تحليل – هل للكلام قيمة ومفعول؟
هذا ما ينبغي تغييره تغييرا شاملا من الجذور
البناء يبدأ بالكلمة، مع الإعداد لما هو أبعد من الكلمة، ومع الاستعداد أيضا لتحمّل تبعات الكلمة
في كل مرحلة مأساوية من مسار التاريخ لا ينقطع سيل “كلمات” يدور محورها إلى حدّ بعيد حول قول أصحابها لبعضهم بعضا: لا نريد كلاما، فقد مللنا كثرة الكلام، إنّما نريد الأفعال، فهذا ما يغيّر الواقع القائم.
ومن يتابع ما يجري في بلادنا وعالمنا، والمذلّة المتحكّمة في صناعة قرارات تعبث بمصائرنا، والتي جرّأت وما زالت تجرّئ صغار الطواغيت وكبارهم على أرضنا وأهلينا، لا يعجب من أن يبلغ الألم مبلغه في النفوس، وأن يغطّي الانفعال على النظرة الموضوعية أحيانا، فيضع “قيمة الكلام” في موضع معيّن، كما لو كان هو السبب في عدم التحرّك بالأفعال الواجبة والممكنة.
صناعة “القهر”
ظاهريا يبدو الأمر أشدّ إقناعا إذا كان “الكلام” من قبيل “خطب حماسية” تريد إحياء الوجدان! وتلك “لعبة تضليل قديمة” وضعت الوجدان زورا في موقع مقابل للعقل والمنهجية والموضوعية، بأنّه إمّا أن نكون واقعيين، أو أن يكون لنا ضمير حي، أمّا عندما نتأثر وربما تدمع العيون ويهيج اللسان لمشاهد أطفال يقتلون ويحرّقون، ونساء لا يملكن الدفاع عن أنفسهم أمام الإجرام، ورجال ينفجر الشعوب بالقهر في وجوهم.. أما هذا فيعني “تلقائيا” العجز عن أن نكون واقعيين منهجيين وعمليين مبدعين ومنجزين!
كيف انتشرت هذه “البدهية” المزعومة؟ أو ما حصيلتها على أرض الواقع؟
بدلا من أن نمارس المنهجية وتكون لنا ضمائر حية وحماسة متدفقة وغضب مشروع، يحفظ العمل المنهجي من الفساد والانحراف والخيانات، كانت الحصيلة أن ضاع الوجدان من جهة، ومضت بنا من جهة أخرى حقبة من الزمن تقع فيها نكبات عسكرية ومذابح سياسية واجتماعية واقتصادية، هكذا جهارا نهارا، ولا يتحرّك أحد لا كلاما ولا فعلا ولا مقاومة!
حتى إذا استفحل الخمول وانتشر الركون للظلم بدأت موجة حملات “التيئيس” تحت عنوان أنّنا “عاجزون”، لمجرّد أنّنا عرب أو مجرّد أنّنا مسلمون!
ثمّ حتّى إذا بدأ التململ وظهرت معالم أولية للرفض والاحتجاج، والدعوات الأولى للتحرّك والعمل والدفاع والجهاد، باتت هذه الإرهاصات بمستقبل أفضل وجيل أصدق وأخلص وأكثر عطاء وإنجازا توصف بلهجة التحقير من شأنها بأنّها “صوت الشارع” فحسب، أي صوت لا ينبغي أن يسمعه “العقلاء” في رأس هرم السلطة، ممّن يحملون المسؤولية -وأمثالهم من قبلهم- عمّا وصلت إليه بلادنا في هذه الأثناء، من الصومال إلى العراق، ومن الصحراء الغربية إلى جنوب الفيليبين، وما وصلت إليه الأرض المباركة في القلب منها.
لقد قضينا عشرات السنين، وقرع طبول تلك الواقعية المزيفة العرجاء فيها يصمّ آذاننا، حتى باتت طبول الحرب الصهيوأمريكية (فالإيرانية والروسية) داخل أرضنا هي “الحصيلة”، وأصبحت الممارسةُ الفعلية لتلك “الواقعية” المزعومة، استسلاما ذليلا بعد استسلام، وانكسارا مخزيا بعد انكسار، حتى وصل صنّاع النكبات المُحْدثون إلى مستوى “الاستجداء” العلني للعدوّ بلا حياء، ومستوى إعلان العجز الفاضح عن دفع الخطر وذلك مع تشبّثهم بكراسيهم الرخيصة بكلّ تبجّح، بل ووصلوا إلى مستوى المباهاة بالفجور بتحريك مخالبهم وأنيابهم، ضربا بالهراوات واعتقالا وملاحقة وإهانة، تجاه مسيرة المخلصين في الانتفاضات الشعبية في أنحاء بلادنا، جنبا إلى جنب مع مظاهر استعراض الذعر المخزي أمام كل عدوّ يتهدّد حاضرنا ومستقبلنا.
كلام مطلوب وكلام محظور
ليست هذه أبدا الواقعية التي يمارسها العاقلون في أنحاء العالم، ويصنعون من خلالها في كل يوم واقعا جديدا، متبدّلا عن الأمس، مقوّضين في ذلك ما لا يروق لهم، وساعين إلى فرض البديل الذي يرون!
وليس مرضنا العضال كامنا في أننّا (نقول) ما يجب أن يقال في مواجهة كارثة أو عدوان أجنبي، ولا حتّى في أنّنا (نبالغ) في الحماسة في صياغة ما نقول، فلا يضرّ ذلك شيئا ما دام يقال إلى جانب عمل كل فرد ما يستطيع، في الموقع الذي يشغله، إنّما المرض الفعلي هو أنّه لا يراد لأي فرد أن يعمل إلاّ في نطاق المشاركة في عملية التدمير الجارية فسادا وارتباطا تبعيا أجنبيا وهدرا للثروات الوطنية بلدا بعد بلد وفي بلداننا مجتمعة، وكذلك لا يراد لأي فرد في الوقت نفسه أن يتكلّم عن شيء من ذلك، ولا عن مواجهة الكوارث أو عدوان خارجي.
الكلام مسموح والعمل مطلوب، ولكن في حدود المشاركة في عملية التدمير عبر مسيرة النكبات، والكلام محظور كما أنّ العمل محظور فيما وراء ذلك، في عصر احتكار فئة أو فئات باغية لصناعة القرار، وللكلام على السواء، حتى لتكاد حصيلة ما صنعته وتصنعه في قضايانا المصيرية يحرق الجميع حرقا.
هذا بالذات ما ينبغي رفضه رفضا قاطعا وتغييره تغييرا شاملا من الجذور.
نحن نحتاج إلى القول والعمل معا، ولا يوجد من ينكر وجوب العمل، بل بات الراجح بميزان ما نرصد من التواصل المتنامي من وراء تعدّد التيارات وتباعد المسافات، أنّ مرحلة الإنجاز الهادف والمنظم المتواصل قد بدأت أو أصبحت وشيكة، وستأتي رغم العقبات والعراقيل الكبيرة، الموروثة منها والمتشبّثة بمواقع صناعة القرار.
ولعلّ إرهاصاتها الظاهرة للعيان هي أحد أسباب تصعيد وحشية الهجمة المضادّة، وما يرافقها من مظاهر السعي الحثيث من أجل إسكات ما يظهر من أصوات مرافقة للانتفاضات الشعبية الواعية، وهو ما يأتي تارة في صيغة التهديد وبالبطش والقمع، وأخرى في صيغة التضليل والتزوير.
القيمة الذاتية للكلمة
من أبشع صور التضليل صورة أولئك الذين يكمّمون الأفواه بدعوى القعود عن العمل، وهم يستشهدون زورا بالتوجيه القرآني إلى العمل، ويواكبهم في ذلك بعض المخلصين عن غير قصد!
