تحليل – هل يمكن حظر حرية الكلمة؟
مع اليوم العالمي لحرية الصحافة
تحوّلت الرقابة على الكلمة إلى قضبان تحيط بمن صنعوها فعزلوا أنفسهم عن الواقع وقضاياه الكبرى
في مناسبة بعد أخرى تصدر التقارير عن انتهاك حرية الكلمة وحقوق الإعلاميين، لاسيما مع حلول اليوم العالمي لحرية الصحافة في الثالث من أيار / مايو سنويا وفق ما أعلنته الأمم المتحدة عام ١٩٩٣م، وغالبا ما يحمل كل تقرير جديد تعداد مزيد من الانتهاكات بالمقارنة مع التقرير الذي سبقه، وهكذا دواليك، كما هو الحال مع كافة ما يتعلق بالإنسان وحقوقه وحرياته.
من يختار لنفسه طريق الكلمة الإعلامية يُفترض أن يمارسها علنا في وضح النهار، وإلا لا يسمّى الإعلام إعلاما، فليست حرية الكلمة الإعلامية أمرا اختياريا عند الإعلامي، بل إنه يحملها على عاتقه من اللحظة الأولى أمانة ثقيلة ومسؤولية جسيمة؛ وكلمته آنذاك تتجاوز تأثير القيود والضغوط وألوان الابتزاز المرئية وغير المرئية، ليكون رأيه بعيدا عن التزييف والتضليل والتنميق، وكيلا تتحول وسيلة الإعلام إلى أداة تضليل أو هدم.
وممارسة “حرية الكلمة” مدخل رئيسي للوصول إلى قدر أعظم من التحرر في ميادين أخرى، كتحرير الإمكانات والطاقات للبناء، والخروج من وهدة التخلف، وذلك عبر تحرير العقول والسواعد والإرادة الفردية والجماعية على المستوى الوطني، مع رفع القدرات الذاتية للتأثير على صناعة القرار والحدث عالميا.
العلنية في أداء واجب الإعلام يقابلها ازدياد استخدام أسماء مستعارة في العصر الشبكي الحديث، ويعلل صاحب الاسم المستعار ذلك بخشية الكلمة الإعلامية من السلطات، وهذا ما قيد الإعلام في بلادنا العربية والإسلامية على مدى عقود عديدة فبقي حبيس محاولات دائبة وعنيفة لإخضاع قلم الإعلامي لإرادة الحاكم السياسي أو الممول المرتبط بها غالبا، أو العمل على كسر ذلك القلم الإعلامي إن لم يخضع.
رغم ذلك، وقع التطور في اتجاه تحرير الكلمة من القيود، وساهم في ذلك تطور وسائل الاتصال واضمحلال مفعول الحواجز والحدود بين البلدان، وداخل البلد الواحد؛ وبهذه المناسبة لا تنبغي الاستهانة بمن كانوا قبل ذلك روادا في طليعة التمسك بقول كلمة الحق الإعلامية ونشرها مهما كانت الظروف ومهما كان الثمن، ولقد دفع كثير منهم بالفعل ثمن حرية كلمتهم الإعلامية في ظل أسوأ ظروف عرفتها بلادنا على هذا الصعيد.
ساحتنا الإعلامية لم تعد تشهد “إرهاصات تغيير” فحسب، وفق تعبير طالما استخدمه المتفائلون لبثّ الأمل في النفوس في حقبة الظلمة الحالكة، بل بدأ التحول يأخذ مجراه، وما بقي لا يعدو أن يكون مشكلات جانبية نتيجة تشبث فريق من المسيطرين المتسلّطين بأساليب عتيقة، فهم يكررون تجارب فاشلة، كالقابض على ريح في يده، فإن فتحها أدرك ما يعنيه وهمه.
إلى وقت قريب كان من الممكن كبت حرية الكلمة عبر إغلاق صحيفة، أو إلغاء برنامج إذاعي أو تلفازي، أو طرد محرر، أو حتى اغتيال قلم من الأقلام بقتل صاحبه، فضلا عن دور مقص الرقيب دون اعتراض، والكمامات على الأفواه دون تأوّه.. كان ذلك جميعا وأمثاله من الإجراءات التي حسب من مارسوها أنها ستضمن سيطرتهم على صناعة الإنسان وفكره، وصياغة إرادته وعقله، بل وإنتاج ذوقه وميوله، حتى ينشأ جيل لا ينقطع عن تقديس من لا يجوز تقديسهم من أفراد حاكمين، وطاعة ما لا تجوز الطاعة فيه من إهدار لمصالح الأمة وتفريط بمقدساتها وأرضها وحاضرها ومستقبلها، ثم ماذا كانت النتيجة؟ على أرض الواقع نعايش جيلا آخر، بمواصفات أخرى، ويظهر للعيان حجم تمرده على من اعتقدوا أنه سبق تطويعه لهم، فمضى ليعبر عن إرادة حرة مستقلة تأبى الانصياع!
بل إن الإجراءات التعسفية، مراقبة أو حجرا، وإغلاقا أو طردا، لم تعد تصنع “التعتيم” الإعلامي المطلوب، بل تزيد الضجة الإعلامية، وتزيد ردود الفعل على مَن يمارسون تلك الإجراءات، فيزدادون هم عزلا لأنفسهم، بل أصبح الموت إعلاميا مصير الوسيلة الإعلامية التي لا ترضي سوى الحاكم بأمره في جهاز سياسي، أو في مؤسسة تمويلية، وتغفل عن إرضاء الإرادة الشعبية، والتطلعات الشعبية، والآمال الشعبية، فكل وسيلة إعلامية من هذا القبيل تحتضر فإن لم توضع في الكفن بعد فإن استمرار وجودها طافية على السطح، كوجود الزبد على وجه مياه تيار متدفق.
كان بعضنا يشكو إلى وقت قريب أنه إذا أمسك القلم ليكتب، شغله اختيار العبارة المناسبة أكثر من العثور على الفكرة الصائبة، فهو مضطّر إلى انتقاء الكلمة التي قد تقول ما يريد هو، دون أن يفهمها الرقيب فيمنعها، حتى باتت هذه الرقابة الذاتية أشد وطأة من الرقابة الخارجية، أما الآن فالغالبية تكتب مع الثقة بحتمية الوصول إلى القارئ أو المستمع أو المشاهد على أي حال، إذ تحولت قضبان الرقابة، إلى قضبان تحيط بمن صنعوها، وباتوا هم المعزولين مع إعلامهم المنحرف المزيف، عن واقع بلادهم وأمتهم وقضاياهم من حولهم.
ويعلم كثير من المسؤولين الواعين، القائمين على وسائل الإعلام إدارة أو تمويلا، يعلمون أن وجودها رهن بأن تجد القبول لدى المستهلكين، والمستهلكون هم الشعوب لا السلطات، وعلى قدر ما يراقبون أنفسهم هم ألا يقطعوا ما بينهم وبين الشعوب، سواء لحساب أي سلطة من السلطات أو لحساب أنفسهم، يمكن أن يؤدوا أعباء المسؤولية الإعلامية الجسيمة التي يحملونها.
وتبقى الرقابة الحقيقية والنافعة التي يحتاج إليها الإعلام على الدوام، هي تلك الصادرة عن إدراك صاحب القلم أنه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وذاك مما يشمل ما شاع في العصر الحاضر وصفه بالتزام الثوابت والقيم والمصلحة العليا، ومن ذلك أيضا تجنب توزيع الاتهامات بلا حساب، وتعميم الأحكام دون تفكير، ورؤية مواقف الحق والاستقامة والصواب وإن صدرت عن خصم اعتاد في الأصل ألا يتجنب باطلا ولا خطأ ولا انحرافا، فالإعلام المستقيم يسمو بصاحبه إلى مستوى الرسالة المناطة به.
نحن نعايش ثورة إعلامية هذه الأيام، وهي ثورة إعلاء كلمة الحق، الكلمة السديدة الطيبة، الصالحة النافعة، المخلصة الصادقة، هي ثورة هادفة للبناء لا الهدم، والتقدّم لا التخلف، والوحدة لا التفرقة، وإن الله تعالى {يثبّت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضلّ الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} -إبراهيم: ٢٧-
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب