تحليل – معايير الثورة للمعارضة السياسية!

ليس ما تصنعه موسكو مع الثورة الشعبية في سورية سياسة حرفية قويمة ولا حتى سياسة واقعية نفعية

41

الذين استخدموا تعبير المعارضة وعمموه في التعامل مع من يتحدث سياسيا باسم الثورة يعلمون أن التعبير لا ينطبق اصطلاحيا بحال من الأحوال على من يوصف بهذا الوصف، منذ اندلاع الثورة الشعبية في سورية على الأقل.

إنما القصد -من البداية- هو التعامل مع ثورة شعب وكأنها "أزمة" بين طرفين: نظام ومعارضة، وهم يدركون أن هذا يدعم ما يسمّى نظاما نعلم أنه فاقد الشرعية من لحظة ولادته المشؤومة، أي أنه لا يمثل "دولة وشعبا وأرضا" منذ فرض نفسه بالقوة الانقلابية العسكرية، وباستئصال كل جهة تعارض الاستبداد والفساد.

وبالمقابل فإن وصف المعارضة يحوّل دور من قبل لنفسه هذا الوصف من "جناح سياسي لثورة شعبية أو حركة تحررية" إلى مجرد تجمع لأفراد يعتبرون أنفسهم سياسيين، ولا يقفون على أرضية دستورية.

إن "المعارضة" في علوم السياسة وقانون الدول والقانون الدولي، هى الجهة "المنتخبة" في دولة معتبرة، دون أن تحصل على غالبية لتشكيل حكومة، فتمارس عملها السياسي دستوريا وقانونيا داخل نطاق الدولة المعتبرة، ويمكن أن تصل إلى السلطة في انتخابات تالية.

لا وجود لمثل هذه المعارضة في سورية منذ ١٩٦٣م، ناهيك عن وجودها بعد اندلاع الثورة، إنما وجدت من قبل حركات سياسية في الداخل والخارج، مضادة للجهة التي اغتصبت السلطة، ولم تحقق أهدافها، وانتهى دورها يوم تحرك الشعب الثائر لينتزع بنفسه لنفسه صلاحية تمثيل نفسه بنفسه عبر الثورة، ولهذا أصبح شرط الحديث باسمه مرتبطا بإرادته الثورية ارتباطا مباشرا، أي بما يتحقق من إنجاز فعلي على طريق تحقيق أهداف ثورته.

 

المعايير.. أهم من الرفض والتأييد

هذه مقدمة لا بد منها كلما دار الحديث عن "معارضة ونظام" بغض النظر عن إنجازات تحققت أو أخطاء وقعت من جانب أفراد وتجمعات تشكلت بعد قيام الثورة، أو تحركت انطلاقا من تشكيلاتها السابقة، وهذا ما ينبغي استحضاره عند الحديث عن مسلسلات جنيف، أو في الوقت الحاضر عبر ما يمكن وصفه دون تردد بالعبث السياسي الروسي تحت عنوان "منتدى" أو "لقاء" أو مفاوضات".. فالتسمية ليست مهمة، ولا تغير من المضمون شيئا.

ولا بد من هذه المقدمة أيضا لتحديد الأساس الضروري لأي حديث يتناول إجمالا أو تفصيلا ما جرى ويجري تحت عنوان "تفاوض" أو ما يشابهه، من قبل في جنيف، وحاليا في موسكو أو القاهرة.

وفي مقدمة محاور هذا الأساس بإيجاز:

١- إن أداء أي "فريق منظم" ابتداء بالائتلاف الوطني انتهاء بهيئة التنسيق، مرورا بتجمعات أخرى عديدة، صغيرة وكبيرة، وكذلك أداء أي فرد من الأفراد يتحدث ويتحرك سياسيا باسم الثورة.. هذا الأداء يقاس بمعيار واحد: هل يمثل الحديث أو التحرك السياسي بغض النظر عن اسم صاحبه، أهداف الثورة ويخدمها، أم ينحرف عنها ويلحق الضرر بها.

٢- إن كل ما يصدر عن جهة أجنبية، إقليمية أو دولية، باسم مبادرة أو دعوة أو قرار، لتحرك سياسي، تحت عنوان حل وسطي، أو حل مرحلي، أو سوى ذلك من التسميات، يقاس بمعيار واحد: هل تستجيب تلك الجهة لإرادة الشعب الثائر أم لا تستجيب، وليس هل تحقق مصالحها الذاتية ورؤيتها لحصيلة الثورة أم لا تفعل، وهل تتمكن من ربط مصير عدد أكبر أو أصغر من التنظيمات السياسية والفصائل المسلحة بها كطرف خارجي.

٣- وإن أي طرح تحت عنوان "حل" أو بأي تسمية أخرى، للتعامل مع الثورة ومسارها، يقاس بمعايير عديدة لا مجال للتفصيل فيها هنا، ولكن ينبغي ذكر أحدها، وهو: هل يؤدي الطرح المعني إلى العدالة والحرية والكرامة للشعب كله، أي لحصول المحرومين على حقوقهم وسلب الآخرين ما اغتصبوه.

ويعني المعيار الثالث المذكور:

لا قيمة للأقاويل والذرائع التي تلقى جزافا بشأن "حقوق ومصالح" لجهات تنتسب لما يسمى النظام، أو تنتفع بوجوده، أو تلحق به، أو تقبل باستغلاله لها، ناهيك عن المشاركة في جرائمه، فالثورة انطلقت لتغيير هذا الوضع الاستبدادي الفاسد بالذات، ومن أجل تحقيق العدالة والحرية والكرامة لشعب سورية بأكمله، وهذا يتحقق بأمرين متكاملين متلازمين:

(١) حصول المحرومين على العدالة والحرية والكرامة وما يتفرع عنها..

