حدود التصعيد الأمريكي-التركي
أزمة ذات أبعاد استراتيجية بامتياز
رؤية تحليلية – وراء الأزمة بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية أبعاد حافلة بالألغام تجعل حلها
رؤية تحليلية
الوضع الراهن للأزمة – منظومة باتريوت – منطقة آمنة – لعبة داعش وبقايا النظام – إسقاط الطائرة الروسية – توازن المصالح والتحالفات – حصيلة
رغم التصعيد الملحوظ في العلاقات التركية الأمريكية لن تنشب مواجهة غير محسوبة النتائج من جهة ومن جهة أخرى لن يكون حل الأزمة سهلا بسبب بعدها الاستراتيجي. وفي سائر الأحوال ستستمر الجهود التركية لتطوير نوعية العلاقات إلى مستوى الندية التي لم تعتد عليها الولايات المتحدة الأمريكية عموما. وفي الوقت نفسه تسعى تركيا أيضا لسياسة (ميزان متعدد الصنجات) في علاقاتها الخارجية عموما، مع متابعة تطوير أسباب القوة الذاتية (المتعددة الأشكال) باعتبارها الضمان الوحيد المستدام للدفاع عن المصالح التركية، إقليميا ودوليا، ولا تزال تركيا تواجه مشكلة جوهرية، أن من يسلك هذا الطريق عالميا يحتاج إلى حاضنة يستند إليها عضويا، أما تركيا فمضطرة أثناء صعودها السياسي والاقتصادي إلى صناعة حاضنة إقليمية متينة، ولا يزال التجاوب معها مقتصرا على الشعوب دون الأنظمة.
الوضع الراهن للأزمة
ليس التصعيد المتسارع مطلع عام ٢٠١٨م الأول من نوعه، بل هو حلقة من حلقات متتابعة، كان آخرها ما رافق إفشال محاولة الانقلاب العسكري منتصف عام ٢٠١٦م، أما بداية اتجاه العلاقات الثنائية نحو التأزم، فكانت بعد عام واحد من وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة، أثناء حرب احتلال العراق في عهد بوش الابن وتضاعف التأزم أيام أوباما في نطاق التعامل مع الثورة الشعبية في سورية، وشاع لفترة وجيزة أن العلاقات ستتحول باتجاه إيجابي مع استلام ترامب للسلطة، ولكن كان ذلك وميضا مخادعا، يُصنف في (الأخبار الكاذبة).
في مسار الأزمة طغى التعامل مع الأكراد سياسيا وإعلاميا على سواه والواقع أنه جزء من الأزمة، التي تتمحور حول التناقض بين رؤى الجانبين الأبعد أفقا وأثرا، فالمحور الأساسي هو التحول التركي تدريجيا نحو الاستقلالية والخروج من نفق التبعية المطلقة.
وللمقارنة يمكن الرجوع إلى نهاية الحرب الباردة واضمحلال الخطر الشيوعي الشرقي، فآنذاك توجه رئيس الوزراء التركي الأسبق ديميريل إلى واشنطون لعرض خدمات بديلة تعوض الدور التركي أطلسيا بما أسماه تحرك تركيا في الدوائر الجغرافية الخمس المجاورة (من وسط آسيا إلى البلقان وحتى شرق المتوسط) وواجهته مواقف أمريكية مهينة.
يقابل ذلك قرار التمرد السيادي التركي في عهد حزب العدالة والتنمية برفض السماح للقوات الأمريكية بعبور الأراضي التركية في حرب احتلال العراق عام ٢٠٠٣م، وتلاه إعلان حكومة تركيا سحبها لطلب سابق للحصول على قرض بقيمة ١٢ مليار دولار من صندوق النقد الدولي بعد تهديد أمريكي بالحيلولة دونه، وبتعبير آخر: رفض التبعية العسكرية ثم رفض الابتزاز المالي والسياسي.
الأزمة في جوهرها تناقض في التوجهات الاستراتيجية وبلغت مداها مع انطلاق ثورات الربيع العربي، فهنا ظهرت المصلحة التركية في دعم انتقال أنظمة البلدان العربية المعنية إلى أوضاع ديمقراطية تعزز محاولات تكوين حاضنة عضوية بصيغة تكتل إقليمي عربي-تركي، وتناقضت تلك المصلحة جذريا مع استراتيجيات الهيمنة الصهيوأمريكية المعتمدة في الدرجة الأولى على استمرار وجود أنظمة استبدادية محلية مدعومة في المنطقة.
منظومة باتريوت
انعكس مسار الأزمة على مجرى الأحداث مرارا في السنوات الماضية، من ذلك منتصف عام ٢٠١٢م عند إسقاط طائرة تركية ادعى النظام في سورية انتهاكها للمجال الجوي، وكان رد الفعل الرسمي من جانب حلف شمال الأطلسي كلاميا: الاستعداد التام للدفاع عن الدولة العضو تركيا، ولكن دون الإشارة إلى أنها تعرضت لعدوان خارجي وهو ما يوجب لو أعلن رسميا إجراءات دفاعية أطلسية مشتركة.
حتى القرار الأطلسي بنشر منظومة باتريوت الصاروخية تأخر ستة شهور، بسبب مفاوضات معقدة جرت بهذا الصدد، علما بأن نشر الصواريخ لا يتم بقرار أطلسي دون الموافقة الأمريكية تخصيصا، ثم لم يمض عام واحد إلا وبدأ سحب المنظومة مجددا، دون أن تتبدل معطيات المخاطر على الأرض.
مع مطلع عام ٢٠١٨م ومع تجدد التصعيد على هامش (عملية غصن الزيتون / عفرين) بدأ الحديث مجددا عن تفعيل منظومة باتريوت، ولكن هذه المنظومة (الدفاعية جوا) لا تغير شيئا من نوعية خطر ما يسمى وحدات الشعب الكردية المدعومة أمريكيا لتسيطر على مناطق واسعة على الحدود مع تركيا، وسبق أن أظهرت في مناسبات عديدة ارتباطها بمنظمة اتحاد العمال الكردستاني، وهو المصنف رسميا من جانب الدول الغربية ومنها الولايات المتحدة الأمريكية كتنظيم إرهابي.
منطقة آمنة
كما تجدد الحديث في حمأة التصعيد على هامش عفرين عن منطقة آمنة، وهو ما كانت ترفضه واشنطون لسنين عديدة، فطلبت تركيا طلبا مباشرا ومتكررا دعم إنشاء منطقة آمنة، بعد تدفق موجات المشردين عن سورية إلى الأراضي التركية، وقد وصل تعدادهم في هذه الأثناء إلى زهاء ٣،٥ مليون إنسان، ولكن التلويح الأمريكي حول منطقة آمنة عام ٢٠١٨م مشروط بالتوقف عن التعرض لوحدات الحماية الشعبية، وهذا شرط تعجيزي بالمنظور التركي، ويقابله شرط تركيا أن توقف الولايات المتحدة الأمريكية دعمها العسكري المكثف لتلك الوحدات وتمكينها من السيطرة على نسبة واسعة من الأراضي على الحدود مع تركيا، ومن العسير على هذه الخلفية توقع نتيجة إيجابية أو سريعة بصدد منطقة آمنة.
لعبة داعش وبقايا النظام الأسدي
من محطات الخلاف الأهم بين الطرفين التركي والأمريكي التبدل الجذري في تعامل واشنطون مع قضية سورية سياسيا وميدانيا، وهو ما بدأ بإعلان التخلي الأمريكي في عهد أوباما عن دعم الفصائل الثورية السورية العاملة لإسقاط بقايا النظام الأسدي، وهذا بعد أن كان ذلك محور التوافق بين الدول التي وصفت نفسها بأصدقاء الشعب السوري. وكان تعليل ذلك رسميا: الحرب ضد داعش، والأصح أن التراجع الأمريكي عن سياسة إسقاط نظام الأسد ترجم نفسه على الأرض، برفع هذا العنوان المخادع فوق ممارسات وسياسات مباشرة لحصار الفصائل الثورية، من حيث الدعم العسكري والمالي، وتحويله لصالح وحدات الحماية الكردية، وهذه معروفة بتأرجح مواقفها بين التوافق مع بقايا النظام، والمناوشات المحدودة، أو الامتناع على الأقل عن التعرض إليها، مقابل التحرك العنيف عسكريا ضد الفصائل الثورية بذريعة الحرب ضد داعش.
