تحليل – منهجية تزييف المفاهيم

لا غنى عن العمل المبدع لإحياء ما يراد دفنه من تصوّرات قويمة، وإحياء فعالية تأثيرها على صناعة القرار وتوجيه الحدث

46

التحكّم بأرضية الوجدان والفكر في أعماق الأرض العربية والإسلامية، أشدّ خطرا من كثير من المشاريع التي يجري فرضها أو يتمّ التضليل للقبول بها على منحدر التطوّرات الجارية على الساحة الفلسطينية في حقبة النكبات الراهنة، فهذه تسقط بانكشاف أمرها، أمّا غياب الحافز الوجداني لإسقاطها فيمنعه وإن انكشف أمرها، كما أنّ العجز عن التعامل الفكري معها يحول دون القدرة على كشف حقائقها رغم المعاناة اليومية المحتملة منها.

رغم هذه الخطورة، سيبقى هدف تبديل ما استقر في وجدان الأمّة عبر عصور التاريخ، لا يتبدّل، وتعميم قوالب فكرية لا تجد من يخترقها من الأمور المستحيلة بطبيعتها، وتبقى بذلك احتمالات التغيير المستقبلية قائمة مهما بدت للوهلة الأولى بعيدة المنال، وجلّ ما يصنعه منحدر التنازلات من جهة والضغوط من جهة أخرى هو التأخير ونصب العراقيل على طريق الخروج من ذلك المنحدر.

 

منهجية تزييف المفاهيم

ما نعاصره عاما بعام، وشهرا بشهر في مجرى الأحداث والتطورات على ساحة القضية، من قبل كامب ديفيد إلى ما بعد أوسلو وأخواتها، بلغ ما لا يمكن الاكتفاء في التعبير عنه أو وصفه بكلمة “قلب المفاهيم” كما يقال عادة لوصف حالات بسيطة بالمقارنة مع ما نعايشه.

لم تكن نشأة هذا النهج المعوّج في الساحة الفكرية والإعلامية نشأة طبيعية، بل كانت وليدة ضغوط مفروضة، أي لم يكن القرار السياسي وليد “مسيرة فكرية منهجية موضوعية” وصلت إلى نتائج محدّدة فبدأت عملية الاقتناع والإقناع، إنّما كان توجيه الفكر وليد قرار سياسي اتخذ من فوق، وهو ما يعنيه الحديث المتكرّر عن “مفاجآت سياسية” مثلا، كالتي صنعتها زيارة الرئيس المصري السابق أنور السادات إلى القدس المحتلة، أو الكشف عن وجود مفاوضات دامت سنوات وهي طي الكتمان حتى تمخضت عن اتفاق “أوسلو”. بل حتى محاولات ربط الفكر بعجلة السياسة في قضية فلسطين اتخذت طابع “مفاجآت” كما كان عند الكشف عمّا سمي مجموعة “كوبنهاجن”!

لا حاجة إلى الاسترسال بالأمثلة للتأكيد أن جرّ الفكر جرّا خلف السياسة العقيمة بمنطلقاتها وبحصيلتها المرئية.. هذه العملية لا تعني مجرّد “الدعوة” إلى التفكير، أو إعادة التفكير بالثوابت، بل أخذت صيغة التهديم والتحطيم.

 

حتى في بعض البلدان التي بدأت تنعم بشيء من حرية الفكر والتعبير النسبية، يلفت النظر أن ما يسمّى الخطوط الحمراء فيها يحيط فيما يحيط بالقرار السياسي بشأن فلسطين بالذات، فلا يؤثّر عليه احتمالُ الوصول إلى نتيجة ما مختلفة عبر البحث والتفكير والمنهجية والموضوعية.

إن الممارسات السياسية الجارية في قضية فلسطين هي سياسات “فكر مفروض” -إذا صحّ وصفه فكرا-  مع ما رافق ويرافق ذلك من كبت وقيود، ومن توجيه ضربات مباشرة للتمرّد الفكري على الكبت والقيود، وهذا ما يزداد حجما وثقلا بصورة متناسبة طرديا مع مدى القرب الجغرافي من الموطن الأوّل للقضية المصيرية بفلسطين، حتى يصل إلى أقصاه، فيبلغ فرض العقوبة بالسجن لمجرد صدور بيان معارض، أو إغلاق صحف وملاحقة صحفيين لمجرّد الامتناع عن نشر موقف صدر عن السلطة، وقد تبلغ الضغوط مستوى القتل أو التعذيب حتى الموت إذا كانت المعارضة مقترنة بالمقاومة، وجميع ذلك ممّا شهدته مسيرة أوسلو في ظل السلطة الفلسطينية.

 

في البلدان المحيطة بفلسطين مباشرة، سواء ألغيت في بعضها قوانين مصادرة الفكر والكلمة أو بقيت ولكن ضعُف مفعولها نتيجة الضغوط، فإنّ سدّ السبل بين ما يقول به معارضو السياسة الرسمية في قضية فلسطين، إن لم يجدوا التقييد المباشر، وجدوه بإجراءات أخرى، كاستحالة النهوض بوضع صحيفة معارضة لا تجد الورق ولا إمكانات الطباعة إلا بقيود، أو عبر قوانين صحافة تضع خطوطا حمراء مرفوضة بحدّ ذاتها كما أنّ تطبيقاتها التي تتجاوز حتى مضامينها المتشددة مرفوضة بمختلف مقاييس حرية الفكر و”خصوصيات” الثقافة ومتطلبات المرحلة، وهذه من بعض ما يلقى جزافا من ذرائع لعدم إطلاق الحريات والحقوق الأساسية كما ينبغي.

الجو الفكري حافل بالقيود، وقد بات هذا أمرا معروفا، ولكن إلى جانب الإقرار بذلك، والإحساس بثقل أجواء الكبت أو ممارسات تقييد الفكر السائدة المفروضة، يراد من أبناء فلسطين ومن العرب والمسلمين، أن يسلّموا بصحة مزاعم تتردّد بلهجة تريد الإيحاء أن أصحابها يصدقونها فعلا، وتقول إنّ مسيرة كامب ديفيد ومدريد وأوسلو كانت ثمرة “اقتناع فكري” نسف اقتناعات سابقة نسفا، ووصل هكذا.. نتيجة النظرة الموضوعية المنهجية، إلى أن الأفضل للعرب والمسلمين هو عدم التشكيك بمشروعية بقاء الدولة العبرية، وبالعمل من أجل التعايش معها، مع تحويل الأرض الفلسطينية إلى نواة منطقة شرق أوسطية؟

يراد إقناعنا -شئنا أم ابينا.. فأين الإقناع إذن؟

 

السياسات الراهنة لم تقطع خطوة من خطوات سابقة في قضية فلسطين إلاّ جنبا إلى جنب مع خطوات أكبر وأوسع على صعيد مصادرة حريات الفكر والتعبير وتقنين ما يسمح وما لا يسمح منها واعتبار القليل الذي يسمح به أحيانا للتنفيس عن مشاعر مكبوتة أو امتصاص نقمة بدأت تغلي..

كيف يراد أن نقتنع إذن أنّ هذه السياسات كانت وليدة “تحرّر فكري” من أساليب حماسية وعاطفية بائدة، أثبتت عدم جدواها، وإن من مصلحة الفلسطينيين ومصلحة العرب والمسلمين إذن المضي قدما في الصلح مع اليهود، وتحويل الخلاف إلى مجرد خلاف حدود وبنود وبعض المستعمرات والصلاحيات؟

 

إنّ الحديث عن وجود موضوعية ومنهجية في هذا الطريق، مع اقتران ذلك بالتنديد والتقريع تجاه المتهمين بالأوهام العاطفية والحماسية، ليس حديثا يستدعي النقاش قدر ما يستدعي الإشفاق على أصحابه، هذا إذا كانوا يصدّقون أنفسهم فعلا، ويتجاهلون واقع الرفض الفكري العام القائم تجاه ما يصنع بقضية فلسطين على مختلف المستويات، والذي عبّر عنه المفكرون في المنطقة العربية والإسلامية، بمختلف الأساليب والوسائل المتاحة، أحيانا دون مستوى الخطوط الحمراء وأحيانا أخرى مع المخاطرة باختراقها.

ولئن وجدت فئة ما، يمكن -دون انتخابات واستفتاءات ولا ما شابه ذلك من وسائل موضوعية للتأكد المنهجي من حقيقة الإرادة الشعبية- أن تزعم لنفسها أنّها هي التي تمثل تلك الإرادة، فهي تلك الفئة من المفكرين الأكبر عددا وانتشارا، والأكثر التزاما بالمنهجية الفكرية، وليس الفئة التي تزعم ذاك لنفسها وهي لا تنقطع عن طرح مفاجآتها واكتشافاتها التي تؤكّد “تمرّدها” على الموجود العام، وكأنّها هي الملهمة دون سواها، فتطيح بثوابت قديمة ومعاصرة، فكرية ووجدانية، دينية وقومية وثقافية وحضارية، أو تسعى دون جدوى لذلك، ولكن تطيح فعلا، في نطاق ما تقول وتنشر بثوابت المنهج العلمي للبحث والتفكير والمنطق كما عرفتها حضارات الأمم السالفة وما يزال يسري مفعولها إلى اليوم.