(٢) إنهاء حالات الاغتصاب والتعدي، أي ما يمارسه الآخرون الآن ويتناقض مع العدالة والحقوق والحريات، فلا بديل عن انتزاعه انتزاعا من المنتفعين والموالين والمؤيدين وغيرهم، كي يستقيم الوضع المطلوب، والذي دفع الشعب الثائر ثمن الوصول إليه، هذا علاوة على مقاضاة كافة المشاركين في ارتكاب الجرائم مباشرة، أمرا أو تنفيذا لأمر، مقاضاة قويمة، أي عندما يقوم نظام قويم في دولة قويمة على أسس قويمة من بينها وجود القضاء الحرفي المستقل النزيه.

 

كلمات عابرة بشأن العبث السياسي

بعض ما يجري باسم "الثورة" أو التعامل معها لا يستدعي الوقوف عنده، ولا تحليله وتفنيده وبيان مزاياه ومساوئه، فقد باتت الغالبية الكبرى من شعب سورية الثائر تدرك دون عناء كبير حقيقة ما يجري، وتوافقه مع الإرادة الشعبية الثائرة أو عدم توافقه، ولئن كان يوجد بعض الالتباس فيما واكب مسلسل جنيف واحد وجنيف اثنين، فلا يوجد التباس فيما يواكب الآن الحلقة الأولى من مسلسل موسكو واحد.

لقد سقط جميع ما كان يتردد على بعض الألسنة من احتمال أو "أمل" أن تتعامل موسكو سياسيا -بمعنى الكلمة الحرفي- مع مجرى الأحداث، فلا تربط نفسها ومستقبل تعاملها مع سورية وسواها، بذلك الوجه الاستبدادي الفاسد القبيح، وقد دمّر مغزى وجوده بنفسه، فبات غير قادر حتى على القيام بدور "التابع" لموسكو وإيران وأمثالهما.

ليس ما تصنعه موسكو من "السياسة" الحرفية القويمة، ولا حتى من جنس السياسة الواقعية النفعية التي لا تبالي بالقيم، كما يمارسها الغربيون.

لم يعد وضع "بقايا النظام" في سورية وضع "قوة" تفرض نفسها، بل وضع فجور لا تفيده قوته، ولم يعد يصلح لتحقيق مصلحة ما لمن يعتمد عليه ويمده بأسباب البقاء، بل أصبح عبئا ثقيلا عليه وعلى سمعته وسياساته الأخرى، إقليميا ودوليا، ما دام باقيا.

وقد ضيعت موسكو مجددا فرصة "ثمينة" وجدتها أمامها للمبادرة بالمقاييس السياسية للكلمة، عندما تحول غرماؤها الغربيون من دور الهيمنة على الساحة السياسية للتعامل مع ثورة "متمردة" على أساليبهم التقليدية، إلى دور الإهمال المتعمد بانتظار أن تفعل المعاناة والأخطاء الذاتية مفعولها وتلين الإرادة الثورية الشعبية.

وبدلا من مبادرة سياسية متميزة تحاول إصلاح بعض ما مضى من انحياز إجرامي لصالح الاستبداد الإجرامي، تعاملت موسكو مع ما يسمونه معارضة بأسوأ الأساليب المهينة المستهترة بأفرادها جميعا..‎ عبر تجاهل وجود تنظيمات والتعامل مع أفراد، ثم تجاهل وجود عرف سياسي للقاءات مثل جدول أعمال مسبق، فحولت اللقاء الذي أرادته إلى "دردشة"، ثم تجاهل ما يمكن أن يصنعه "وسيط" بين طرفين -كما تقول عن نظام ومعارضة- وابتداع عبارة "الأمر متروك للقاء نفسه".. هذا مع متابعة تزوير الحقائق: يجب أن يختار الشعب السوري مستقبله بنفسه، دون تدخل خارجي.. ولا تشمل كلمة "تدخل خارجي" عند موسكو الطائرات الروسية والمليارات والميليشيات الإيرانية.

إن مجرد الاستجابة "الفردية" المحدودة لدعوة موسكو، إهانة ذاتية بحق مرتكبها أيا كان شأنه، ومهما كان اجتهاده، ولا يعني ذلك تخوينه أو اتهامه في نواياه.

وإن كثرة الحديث عن هذا التحرك الروسي، تعطيه بعض القيمة التي لا يستحقها، وأما من يتساءلون عن "بديل" فالبديل هو:

أن يعمل كل من يعتبر نفسه "معارضة باسم الثورة" كي يصبح من خلال طرحه وأدائه "جناحا سياسيا للثورة"، يرتبط بها وبشعبها وبأهداف ثورته وبتحقيق مصالحه..

ثم لا بد أن يبدع "السياسي الثوري" في اتباع أساليب سياسية توصل إلى الأهداف الثورية، وإلا فسيبقى أسيرا لأساليب وتحركات تقليدية تتناقض مع الثورة، فيستجيب لعبث سياسي و"تفاوضي"، لمجرد الخشية ألا يبقى له مكان في "لعبة الكبار"، وقد يحصل على ذلك المكان.. ولكن لا يمكن أن يحصل من خلاله على مكانة قيادية سياسية ثورية لدى شعب سورية وفي مستقبل سورية.

نبيل شبيب