تحليل – هل هي حرب على إرهاب أم أخطر من ذلك؟

هل ننجح – رغم وعورة الطريق – في ‎الحفاظ على رؤية ومسيرة حضارية بشرية تعددية تلاقحية على أساس مبدأ "لتعارفوا.." الإسلامي؟

32

المظاهرات في الأصل وسيلة حديثة للتعبير عن احتجاج فئات شعبية لا تصل إلى حقوقها دون ممارسة "ضغوط" بهذه الصيغة وأشباهها.. فأين نصنف إذن مظاهرات فرنسا يوم ١١/ ١/ ٢٠١٥م بمشاركة مسؤولين سياسيين من مستوى الرئاسة ورئاسة الحكومات والوزراء من أربعين دولة أو أكثر؟

من العسير أن نقول إنهم يطالبون بحقوق مهضومة، ويحتجون على انتهاكها من جانب "السلطات" أو القوى المتنفذة، فهم السلطات ومن ورائهم القوى المتنفذة في كل دولة على حدة وعالميا..

وليس التعاطف مع "الضحايا وذوي الضحايا" في عملية الهجوم الدموي على مقر صحيفة "شارلي إيبدو" مما يدفع عادة إلى مثل هذه "التظاهرات" بمشاركة رسمية..

ثم إن الإجراءات المضادة التي يريد "الساسة المتظاهرون" اتخاذها انطلاقا من هذه العملية و"النهج الإرهابي" الذي تعبر عنه، لا يحتاجون إلى "مظاهرات" لاتخاذها، بل بدؤوا بها قبل وقوع العملية الأخيرة، واستأنفوها أثناء ردود فعلهم السياسية والإعلامية عليها، ومن المنتظر أن يزيدوها خلال المرحلة المقبلة.

 

بين السطور..

في مقابلة إذاعية ألمانية تحدث أحد "الخبراء" عن حوار بينه وبين "مسلم" من عامة المسلمين في ألمانيا، سأله عن موقفه من الهجوم على "شارلي إيبدو" فبادر على الفور أنه يدين تلك العملية الإرهابية بشدة، وأراد المتابعة ليتحدث عن موقفه بشأن الإساءات الكاريكاتورية، فاعترض عليه "الخبير" السائل، وعلق على ذلك في المقابلة أنه لا ينبغي أن تأتي كلمة "ولكن.." على ألسنة من يدينون الإرهاب من المسلمين في الغرب.. ويبدو أنه أغفل أو تجاهل أنه هو نفسه كان يمارس هذا الأسلوب، فيقول للمسلمين في الغرب: يجب أن تدينوا العمليات الإرهابية "ولكن.." لا يحق لكم أن يقترن ذلك بالاعتراض على الإساءات الكاريكاتورية وما يشابهها!

الجدير بالتنويه أن هذا بالذات ما أصبحت تفعله بالفعل منظمات إسلامية عديدة في الغرب، بل ومسؤولون سياسيون من بلدان عربية وإسلامية شاركوا في تظاهرات فرنسا تلك، بينما انفردت دولة المغرب بالإعلان رسميا أن عدم المشاركة كان بسبب موقفها من تلك الإساءات.

 

معنا دون شروط.. أو ضدنا

في مواجهة عمليات العنف الإرهابي غير المشروع يمكن أن نفهم تماما حجم المخاوف، ووجوب الرفض والإدانة، وحتى ضرورة بعض الإجراءات الأمنية المنضبطة، ولا نطرح هنا أمورا معروفة لا تنقطع الشكوى منها، مثل "الازدواجية" بالمقارنة مع نوعيات التعامل مع العنف الدموي الهمجي الاستبدادي عندما يجد دعما غربيا، مباشرا أو غير مباشر، ولا يجد "تظاهرات سياسية ضدّه"..

ولكن نقول: ولكن..

إذ يبدو أننا مقبلون على مرحلة أبعد أهدافا، وأعمق مغزى، من حلقة جديدة من حلقات "الحرب ضد الإرهاب" بعد الحلقة التي أطلقها بوش الابن والمحافظون الجدد قبل بضعة عشر عاما، لا سيما وأن كثيرا من العقلاء والمنصفين من المفكرين في الغرب، يحذرون من توجهات يمكن تلخيصها في أن "الخطاب السياسي والإعلامي" الغربي ‎الآن تطور بحيث غابت أو كادت تغيب فيه البقية الباقية من "حدود فاصلة" تميّز بين الكلام عن الإسلام والكلام عن الإرهاب، وكذلك بين الكلام عن "الإسلاميين" والكلام عن "الإرهابيين"..

لا يستثنى من ذلك "الخلط" إلا من يستجيب للمطالبة بأن يكون مسلما.. وأن يعبر عن رأيه.. في حدود المسموح به دون إضافة كلمة "ولكن.." احتجاجا على ما يراه "باطلا"، بما في ذلك الممارسات الاستبدادية والعدوانية، ناهيك عن تغييب حريات وحقوق لحساب حريات وحقوق أخرى، فهنا على "المسلم الوسطي المعتدل المسالم" السكوت، وقد يتطور السكوت إلى "رضوخ" ثم قد يتطور إلى مستوى "وجوب المشاركة".. على غرار كلمة بوش الابن المشهورة "معنا.. أو ضدنا"، بل معنا دون شروط.. أو ضدنا!

 

كيف نحافظ على سلوك حضاري

إن فريقا كبيرا من القوى المتنفذة في الغرب، تنتقل على ما يبدو بخطوات متعاقبة.. وخطيرة، من فترة سابقة، شهدت نشر هيمنتها عالميا، مع "تغييب" أدوار من يتشبث بعالم التعايش،‎ والتلاقح، والتنافس -وما شابه ذلك- في العلاقات البشرية على أساس التعدد الحضاري، إلى فترة قادمة بدأت تشهد "التصعيد" المتواصل نحو "صدام الحضارات" وصراع القيم.. هذا..‎ مع فرض تصورات أحادية.. لا سيما عبر "احتكار" رايات "الحريات الإنسانية والحقوق الأساسية".. بمنظور صيغتهم الفوقية لها!

الواقع أنهم هم الذين يصنعون "الجبهتين"، جبهة يوجدون فيها بجميع ما يملكون من وسائل القوة.. والقهر، وجبهة صناعة عدو لا يضيرهم أن يواجههم فيها بقوة "الإرهاب".. إذ يرون أنهم يملكون النفس الأطول لتحقيق الانتصار في صراع مباشر من هذا القبيل، وبالمقابل يخشون الخسارة في مواجهة معرفية وقيمية سلمية.. سواء مع جبهات صراع واقتتال أو دونها.. وهذا ما يرمز إليه رفض كلمة: "ولكن..".

والحصيلة:

إن التحدي الأكبر الذي نواجهه لا يكمن في "جبهة المواجهة بالقوة" تحديدا بل في الجواب على أسئلة التحدي الكبرى الجوهرية.. وأولها:

هل نستطيع "النهوض" بالفعل؟

هل نستطيع في الحقبة الحضارية الحالية الخروج من قعر ما صنعته الهيمنة وصنعة الاستبداد وصنعه القصور الذاتي.. لعدة أجيال، إلى مستوى ‎القدرة على استيعاب نوعية المرحلة المقبلة، وتأمين متطلباتها، والتعامل السديد معها؟

يمكن أن نضع صياغة أخرى لهذا السؤال:

أليس الخطر الأكبر كامنا في العجز عن هذا النهوض، أي في نجاح خصوم التعددية الحضارية عبر دفعنا دفعا تحت الإحساس بالقهر في مواجهة وسائل شرعة الغاب، للانزلاق إلى صيغة مضادة من جنسها، من جنس ما يمارسونه، من العدوانية والقهر والإرهاب، فآنذاك نكون مثلهم، حتى وإن كنا في جبهة مقابلة.. ويصبح الأمر أمر "موازين القوة المادية" فقط.

السؤال الأهم والحاسم: هل نستطيع تحقيق النصر بالفعل؟

هل ننجح -مهما بلغت وعورة الطريق- في ‎الحفاظ على رؤية ومسيرة حضارية بشرية تعددية تلاقحية على أساس مبدأ "لتعارفوا.." الإسلامي؟

نبيل شبيب