إنّ ما يوصف بالطريق الموضوعي المنهجي في قضية فلسطين لم يبدأ إلاّ بعد التخلّي عن الوجدان ومفعوله، وذاك ما يجري الخلط بينه وبين الحديث عن حماسة مفرطة دون إعداد منهجي، أو تهوّر لا يصدر عن العاطفة الصادقة قدر ما يصدر عن الجهل.

 

إن الطريق الموصوف بالمنهجية لم ينطلق من المنهجية بمعنى الكلمة، وإنّما استند إلى أساليب متناقضة مع أبسط صور المنهجية والعقلانية، ولا يبدو وكأنّه يستقطب “تأييدا” كبيرا إلاّ نتيجة أمرين ما زال أحدهما يدعم الآخر تلقائيا:

أوّلهما: بقاء معظم وسائل التعبير عن الفكر والرأي خاضعة لمنطق “السيطرة” ومنطق “التبعية للسياسة”.

وثانيهما: استمرار وجود قدر من التردّد أو القصور من جانب من يعتبرون أنفسهم هم أصحاب الفكر الأصيل -في قضية فلسطين وسواها- في ميدان لا غنى عنه ليكون للفكرة أثر على أرض الواقع، وهو ابتكار الوسائل والسبل والأساليب، التي تمكّنهم من اختراق الحصار المفروض دوليا وإقليميا حول الطرح السليم للقضية، وحول محاولات بيان البديل الذي تفرضه الثوابت.

 

وليس من المعقول ولا المقبول تعليل التردّد والقصور بالقول إنّ “الحواجز والموانع” تحول دون ذلك، بل الأصل في كلّ تحرّك فكري حضاري يصنع التغيير، وجود ما يستدعي التغيير من مثل تلك الحواجز والموانع، ولولا وجودها لسقطت الحاجة إلى التحرّك أصلا.

إنّ “الرسالة” التي يحملها أصحاب الفكر الأصيل في حقبة التقييد أو الحصار، هي القدرة على الجمع بين متطلبات اختراق الحواجز وتجاوزها في اتجاه التغيير نحو الأفضل، وبين متطلبات عدم الوصول بذلك إلى مستوى إحداث فتنة قد تكون أشدّ خطرا من عدم التحرّك أصلا.

من يعتقد بأنّ المقومات الأساسية في قضية فلسطين معرضّة للخطر ومعها ثوابت عقدية وحضارية، وأنّه قادر على الإسهام في مواجهة الخطر، فلا بد أن يضع في حسابه وجود من يتحرّك بصورة مضادّة، ولا يفيد انتظار أن تزول الحواجز والموانع والعراقيل من نفسها فلن تزول، ولا غنى عن العمل المبدع لإحياء ما يراد دفنه من تصوّرات قويمة، وإحياء فعالية تأثيرها على صناعة القرار وتوجيه الحدث بدءا بإحياء ما يكاد يوأد وأدا من الوجدان، وانتهاء بوضع المخطّطات السليمة وتنفيذها، عبر رؤية ما يتوفّر من إمكانات وطاقات وتوظيفها كما ينبغي وتطويرها وتنميتها بصورة متجدّدة مستمرّة.

 

ليس مضمون تلك الرسالة “الفكرية” بسيطا، ففيه مستقبل الأمّة وجوهر وجودها، ليس كمجموعة من البشر موجودة في رقعة ما من الأرض، بل كأمّة تمتلك سيادتها على أرض متحرّرة تسمح بالحياة الكريمة على ترابها، ولا ريب إطلاقا في أنّ كلّ أمّة من الأمم تتخلّى عن ثوابتها، تضع نفسها تلقائيا على طريق الضياع، بدءا بتمييع شخصيتها الحضارية وانتهاء باضمحلال تأثيرها السياسي وغير السياسي في عالمها وعصرها، بما في ذلك ما يرتبط ارتباطا مباشرا بقضاياها الحيوية المصيرية.

نبيل شبيب