تحليل – مع جيل الأطفال والناشئة من المشردين

من يستجيب، وكيف، وهل يوجد من يصنع ذلك في الوقت المناسب.. أي الآن؟

43

جيل الأطفال والناشئة من المشردين عن سورية -وأخواتها- هذه الأيام، هو الضحية الأكبر، ومصيره هو المصير الأخطر على نفسه وعلى مستقبل الوطن الأم، ويستحق الأولوية اهتماما وعملا، على سواه.. بما في ذلك تلبية احتياجات ملايين المشردين البالغين، الذين خسروا مع الاستقرار في الوطن ما كان لهم فيه من ممتلكات وعلاقات واستقرار. ولا تكفي مقالة موجزة نسبيا لطرح المشكلة واقتراح العلاج، فتقتصر الفقرات التالية على التنويه بخطوط عريضة تطرح المشكلة، على أمل أن يحظى العمل للعلاج على اهتمام "كبير وسريع" لا سيما في إطار العمل الأهلي/ المدني.

 

أجيال متعاقبة من المشردين

لاستشراف الخطر الجسيم حاليا ومستقبلا نلقي نظرة عاجلة على العقود الماضية في المغتربات، إذ عرفت جيلا سابقا من ‎الأطفال والناشئة من المشردين مع ذويهم، وكذلك من المواليد في المغتربات، فليست مأساة التشريد الحالية الأولى من نوعها، وتكرارها يفرض التعامل مع الوضع الحاضر باهتمام أكبر، عسى ألا تتكرر مستقبلا.

عرفنا مثلا "هجرة الأدمغة" وكانت تشمل أصحاب الكفاءات والتخصصات، كما تشمل "مواليد" العمال "الأجانب" في المصانع الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، فقد أصبح معظم "الجيل الثاني والثالث"، من أصحاب الكفاءات والتخصصات، الجامعية والمهنية، ولكن امتنعوا عن العودة إلى الأوطان الأم، بسبب الأوضاع الشاذة فيها، سياسيا، وإداريا، واقتصاديا، وأمنيا، واجتماعيا، وقانونيا، وقضائيا.

هذه "جريمة متواصلة" بحق نهضة الأوطان، أصلها جريمة سياسية، عندما أصبحت "ملاحقة الآخر عدائيا" تشغل الانقلابيين مما شمل سورية وتونس وليبيا على سبيل المثال دون الحصر، ولهذا يجب التأكيد، أن ثورات التغيير العربية لن تحقق أهدافها ما لم تشمل حصيلتها استئصال "وباء ملاحقة الآخر".

ووجدت أسباب أخرى هي -معذرة- حماقات استراتيجية ينبغي تجنب الوقوع فيها مستقبلا أيضا، ولا تقل أهمية ذلك عن أهمية هدف التحرر والسيادة، وتجسدت تلك "الحماقات" لعدة عقود في حملات متتالية لتعيين أصحاب الولاءات بدلا من الكفاءات، كما تجسدت في ا‎لاعتماد على الخبير الأجنبي على حساب "الخبير" العربي أو المسلم وإن شغل في المغترب مواقع توجيهية وإدارية رفيعة.

هذا مما جعل النهضة الحقيقية -وليس طفرة الاستيراد والاستهلاك- أمرا بعيد المنال، اقتصاديا وعلميا وتقنيا وحتى إعلاميا وفكريا، في المنطقة العربية والإسلامية عموما، ويتبين "جوهر المشكلة" بالنسبة إلى الجيل المشرد من الأطفال والناشئة الآن، عند الإشارة إلى "هجرة معكوسة للأدمغة" في أوائل القرن الميلادي الحادي والعشرين، سجلتها تركيا تخصيصا، عندما تبدلت فيها وجهة الحياة السياسية والاقتصادية بعد انهيار، فأصبح تعداد العائدين من الخريجين والمتخصصين بما في ذلك من ولد ونشأ ودرس وعمل في أوروبا، أعلى سنويا ممن يغادرها للعمل وطلب الرزق في بلد أوروبي.

 

حجم المسؤولية الحالية

سيان ما هي أسباب تعرض طفل أو فتى ناشئ، من سورية وسواها، يتيم أو مع ذويه، للحياة الآن مشردا تحت الخيام أو في ‎ظروف استقرار مادي ما، فهو معرض للخطر المباشر أكثر من "البالغين"، إذ يتزامن تشريده مع مرحلة تكوينه الرئيسية، نفسيا وخلقيا وسلوكيا وتربيويا وتأهيلا علميا ومهنيا، وحصيلة ذلك على مستوى جيل يعد الملايين، هى الفاعلة والحاسمة أكثر من سواها، سلبا أو إيجابا، في مستقبل "الوطن والقضية".

بغض النظر عن ملابسات ومشكلات عديدة -ليست موضع الحديث هنا- يتركز الاهتمام "المصلحي منطلقا الإيجابي بنتائجه" في البلدان المضيفة للمشردين، من جانب جهات رسمية وتطوعية ومن جانب قليل من الناشطين العرب والمسلمين عبر منظمات المجتمع الأهلي/ المدني وما يلحق بها، على:

١- التأهيل المهني ومصدر الرزق.

