية أو الشرعية.. أو الشيوعية.. أو الرأسمالية وكذلك عندما نقول السياسة الثقافية.. والسياسة الأمنية.. والسياسة الصحية.. وهكذا فنحن نستخدم أوصافا متبدلة.. لمصطلح ثابت التعريف.
كلمة السياسة نفسها اجتهاد اصطلاحي بشري، أو هي آلية إدارية مثل الدواوين التي استوردها الفاروق رضي الله عنه.
أما وصفها بالشرعية أو الإسلامية أو سوى ذلك، فهذا ما يخضع لقاعدة تعدد الاجتهادات، هنا لا يصح اعتبار أحد الاجتهادات وحده هو السياسة الشرعية دون سواه، والإسلام ميسر، لأنه يتسع للاجتهادات المتعددة طالما أنها تحافظ على مقاصده وأصوله.
والله أعلم
فصائل متناحرة
تناولت هذه الفقرة أو الحلقة من الحوار ثلاثة أسئلة مطروحة من جانب المشاركين فيه من الغوطة:
١- هل يمكن أن تنتصر الثورة في الشام والفصائل متناحرة.. وهل لديكم رأي لتوحيدها؟
٢- الآن.. ونحن في العام الخامس من الثورة.. ألا يجدر بنا ان يتم تشكيل جسم سياسي مقبول من الفصائل في الداخل ويمثلها في الخارج ليتكلم ويفاوض أصحاب القرار في المجتمع الدولي حتى نصل إلى حل سياسي مقبول؟
٣- إلى أين تتجه أزمة القيادة والتفرد بها في الغوطة الشرقية؟
. . .
بداية.. انتصار الثورة انتصارا كاملا هو تحقيق أهدافها جميعا، وليس أول تلك الأهداف فقط أي إسقاط بقايا النظام.. ويستحيل انتصار الثورة انتصارا كاملا ما دامت الفصائل أو ما دام السوريون عموما منقسمين على أنفسهم، ولئن سقطت بقايا النظام سيستمر الصراع آنذاك ما بين سوريين وسوريين بما فيهم الفصائل..
إن انتصار أحد الانتماءات سيجعل الصراع مستمرا بعد إسقاط بقايا النظام.. وسيكون الجميع خاسرين،
لهذا لا شك في وجوب تشكيل جسم سياسي جامع مشترك، ولكن السؤال الأهم: كيف؟
الفصائل.. تشكلت وتتحرك نتيجة رؤى تمليها الانتماءات الحركية إسلاميا، وهذا ما يسري أيضا على الوضع السياسي للسوريين.. مع إضافة الانتماء العلماني في إطاره.
جميع هذه الانتماءات ولد قبل الثورة، وكل منها يريد أن يكون له البقاء وتكون له السيادة بعد النصر..
بتعبير صريح.. أو بتعبير آخر: كل فصيل أصبح على أرض الواقع العملي يهمه انتصار "حركته أو انتمائه" أكثر مما يهمه انتصار الثورة أي الشعب بجميع انتماءاته في وقت واحد.
أما توحيد الفصائل أو توحيد العاملين للثورة عموما، فعند النظر فيما يوجد حاليا من مواثيق ومواقف وبيانات نجد فيها بعض الاختلاف ولكن يوجد كثير من الأهداف المتطابقة.. حتى في الصياغة.. هذا ما ينبغي الاستفادة منه
المشكلة تكمن أن كل فريق يضع تصورا ويطالب الآخرين بأن يتبنّوه.. ويعملوا معه.. أي كما يرى هو، فيأتي الرفض غالبا، رغم وجود توافق كبير.
أدعو إلى تجاوز عقدة الخلافات الحركية والانتمائية الآن.. وإلى حلحلة العقدة الإسلامية العلمانية أيضا، كي نبدأ طريق التوافق على قواسم مشتركة وقواعد تعامل مشتركة، وأرضية مشتركة لمسار الثورة حتى تبدأ عملية تأسيس دعائم الدولة المنبثقة عن الثورة.
كيف؟
أحسب هذا ممكنا عمليا عندما تتشكل مجموعة عمل، من أفراد لا يحسبون على أي فريق، ولديهم القدرة والإمكانات على ثلاثة أمور: (١) الدراسة والصياغة السليمة (٢) التواصل مع الجميع (٣) التمويل الكافي لإجراءات عملية بما فيها وجود فريق فني مساعد، خبير بالترويج لما يرونه لتشكيل رأي عام على مستوى القواعد
أما أزمة القيادة والتفرد بها في الغوطة الشرقية، فالغوطة الشرقية مثلها مثل سواها على امتداد أرض سورية.. وهذا السؤال يمكن طرحه بالنسبة إلى حلب.. وإدلب.. والقلمون.. والجنوب.. الأزمة ليست أزمة قيادة بل أزمة قيادات.. أو أزمة انتماءات وحركات ومدارس فقهية وجهادية.. وطالما أن كل طرف يزعم احتكار الحق والصواب لنفسه بما في ذلك حق القيادة، لا يمكن أن تنشأ قيادة موحدة.
أزمتنا هي أزمة مفهوم القيادة نفسِه.. فكل قائد يتصور أنه يكون قائدا فقط عندما لا يكون بين يديه من يخالفه في تصوراته، وهنا تتحول القيادة إلى مقصلة.
قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن فردية، فيما عدا ما يرتبط بالوحي.. كانت جماعية، وتعلمون كم مرة نزل الوحي بقول فصل، يخالف الاجتهاد البشري للقائد ويعتبر سواه صائبا..
كذلك في السيرة يوجد ما يشهد على سلوك نبوي مماثل كما كان في غزوة بدر وغزوة الخندق.
بل لا مجال لتطبيق المبادئ الثابتة.. كالشورى والعدل.. دون أن تكون القيادة جماعية.
والله أعلم
الشورى والديمقراطية
مجموعة أسئلة في هذه الفقرة من الحوار تلتقي على محور واحد:
ما هي أهمية الشورى في الإسلام؟
ما هو الفرق بين الشورى والديمقراطية؟
من هم أهل الشورى أو أهل الاختيار؟
هل هم كما قال عنهم فقهاء المسلمين ومؤرخوهم (أهل الحل والعقد)؟
. . .
ما نعرفه عن الشورى أثناء نزول الوحي هو تثبيت المبدأ بصورة قطعية في جميع شؤون المسلمين، ومنها الشأن السياسي بمعنى الإدارة العامة لشؤون الدولة بما يشمل جميع سكانها.
ونعرف أثناء نزول الوحي الأساليب النبوية المتبعة في تطبيق الشورى، وجميعها مصدر من مصادر التشريع.. أعني أنه يسري عليها حكم خاص بشأن ما كان خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم وحكم خاص آخر بشأن ما ارتبط باجتهاده ووجد أحيانا موافقة أو اعتراضا فكان يستجيب للاعتراض أحيانا، ومنها ما له صفة التعميم مكانيا وزمانيا ومنها ما هو مرتبط بالظروف المكانية والزمانية ويمكن أن يختلف من عصر لعصر.
أما الآلية التطبيقية فنرصد من العهد الأول:
(أ) مشورة "فرد" والأخذ برأيه، وكان "امرأة" في مواجهة عقدة استيعاب الصحابة لصلح الحديبية، أو كان "رجلا" في حالة اختيار المنزل الأفضل لأهل بدر في غزوة بدر..
(ب) مشورة الرجل "المتخصص / الخبير" كما في حالة "حفر الخندق" في العهد النبوي أو مشورة المرأة "المتخصصة / الخبيرة" كما في حالة "تحديد فترة غياب الجندي عن زوجه" في عهد الفاروق..
(ت) مشورة عامة شاملة، كما كان في حالة "الخروج من المدينة" في غزوة أحد..
في هذا الإطار يمكن أن توجد مفاصل مشتركة بين الشورى وما يوصف بالديمقراطية وهي متعددة الأشكال تطبيقيا.
توجد مفاصل مشتركة عديدة تتعلق بالآليات، ولا يوجد إلا القليل فيما يتعلق بمنظومة القيم أي ضوابط الشورى تطبيقيا.
. . .
أما أهل الشورى.. فانطلاقا من تعدد مجالات تطبيقها تختلف مواصفاتهم بين عصر وعصر وميدان وآخر.
في القضايا العلمية الطبية مثلا.. الشورى لأهل التخصص الطبي.
في القضايا السياسية مثلا.. الشورى مرتبطة بالمجال الإداري التخصصي المقصود في ميدان سياسي معين
هؤلاء.. سماهم الفقهاء الأقدمون أهل الحل والعقد.. هذا مصطلح اجتهادي، إذ لم ترد عبارة "أهل الحل والعقد" في القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. ولم ترد على لسان الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلّم.. إنما اجتهد علماء الأصول ثم علماء الفقه في اختيار العبارة -عنوانا وليس نهجا- لوصف حالة ما رصدوه من واقع نشأ تدريجيا في العصر النبوي وما بعده.
قليل منهم من ربط ذلك بآية قرآنية، وعلى وجه التحديد بتعبير "أولي الأمر منكم" في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}.. أي اجتهد هؤلاء في هذا الربط والاستنباط.. كأولئك أيضا الذين ربطوا العبارة بما ورد عن كيفية ممارسة الشورى في العهد النبوي.
أما من يقول في عصرنا الحاضر بالأخذ بهذا "المصطلح" في تأسيس نظام دولة، ويعتبر ذلك شرطا لوصفها بالإسلامية، فهو يختار واقعيا ما يقتنع شخصيا به من اجتهادات، مثل قول النووي (العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم) أو الجويني (الأفاضل المستقلون الذين حنّكتهم التجارب وهذبتهم المذاهب وعرفوا الصفات المرعية فيمن يناط به أمر الرعية) أو سواهما.
. . .
الحصيلة أننا نحتاج الآن إلى دراسات أصولية وفقهية وسياسية وحقوقية ينبثق عنها مشروع أو مشاريع متكاملة من أجل تطبيق مبدأ الشورى في عالمنا وعصرنا على صعيد مشترك وفي المجالات المتعددة مثل التنظيم الحركي، أو العمل الاجتماعي، أو العمل العلمي التخصصي، أو إدارة شؤون العامة في دولة.. وهكذا، بحيث يجمع المشروع أو المشاريع بين تحديد ما هو ملزم في كل زمان ومكان وما هو موضع اجتهاد بحسب الظروف.
والله أعلم
التمويل والمموّلون
السؤال:
ما هو تأثير الداعمين في الثورة السورية؟ وهل لديكم فكره للاستغناء عن هذا الدعم أو تامين دعم آمن؟
. . .
من الأساس لا يوجد في أي ميدان من الميادين دعم مالي غير مشروط، والاعتقاد بغير ذلك ضرب من السذاجة الخطيرة، ولكن الشروط أنواع ودرجات، منها ما يجب اعتباره مرفوضا بالمطلق، والقليل منها قابل للتوفيق بينه وبين أهداف الثورة محليا، فيمكن الأخذ به، مع الحيطة والحذر من أن يتحوّل لاحقا إلى مصيدة.
يقع ذلك عندما تصبح شروط الدعم ابتداء أو في مرحلة تالية -بعد الاعتياد عليه وربط النفقات الدورية الذاتية به- مدخلا إلى انحراف عن الهدف الأصلي من وراء طلب الدعم والحصول عليه، وهنا يقع من يحصلون على الدعم في شباك المصيدة، فإن قبلوا تحول عملهم لتحقيق هدف خارجي، وإن رفضوا انهارت الأعمال التي جعلوها تعتمد "دوريا" على دعم خارجي.
. . .
