تحليل – منعطف مفصلي في مسار الثورة السورية
إن انتصار ثورة سورية هذه الأيام يضع مسار التاريخ البشري منذ مائة عام وزيادة أمام منعطف مفصلي بعيد المدى بنتائجه
الغزو الجوي الروسي هو الورقة الأخيرة حتى الآن في جعبة نظام شرعة الغاب العالمي للتخلص من ثورات شعبية في سورية وأخواتها، كسرت أخطر دعامة لذلك النظام المنحرف عن القيم الإنسانية والحضارية، وهي
دعامة الهيمنة والتبعية المفروضة على بلدان العالم، لا سيما في المنطقة العربية والإسلامية.
والغزو الجوي الروسي هو الورقة الأشد عنفا وهمجية والأكثر تعبيرا عن العدوانية المطلقة، وإن كان لا يمثل بحجمه وعنفوانه ما سبق أن مارسته قوى العدوان الدولية في أفغانستان والشاشان وفي العراق وفلسطين وغيرها، ولا بد أن يكون مصيره الانحسار والإخفاق ثم اللعنات المتوالية من أجيال البشرية التالية كما تلعن أفاعيل فرعون والنمرود ونيرو وأمثالهم.
إن الغزو الجوي الروسي واحتضانه بالتنسيق المشترك مع الأمريكيين والإسرائيليين تخصيصا، يكشف عن أن ما تصنعه الثورة في سورية هذه الأيام لا يقتصر بمفعوله ونتائجه على سورية، ولا يقف بأبعاد التغيير الجذري الذي شق طريقه عند حدود اللحظة التاريخية الآنية.
إن انتصار ثورة سورية هذه الأيام يضع مسار التاريخ البشري منذ مائة عام وزيادة أمام منعطف مفصلي بعيد المدى بنتائجه.
. . .
هل لدينا أوضاع ومعطيات ذاتية تكفي لتحويل هزيمة العدو إلى انتصار وتغيير.. هل يتحقق ذلك في سورية ومن ثمّ في سائر بلدان المنطقة التي تعانقت فيها "قضية التحرير عبر ثورات الربيع العربي" مع "قضية التحرير عبر الانتفاضات الفلسطينية"؟
ليس هذا أملا بعيد المنال.
إن الصمود الثوري المذهل في سورية، واستمرار الثورة سنوات عديدة، وانتصاراتها على أبشع أشكال الإجرام الأسدي والشركاء في الإجرام إقليميا ودوليا، يؤكد أن هذه الثورة فجرت في آذار/ مارس ٢٠١١م طاقة أعظم وأكبر بكثير مما توقعه صانعوها وأعداؤها على السواء، رغم أخطاء ذاتية وانحرافات مصنوعة داخليا وخارجيا.
إنما لا يتحقق الانتصار الحاسم على منعطف التغيير الجذري عالميا من خلال التمنيات، وإن كانت مشروعة، ولا بالأدعية طلبا للنصر وإن كانت مفروضة مطلوبة، بل المسؤولية أكبر مما مضى على الثوار ومن يدعم الثوار صادقا مخلصا، فلا تقتصر على تحرير ريف أو مدينة، ولا توجيه ضربة لمعقل من معاقل استبداد محلي وميليشيا مستوردة، ولا تقتصر قطعا على تلبية الاحتياجات الإنسانية والمعيشية لملايين النازحين والمشردين والمحاصرين والمصابين.
لن يرحم سجل التاريخ ولا أجيال المستقبل عدوا مجرما.. ولن يرحم أيضا من ينشغل عن مواجهته بما يستحق وما يكفي لدحره وهزيمته.
. . .
هي مسؤولية إحقاق الحق وهدف الانتصار من خلال توحيد الصفوف ميدانيا، والتحدي الجماعي لجميع قنوات الدعم المزعوم والحقيقي، ألا تستمر في استغلال الدعم لتفرقة الصفوف..
وهي بالمقابل المسؤولية عن زيغ الباطل وتأخير النصر عند الاكتفاء بالحديث عن توحيد الصفوف وبعض المحاولات الجزئية..
هي مسؤولية إحقاق الحق وهدف الانتصار من خلال توحيد الرؤى فكريا وسياسيا، وتلاقي القادرين على ذلك فكرا وتخطيطا وإبداعا وتوجيها..
وهي بالمقابل المسؤولية عن زيغ الباطل وتأخير النصر عند استمرار المراوغة حول التشبث بالرؤية الذاتية وحدها مهما كان شأن من يتشبث بها وشأن مبرراته المزعومة..
. . .
لقد سلمت النسبة الأعظم من شعب سورية قيادها ووضعت أحلامها وأمالها ودماءها وأرواحها بأيدي من يتصدون لقيادة هذه الثورة ميدانيا وسياسيا وفكريا وتوجيهيا، من علماء ومن ألحق نفسه بوصف العلماء، ومن متخصصين عسكريين ومن ألحق نفسه بهم، ومن سياسيين مبدعين ومن يزعم ممارسة السياسة زعما.. سلمتهم القياد فحمّلتهم بذلك مسؤولية كبرى اليوم وبين يدي الله تعالى..
ولكن نعلم أن القيادات قد تصنع المناصب عبر إنجازات تملؤها وترفع مستواها.. ولكن المناصب لا تصنع القيادات بالتمني والادعاء.
لا تزال هذه الثورة التاريخية المزلزلة عالميا، في حاجة إلى قيادات تدرك حجم المسؤولية الكبرى، وتتعاون حقا لا كلاما، وتثبت وجودها وكفاءاتها من خلال عطاءاتها ومن خلال تنامي الالتفاف حولها لا الانسحاب من جماعاتها.. ولا يتحقق ذلك من خلال "قدرتها" على فرض ما تريد بقوة السلاح أو المال أو العلاقات الخارجية، بل من خلال كفاءاتها وإقدامها وبعد نظرها والحكمة في تصرفاتها.
إن كل قطرة دم تسفك في غير ميدان الجهاد لدحر العدو وهزيمته كبيرة من الكبائر في حساب المسؤول عنها والمشارك فيها.. وإن كل قطرة دم تسفك نتيجة العدوان العالمي على سورية، يحمل المسؤولية عنها المجرمون كما يحمل قسطا من المسؤولية كل من لا يعمل للارتفاع بمستوى مواجهة المجرمين ميدانيا وسياسيا وفكريا وإعلاميا وتخطيطا وتنفيذا، بدءا بتوحيد الرؤى والصفوف، انتهاء بأن يمسك كل فرد لسانه وقلمه عن الإمعان في تفرقة الصفوف وفي خدمة الباطل، عبر الطعن والافتراء والإفك والبهتان ونشر التيئيس والإحباط والتشكيك.
لن ينتصر العدو فدولة الباطل ساعة.. ولن ننتصر حقا ما لم نحقق شروط الانتصار في أنفسنا حقا، فآنذاك يكون التمكين الحق إلى قيام الساعة، أو إلى ما شاء الله.
والله ولي التوفيق
نبيل شبيب