لا غبار بطبيعة الحال على التذكير بحقيقة أنّ القرآن الكريم يحثّ على العمل ويرقى به إلى مستوى الفريضة المقترنة بالإيمان، ولكنّ التزييف قائم في توظيف هذه الحقيقة في غير موضعها، والانطلاق منها للتهوين من شأن الكلمة وأهميّتها ومفعولها في حياة المسلمين وحياة عامّة البشر، وفي عملية “إحياء الوجدان” التي لا غنى عنها في أي “تحرّك عملي”، ولولا تلك الأهمية لَما أصبح من أكبر هموم الأجهزة القمعية مهمّة كبت الكلمة الحيّة الواعية وقمع أصحابها!
يتجاهل هذا التزوير القيمة الذاتية للكلمة، ويتجاهل موضعها في مرتبة متقدّمة من مراتب الجهاد، عندما يجهر بها صاحبها صادقا متوخّيا الصواب، لا يخاف في الله لومة لائم. ولا نحتاج في بيان ذلك هنا إلى التذكير بالآيات الكريمة التي تقرّر كيف ينبغي أن تكون الكلمة صائبة سديدة طيبة صادقة، وقد جعل الإسلامُ أسمى درجات الكلمة بعد شهادة التوحيد الصادقة، تلك الكلمة التي تحمل بحقّ وصف “كلمة حقّ عند سلطان جائر” فإن أفضت بصاحبها إلى الموت قتلا في الحياة الدنيا، أصبح في مرتبة “سيّد الشهداء” مع حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.
إنّ الذين يستشهدون بالإسلام استشهادا ناقصا، زاعمين أنّ قصدهم هو الشكوى من “كثرة الكلام” بدلا من المطالبة بالعمل مع الكلام، إنّما يساهمون عن حسن نية أو سوء قصد، في نشر الإحباط وترسيخ أسباب التيئيس في بلادنا، ويغفلون أو يتغافلون عن أنّ البناء الأول للمجتمع الإسلامي في العهد النبوي قد بدأ بالكلمة، مع الإعداد لما هو أبعد من الكلمة، ومع الاستعداد أيضا لتحمّل تبعات الكلمة، وكثيرا ما كانت سببا في الملاحقة والتعذيب والحصار، من قبل أن يصل المسلمون الأوائل إلى مرحلة التمكين و”الإذن” لهم بالقتال.
نحن في هذه الفترة بالذات في حقبة زمنية هي حقبة تحوّل في بلاد المسلمين، بمن فيها من مسلمين بعقيدتهم، وغير مسلمين مرتبطين بهذه البلاد انتماء وحضارة وتاريخا، وهو تحوّل تاريخي من وضع التردّي في الحضيض، إلى وضع نرجو أن نخرج منه على طريق الصحوة الشبابية الراهنة، وبحيث يصبح لنا من الطاقة الذاتية لمواجهة المخاطر المحيطة ببلادنا من كل جانب، ما يمكّن من مواجهة العدوان بما ينبغي، وبمختلف وسائل القوّة، وإنّنا على طريق هذا التحوّل بالذات، أحوج ما نكون إلى مواكبة الأحداث الجارية، بالكلمة الصائبة السديدة المعبّئة للطاقات.
لا يعني ذلك ترسيخ تصوّرات “النظرة المرحلية” وكأنّ المطلوب الآن هو الدفاع بالكلمة، وأنّ المطلوب في يوم ما الدفاع بالقتال، إنّما المقصود هو أن يكون لدينا الاستعداد في وقت واحد، على دعم كل قادر على الجهاد الحقّ بما هو أبعد من الكلمة، وكذلك على دعم من لا يملك سوى الكلمة، أو سوى الدعاء، بدلا من أسلوب تثبيط الهمم، ونشر التشاؤم من إمكانية التغيير، ولا نغفل هنا إن الله عزّ وجل خاطب المسلمين (بالكلمة) وهم في مرحلة الهزيمة قائلا: {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} فلنخاطب أنفسنا إذن بالكلمة القرآنية من جهة، ومن جهة أخرى بما تقتضيه تلك الكلمة من إعداد، والإعداد يكون بالعلم والتربية والتوعية والتخصص وجميع ذلك ممّا لا غنى عن الكلمة لتحقيقه، جنبا إلى جنب مع اتخاذ أسباب القوّة الأخرى، بسائر أشكالها.
نبيل شبيب