تحقيق أي تغيير جذري بوسيلة كبرى كالثورة، أمر عسير إذا كان اعتماده الأساسي على الدعم التمويلي الخارجي. ونعلم أن الثورة نشأت عفوية، وليس نتيجة دراسة وتخطيط وخبرة عملية ومعرفة كافية بالمعطيات المحلية والإقليمية والدولية، لهذا لم يكن على جدول أعمال الفصائل المتكونة تدريجيا أن تعمل من البداية لتأمين احتياجات الثورة ذاتيا، أي صناعة السلاح، واغتنامه، ومشاريع محلية لتأمين الاحتياجات المعيشية وضمانها، فضلا عن مخططات التكامل مع القادرين على الدعم التضامني لتلبية ما يتطلع إليه عامة المواطنين واحتياجاتهم اليومية، لا سيما ما يوصف بالحاضنة الشعبية للثوار. والحصيلة هو ما شهدناه من تناقضات تنامى مفعولها السلبي يوما بعد يوم، ومنها:
– ربط كثير من المجالات المعيشية والأهلية / المدنية بقيادات الفصائل العسكرية ومكاتبها غير التخصصية.. وتقابله الشكوى المتكررة من أعباء تلك المجالات، وكذلك من الأخطاء الجسيمة في الممارسات.
– التنديد بتقصير من يعمل من السوريين لتلبية هذه الاحتياجات وهو في "الخارج جغرافيا" أو هو خارج نطاق الفصائل، ويقابله التنديد بالسوري العامل في الخارج بأسلوب مسيء لمجرد وجوده في الخارج، ولو كان ذلك من قبل اندلاع الثورة.
وتوجد تناقضات أخرى كثيرة.. ولم يعد يمكن الجزم بقابلية استدراكها بعد مضي سنوات على اندلاع الثورة، ولكن لا غنى عن استدراك بعض ذلك على الأقل، إذا صدقنا في العزيمة على الاستمرار في طريق التغيير عبر الثورة.. هذا جنبا إلى جنب مع دراسة الأولويات والأخذ بالأهم فالمهم عموما.
أما تفاصيل أية حلول.. فليس هذا مما يستطيع تحديده أحد بمفرده، ولا يمكن تصور تلك الحلول دون جهود المتخصصين، ولكن لا يمكن إن وضع هؤلاء حلولا أن تجد التطبيق دون التكامل مع العاملين ميدانيا وسياسيا.
والله أعلم
تصعيد التدخل الروسي
تزامن تصعيد التدخل العسكري الروسي في سورية مع هذا الحوار فوردت بصدده الأسئلة التالية:
(١) هل يصح اعتبار هذا التصعيد الروسي فخا استجرت إليه قيادة الكرملين لاستنزاف قواها وتهميش مكانتها، أسوة بما حصل في أفغانستان؟
(٢) هل هو خيار يجدي لتقوية أوراق روسيا ودورها في الصراع السوري، وهل يحسّن شروطها التنافسية مع الغرب في ساحات أخرى؟
(٣) ما حقيقة التدخل الروسي الأخير بهذا الشكل.. وماذا تريد روسيا منه؟
. . .
محور الأسئلة الثلاثة محور واحد، وأول ما يتطلب التنويه أن تصعيد التدخل الروسي لم يكن مفاجئا لمن تابع الأحداث بعمق من البداية، بل إن توقيته أيضا كان نتيجة عدد من العوامل المعروفة، التي يفترض أن تدفع إلى توقعه.. هذا يتطلب وقفة قصيرة أو مقدمة ترتبط بموقع "الثورة في سورية" من السياسة الروسية، كما نراها من داخلها وليس كما نجتهد في تصويرها حسب رؤيتنا للسياسات الدولية أو الأجنبية عموما.
من اللحظة الأولى كان هتاف: "الشعب يريد إسقاط النظام" عند من رصده من القوى الإقليمية والدولية يعني غير ما قصده عامة المتظاهرين السلميين، فآنذاك غلب على تصور معظمنا صيغة مختزلة، على غرار سقوط مبارك في مصر كشخص أو بن علي في تونس كشخص، وتوهّمنا أن هذا هو "سقوط النظام" وتأخر معظمنا في استيعاب صيغة أخرى أصحّ من ذلك.
إن إسقاط النظام.. أيّ نظام.. يعني إسقاط "بنيته الهيكلية المحلية وشبكات ارتباطاتها الخارجية".
الانقلابات العسكرية وليس الثورات الشعبية هي التي تسقط رأس النظام فقط.
. . .
بالنسبة إلى العلاقات الخارجية نعلم من التاريخ الحديث مثلا، كيف تقلّبت مواقع الأنظمة المصرية المتعاقبة انطلاقا من أول انقلاب أوجد مسلسلها، فتحولت من معسكر شرقي إلى غربي وبالعكس، ولم تقع مشكلة حقيقية في التعامل الدولي معها، ولكن الثورة الشعبية كما اندلعت في مصر وفي سورية وسواهما الآن، تعني سقوط النظام وحلول الإرادة الشعبية الحرة المستقلة مكانه، ولا تعني قطعا تسلّط فئة أخرى مشابهة لمن سقط من حيث ولاؤها لنفسها ولاستبدادها.
إن تحرير الإرادة الشعبية سبب كاف بل جوهري محوري عند القوى الإقليمية والدولية جميعا للحرب على الثورة، حتى الرمق الأخير كما يقال.. وتحديدا الرمق الأخير للنظام نفسه ولارتباطاته الخارجية، ولن يكتمل إسقاط بقايا النظام في سورية إلا بإسقاط ارتباطاته الخارجية، ومنها القائمة مع إيران وروسيا.
. . .
روسيا مثل إيران.. "تدافع عن نفسها" أو ما تعتبره من مصلحتها، أي عن استمرار ارتباط النظام المرتبط ارتباطا تبعيا بهيمنتها الدولية.. فهذا ما تعتبره من "مصالح أمنها القومي" وهي على جميع الأحوال غير مشروعة، لا سيما عندما تعني قهر إرادة الشعوب.
أن يكون تحرك روسيا من البداية وحتى الآن في نطاق تطلعها لدور أكبر دوليا، أو في نطاق صراع دولي على النفوذ، أو في إطار توافق دولي ضد الثورة، فهذا يمكن أن يهم الباحثين والمؤرخين مستقبلا.. أما الآن فالذي يهم السوريين وواقع ثورتهم هو أن القوة الروسية بكل تجلياتها مثل الإيرانية جزء من مكونات "العدو" ومنها بقايا النظام.
من المهم هنا التأكيد:
تجاوزت الثورة مرحلة اللاعودة كما يقال.. يعني أنها لن تتوقف قبل توقف العدوان عليها محليا ودوليا، ولهذا فلا مستقبل للغزو الروسي ولا سواه إنما يعني تصعيد هذا الغزو العدواني أن الثورة تواجه تحديات كبرى تتطلب المواجهة المناسبة لها.
إن الغزو الروسي لا ينبغي أن يدفع بنا إلى الاستغراق في بحث أسبابه أكاديميا، فمهما كانت أسبابه يفرض علينا أن تتحول الثورة من ثورات متعددة بقدر الانتماءات المتعددة الموجودة، إلى ثورة شعبية جامعة لكافة مكونات الشعب المراد تحرير إرادته رغم القوى المعادية، المحلية والإقليمية والدولية، المتآزرة أو المتكاملة مع بعضها،
هذا مع عدم إغفال طرح التعامل المستقبلي مع أي قوة دولية أو إقليمية وفق معيار مصلحة الثورة والشعب والوطن.
المواجهة الميدانية لا تمنع العمل لتحقيق الأهداف المشروعة بالوسائل الأخرى المتاحة على ألا تكون على حساب الوسيلة الرئيسية وهي الوسيلة الميدانية.
والله أعلم
نبيل شبيب