هذا ما ظهر بوضوح في الخلاف التركي-الأمريكي أثناء معركة (عين العرب / كوباني) لعدة شهور، وقد استهدفت الممارسات الأمريكية فصائل متعاونة مع تركيا ومع جهات عربية إقليمية أخرى، وتزامنت هذه السياسات مع اغتيال كثير من قادة الجيل الأول للفصائل، كلما لاحت بوادر جادة لتوحيد الصفوف، وغالبا ما اتخذ الاغتيال أسلوب قصف مقرات تجمعهم، بذريعة الحرب على الإرهاب الداعشي، رغم أن حرب الفصائل المستهدفة ضد داعش لم تنقطع.
إسقاط الطائرة الروسية
من محطات التصعيد الجديرة بوصف محطة خفية حادثة إسقاط الطائرة الروسية من جانب القوات التركية، فحتى اليوم لم تنكشف رسميا وبشكل مقنع حيثيات الحادثة في أواخر عام ٢٠١٥م، ويبقى التكهن أن جهة ما من سلاح الجو التركي تصرفت دون الرجوع إلى القيادة السياسية والعسكرية العليا، وكان واضحا أن هذه الجهة أو من دفعها لهذا التحرك تدرك قابلية إيقاع تركيا بسببه بين فكي ميوعة تطبيق واجب الحماية الأطلسية وتصعيد العداء الروسي الذي بدأت ترجمته فورا على الأرض السورية ضد الفصائل وعلى الحدود مع تركيا.
لا يمكن للقيادة العليا في تركيا أثناء حل الأزمة مع موسكو بعد شهور، أن تعلن رسميا عن تصرف منفرد فهذا يعني عدم السيطرة سياسيا على القوات التركية نفسها، والواقع أن هذا ما كشفت محاولة الانقلاب عنه وكان جوابه عملية تطهير واسعة النطاق.
يلفت النظر في حل الأزمة مع موسكو سرعة تجاوب الأخيرة مع المبادرة التركية لذلك، فلا يستبعد أن الجانب التركي أطلع المسؤولين في روسيا على معلومات غير معلنة، بينما بدأ في تلك الفترة أيضا الحديث علنا عن دور أمريكي في محاولة الانقلاب، ومن هنا التكهن بوقوع عملية أمريكية المصدر ومقصودة لإثارة أزمة تركية-روسية.
توازن المصالح والتحالفات
إن جوهر الأزمة بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية يحمل بعدا استراتيجيا يجعل حلها عسيرا، إنما تدرك تركيا أن العمل لتحقيق أهدافها يتحرك على أرضية مليئة بالألغام، إقليميا وهذا ما ظهر عبر التحرك الدولي المضاد لتحرير إرادة الشعوب الثائرة في ثورات الربيع العربي، ودوليا لا يخلو التحرك لعقد تحالفات جديدة من نكسات متوالية، وكانت المحاولة الأولى باتجاه السعودية، وأخفقت بعد فترة وجيزة، فكان التوجه نحو إيران رغم دورها التدميري في سورية المجاورة، كما كان التوجه لروسيا التي تتطلع إلى إضعاف ارتباط تركيا بحلف شمال الأطلسي، ولكن ينطوي ذلك على ألغام مستقبلية، فمن المستبعد على روسيا أن ترحب بصعود تركيا إلى مرتبة قوة إقليمية كبرى، وهو ما يتحقق بقدر تطوير قوتها الذاتية واستقلالية قراراتها السيادية.
حصيلة
قوة السياسة الخارجية التركية صادرة عن متانة استقرارها داخليا، ولا تأمن انهيارا مفاجئا لأي تحالف خارجي مؤقت يعتمد على معطيات مصلحية مع أي طرف من أطراف اللعبة الإقليمية والدولية، فلا يمكن تأمين تحركات تركيا السياسية والعسكرية دون الحفاظ على حد أدنى من تبادل المصالح مع الجميع قدر الإمكان، بحيث يصبح انهيار العلاقة مع أحد الأطراف مصدر خطر على الجانبين في وقت واحد، فيكتسب بذلك قوة الردع الذاتي لهما.
هذا ما يسري على العلاقات التركية مع إيران وروسيا ودول الخليج، كما يسري على العلاقات مع جناحي حلف شمال الأطلسي، الأوروبي والأمريكي.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب