تحية إلى الدكتور محمد حميد الله
عن مجلة الرائد من كانون الثاني / يناير ١٩٩٥م
عصام العطار: محمد حميد الله الرجل الذي استنفدَ عمرَهُ وقواه في خدمة الإسلام والمسلمين والإنسان
مقدمة بقلم نبيل شبيب
ولد الدكتور محمد حميد الله في السادس عشر من محرم عام ١٣٢٦هـ، والثامن عشر من شباط / فبراير عام ١٩٠٨م بمدينة حيدر أباد، وتوفي رحمه الله تعالى في الثالث عشر من شوال عام ١٤٢٣هـ والسابع عشر من كانون أول / ديسمبر عام ٢٠٠٢م، في دار لبعض أقربائه في الولايات المتحدة الأمريكية، الذين تولّوا العناية به وقد أقعده المرض وأضعف حركته وبصره، وكان قد قضى جلّ عمره في فرنسا، حيث تتأرجح الأقوال عن عدد من أسلموا على يديه بين ٣٠ و٥٠ ألفا، وقد تعلم ٢٢ لغة، كان آخرها التايلاندية بعد بلوغه الرابعة والثمانين من العمر، وألّف العديد من الكتب إضافة إلى ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الفرنسية (ظهرت الطبعة الأولى عام ١٩٥٩م وأعيدت الطباعة في هذه الأثناء أكثر من ٣٠ مرة) وإلى الألمانية والإنجليزية، وعاد خلال عمله إلى ترجمات سابقة في ١٢٠ لغة وعرّف بكثير منها في مقدمة ترجمته. وعلاوة على أكثر من ٢٠٠٠ مقالة علمية.
كان من أشهر كتبه “مدخل إلى الإسلام” أو تعريف بالإسلام بالفرنسية وقد نقل إلى العديد من اللغات، وكتاب “رسول الإسلام حياته وآثاره” في مجلدين، وكتاب “مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة”، ويمكن تحميله من موقع محطة إضاءات في باب “عطاءات متميزة”.
ويمكن معرفة المزيد عن د. محمد حميد الله رحمه الله تحت عنوان عالم جليل فقدناه، بقلم د. محمد الهواري رحمه الله، في مجلة الرائد، العدد الصادر في شوال ١٤٢٤هـ وشباط / فبراير ٢٠٠٣م)
وكانت مجلة الرائد قد نشرت في ربيع الثاني ١٤٠٥هـ وكانون الثاني / يناير ١٩٨٥م الكلمات التالية بقلم الأستاذ عصام العطار، يحيي فيها محمد حميد الله، الذي كان آنذاك على قيد الحياة، مكبا في بيته المتواضع في باريس على الدعوة والتأليف والعمل لله عز وجل دون انقطاع، وفي هذه الكلمات تعبير أخوي عميق عن الوفاء والتقدير، لرجل كان من كلماته وفق شهادة الشيخ إسماعيل بن علي الأكوع، جوابا على طلب ترشيحه للحصول على جائزة الملك فيصل: (أنا لم أكتب ما كتبت إلا من أجل الله عز وجل، فلا تفسدوا علي ديني!)
وأستودعكم الله، ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب.
بقلم عصام العطار
تحيةٌ إلى الإنسانِ العظيم، والعالمِ العظيم، والمسلمِ العظيم الدكتور محمد حميد الله..
تحيةٌ إلى الرجل الذي ارتفع بإيمانه الصادق فوق هذه الدنيا حقيقةً لا كلاماً، فكان مُذْ عرفنَاه أكبرَ من هذه الدنيا، وأزهد الناس بها، في طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه، وفي تواضعه، ونأيه بنفسه عما يتهافت عليه الناسُ، من المتعِ والملذّات، والمكاسبِ والمناصب، والشهرةِ والتكريم؛ وهو لو أراد شيئاً من ذلك لبلغَ منه الكثيرَ دونَ عناء..
تحيةٌ إلى الرجل الذي وسعَ بقلبه الكبير، وعقلِه الرشيد، وخلقِه الرفيع، وأفقِه الواسع، سائرَ الناس، وأحبَّ لهم ما أحبّه لنفسه من الهدايةِ والخير، وبذلَ في إرشادِهم وخدمتهم، من قلبِه وفكره وعلمه وجهده، ما تَنُوءُ بمثلهِ العصبةُ أولوا القوة، فثبَّتَ الله به من ثَبَّت على الهدى ودين الحقّ، وأخرجَ به من أخرج من الملحدين والكافرين والضائعين، من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة المهلكة إلى صراطِهِ المستقيم.
تحيةٌ إلى الرجل الذي عاش في الغرب فلم يفتنه الغرب، ولم يلوِّثه الغرب، وكان حيثما وُجِد منارةً هادية، ودعوَةً دائبة، وتعريفاً حيّاً بالإسلام، وفضائل الإسلام، بلسان الحال، لا بمجرد المقال: تعريفاً رائعاً ما يزالُ له في كثيرٍ من النفوسِ أجملُ الآثار، وما يزالُ يفتحُ القلوبَ لدعوةِ الله عزَّ وجلَّ، ويُوَلّد لها عند المنصفين المحبةَ والإعجاب والإكبار.
تحيةٌ إلى الرجل الذي استنفدَ عمرَهُ وقواه في خدمة الإسلام والمسلمين والإنسان، ووهبَ حياته لخدمة دينه وأمّته بقلمه ولسانه وعمله، في كلّ مكان، وعلى كل صعيدٍ يراهُ أَولى بالجهد، أو يرى نفسَه أقدرَ على الإفادَةِ فيه؛ مُسَلّحاً في ذلك كلّه بالإيمان والإخلاص، والعلم والوعي، والإرادة والدأب، والتضحية والصبر، وعددٍ من اللغات الحيّة منها العربيّةُ والأرديةُ والفارسية والتركية والفرنسية والإنجليزية والألمانية.. يَفْهَمُ بها العالم، ويُخَاطِبُ بها العالم، ويخدم بها دعوة الله أجلّ الخدمات.
تحيةٌ من أعمقِ أعماق القلبِ والحبِّ والعرفانِ إلى محمد حميد الله، وهو يحملُ الآنَ على كاهِلِهِ المكدودِ، وهيكلهِ العظميِّ الناحل، أعباءَ سِنِيه الثمانيةِ والسبعين، ويفتِّشُ حيثُ يعيشُ من عشراتِ السنين في باريس، عن “مأوى عجزة” متواضعٍ، يقضي فيه ما بقي من أيّامِ شيخوخته، بعد أن أعطى صِباهُ وشبابَهُ وكهولتَه وخيرَ أيّامِ الشيخوخة والحياة للإسلام والمسلمين: فلا يجدُ “مأوى عجزة” يقبلُه براتبهِ التقاعديّ الضئيل.
لا أكتبُ هذا الكلام – كما قد يتبادرُ لبعضِ الأذهان – لأستثيرَ شعورَ المسلمينَ بالمسؤولية عن هذا الرجلِ العظيم، ولأدفعَهم إلى الوقوفِ معه في هذه المرحلةِ من شيخوخته، ومساعدتِه على توفيرِ الشروطِ الملائمة لوضعه الصّحيّ، ولاستمرارِ إنتاجِه وعطائِه الجليلِ الذي لا يُعَوِّضُه في مجاله سواه؛ فالأستاذُ الدكتور محمد حميد الله لا يقبلُ مساعدةَ أحدٍ مهما اشتدّتْ به الحال؛ بل لقد كان – وما يزال – يقتطع من ضروراتِ حياتِه الأساسية ما يساعدُ به الناس، ويُحَوِّلُ رَيْعَ كتبِهِ – إن قَبِلَ أن يأخذ لكتبه ريعاً – إلى الجهات التي تخدم الإسلام والمسلمين..
إنما أكتبُ لأُسجِّلَ واقعاً مأساوياً، ما أَمَرَّه وما آلَمَه منْ واقع، وما أَدْمَاهُ للنفوسِ التي لم يمتْ فيها كلُّ إحساس، ولم ينعدمْ فيها كلُّ وفاء، ولم تفقدْ كلَّ الفقدِ أدنى شعورٍ بالمسؤوليةِ والواجب.
أَيْ محمد حميد الله! أيّها الشمسُ التي أنارتْ طويلاً، وبدأت تَجْنَحُ الآنَ للغروب..
أيّها الشَّفَقُ الملتهبُ على الأُفُقِ بالإيمانِ والمحبّةِ والإخلاص والذي يَتَهَيَّأُ الآنَ للمغيب..
أيّها الفارسُ القديمُ الذي حملَ رايةَ الإسلامِ في بلاده التي حُرِمَ منها (حيدر آباد) وفي ديار الغرب، وفي بقاعٍ أخرى متباينةٍ من الأرض، بثباتٍ وصبر، وتواضع وصمت؛ والذي يوشِكُ ضعفُ الجَسَدِ أن يَنْزِلَ بِهِ الآنَ قسراً عن جوادِه العتيد..
أيّها الخُلُق الرفيع، أيّها الزُّهد الصادق، أيّها التواضعُ النادِر، أيُّها العمل الدائب، والعطاءُ القلبيُّ المتواصل، على صعيد البحث والتأليف، والتوجيهِ والتعليم، وخدمةِ كلِّ محتاجٍ بما تستطيع؛ من مالٍ أو جاه، أو مشاركةٍ عاطفيّةٍ فكريّةٍ أخوّية، تَأْسُو الجراحَ وتُسَدِّدُ الخُطى، وتُعِينُ على متابعةِ الطريق.
أيْ محمد حميد الله
إن كانَ قد عقَّك المسلمون، وقصَّرَ في حقّك المقصّرون، ولم ترَ أقلَّ القليلِ مما تستأهلُهُ من العرفانِ والتكريم، والمساعدةِ على القيامِ بالواجب؛ فإنَّ الأجيالَ الإسلاميةَ الجديدة، والطلائع الإسلاميةَ الأصيلة، لتُعَبِّرُ لك في هذه المرحلة المتقدّمة من مراحل حياتِك وجهادِك الطويلِ النبيل، عن أعمقِ مشاعرِ المحبّةِ والعرفانِ والشكرِ والتقدير، وتُرْسِلُ إليكَ – عبر الرائد – بهذهِ التحيّةِ الصّادقةِ الخالصةِ المنبعثةِ من أعماقِ القلوب، وإنْ كنتَ قد عملتَ ما عملتَ في حياتك المباركةِ كلِّها، وأنتَ لا تنظر إلاّ إلى الله ومرضاةِ الله، ولا تريدُ من أحدٍ من النّاس جزاءً ولا شكورا
فجزاكَ الله عنّا وعن الإسلامِ والمسلمينَ خيرَ الجزاء.
ومدَّ الله في حياتِك الغاليَة، ومتَّعَكَ بالصّحةِ والعافية، وأبقاكَ بيننا، وحفظكَ فينا، أخاً حبيباً كبيراً، وقُدْوَةً عزيزةً وذُخْراً، ولا حَرَمَنا منْ ثَمَرَاتِ علمِكَ وفكرِكَ وعملكَ النافع.
والسلامُ عليكَ حيثما كنتَ ورحمةُ اللهِ والبركات
عصام العطار