٢- "التوعية" التي تحقق‎ "الاندماج" في المجتمع المضيف.

٣- مقعد الدراسة للأطفال والناشئين.

٤- كفالة الأيتام من جانب الأسر والمنشآت الكنسية والتطوعية.

٥- رعاية نفسية محدودة وفق معاييرها السائدة في البلد المضيف.

تدرك الجهات الرسمية أن الاحتياجات، لا سيما لجيل الأطفال والناشئة، أكبر من ذلك، وتقدّر أن النشأة في مجتمع "غريب" يسبب أزمات ويواجه صعوبات جمة، ومن هذه الجهات الرسمية من يطرح ضرورة الاعتماد على أفراد وهيئات تنتمي إلى الأوطان الأم للمشردين، للتغلب على تلك الأزمات أو استباق وقوعها بالوقاية الممكنة.

السؤال: من يستجيب، وكيف، وهل يوجد من يصنع ذلك في الوقت المناسب.. أي الآن؟

السؤال المهم أيضا: من يؤدي المهام الأخرى التي لا تستطيع تلك الجهات المضيفة أداءها، أو هي غير مؤهلة لذلك وأن امتلكت "إمكانات مادية وتخصصية" كبيرة، والمقصود بالمهام الأخرى، ما يتجاوز النقاط الخمسة السابقة ويستكمل احتياجات جيل الأطفال والناشئة من المشردين، وفق ما سبق ذكره، أنه "مشرد" وهو في مرحلة تكوينه الرئيسية، نفسيا وخلقيا وسلوكيا وتربيويا وتأهيلا علميا ومهنيا.

 

رعاية جيل المستقبل

يمكن بيان المعطيات وبالتالي التنويه إلى المطلوب من خلال أمثلة موجزة.

نفسيا.. المطلوب "رعاية نفسانية" تحول دون أن تسبب المعايشة المبكرة لويلات القتل والقهر والتشريد عقدة نفسانية مستعصية، هنا لا يكفي "النسيان" بل المطلوب "توازن نفساني" يمنع "روح الانتقام" ولكن لا يمنع أداء دور مستقبلي واجب للحيلولة دون تكرار مسببات الويلات المفزعة وتشريد أجيال قادمة.

خلقيا.. توجد اختلافات قيمية خلقية معروفة بين المجتمعات، مثالها من ‎المجتمع الألماني المقصود أكثر من سواه لتوطين المشردين، إذ انتشرت مادة "التربية الجنسية" وفق ممارسات معروفة حاليا، في مناهج التربية والتعليم بدءا من سن الحضانة، ليس كمادة مستقلة، بل مندمجة في سواها وفق المخطط رسميا لها، فلا يمكن "الغياب" مثلا ولا يمكن للطفل والناشئ أن يميز ما يتلقاه تحت عنوانها، كالعلاقات "المثلية" وبين سواه في وعاء تربيوي وتعليمي اندماجي، فكيف يتعامل مع ما يتلقاه هنا وما يعيشه أو يتلقاه في نطاق أسرته المشردة معه، ثم ما مصير اليتيم المحروم من حياته الأسروية الأصلية؟

سلوكيا.. "الدروس" السلوكية في مرحلة النشأة الأولى، هي دروس الأسرة والمجتمع والبيئة معا، وهي أسرع تأثيرا وانتقالا من سواها، ويضاعف تأثيرها نتيجة "النقلة" الكبرى من حياة المعاناة إلى حياة مستقرة نسبيا رغم ظروف التشريد والاغتراب، وأحوج ما يحتاج إليه جيل المستقبل هنا، هو تأمين معطيات أسروية ومجتمعية وبيئية تعوضه، وتشمل ضوابط قيمية دون إكراه ليتعامل مع ضغوط سلوكية كبيرة حوله.

تربيويا.. تجمع كلمة "تربيوية" ما سبق مع ملاحظة عنصر رئيسي، أن أسلوب التلقي والتقليد في المجتمع المضيف قائم ولكن بصيغة مختلفة عما ترمز إليه كلمات "الطاعة" و"القدوة" وما شابهها في المجتمعات الأم.. فالتأثير التربيوي ينساب انسيابا ويمثل حصيلة "ضغوط" اجتماعية لا يسهل على الفرد تجنب التأثر بها، ويعني ذلك أن تأمين الجوانب النفسية والخلقية والسلوكية السالفة الذكر تتطلب حواضن تربيوية "مؤسساتية" إضافية للمشرد من الأطفال والناشئة.

تأهيلا علميا ومهنيا.. يبدو هذا الجانب حياديا بالمقارنة مع ما سبق، بل هو إيجابي بالنسبة إلى جيل المستقبل في حصيلة مأساة التشريد، إنما تحتاج الفترة الزمنية الأولى إلى جهد إضافي ينقل الفرد من الاعتياد على منهج "التلقي" المنتشر في معظم المؤسسات التعليمية والتأهيلية في الوطن الأم، إلى الاعتياد على "استقلالية القرار" نسبيا، واحتضان "الإبداع" وتشجيعه عموما، وهذه نقلة ضرورية لتحقيق النجاح الفردي التأهيلي المرجو دون عقبات مبدئية، قد تتحول إلى "عوائق وأزمات" بآثار مستدامة.

نبيل شبيب