تحليل – مرجعية الإرادة الشعبية خط أحمر
لا وصاية على الإرادة الشعبية.. لا وصاية من منطلق إسلامي ولا علماني ولا سواهما
الثورة الشعبية في سورية أمام خطر كبير، داخلي وخارجي، يفرض على المخلصين التلاقي على قواسم مشتركة، موجودة بين أيدينا، يؤخذ بها كما هي، ولا يمكن اصطناعها عبر تطويع أحد الأطراف لرؤية الطرف الآخر.
بين الأخطاء والأخطار
منذ فترة لا يتجنب أحد الحديث عن "أخطاء سياسية وفكرية" جسيمة ومحدودة، ارتكبها الإسلاميون في العقود الماضية، وهم – كسواهم – يدفعون على أرض الواقع ثمن الأخطاء فضلا عما يتعرضون إليه افتراء وعدوانا.
لا بد ابتداءً من رؤية أخطاء سواهم أيضا، فمن اتهمهم بممارسة الإقصاء مارس هو نهج الإقصاء، ومن اتهمهم بالتطلع "مستقبلا" إلى احتكار السلطة كان يحتكر السلطة فعليا أو ينكر حق وصول "الآخر" إليها أصلا، ومن نسب إليهم أعمال "متطرفين منحرفين" عن الخط الإسلامي، يغفل عن وجود "متطرفين منحرفين" ينسبون أنفسهم إلى اتجاهه أيضا.. وهكذا.
جميع ذلك لم يصل إلى مستوى خطورة ما نعايشه في "عصر الثورات الشعبية"، والذي يمس مباشرة هدف تحرر الإرادة الشعبية، عبر أفاعيل تنظيمات مارقة، لا يسري عليها القول بممارسة "اجتهاد خاطئ"، فأفاعيلها تنتحل عنوان الإسلام مع الإجرام بحق الإسلام والإنسان والأوطان.
من دواعي رؤية مشتركة
الفارق واضح وضوح الشمس، فلا يُقبل الخلط المفتعل بين ما يسمّونه "الإسلام السياسي" أو الحركي، وبين "انتحال إجرامي" من جانب تنظيم إجرامي، ناهيك عن الافتراء، عبر ما ينشر بين الناس، من مسلمين وغير مسلمين، أن هذا إجرام يجد بذوره في "الإسلام" نفسه.
هذا سلوك يزيد تمزق من يحملون المسؤولية عن الثورة الشعبية وعن مواجهة ما تتعرض له من عدوان من مختلف المصادر وبمختلف الأشكال، وهو سلوك بالغ الخطورة بتوقيته مرافقا لتصعيد غير مسبوق لهذا العدوان محليا ودوليا.
وكان هذا التصعيد متوقعا بغض النظر عن اتخاذ أفاعيل داعش "ذريعة"، فهو صادر عن تقدير من يريدون من البداية إجهاض الثورة، أنها ثورة شعبية لا تفضي إلى مجرد إسقاط رأس بيدق من بيادق منظومة الاستبداد المحلي والهيمنة الأجنبية، بل تهز – إذا انتصرت – هذه المنظومة من أركانها وتفتح بوابة التغيير الجذري محليا وإقليميا ودوليا.
هو تصعيد عمليات إجهاض الثورة ويفرض التحاما وطنيا ثوريا أكبر من أي وقت مضى.
لهذا على الأقل:
لا تضيفوا مزيدا من الشروخ "الثورية الوطنية" بين "أطراف وطنية" وتوجهات إسلامية معتبرة.
لا تزيدوا الشروخ عبر استهداف الإسلام نفسه، أكثر من قبل، بمقولات محورها:
ألا ترون إجرام داعش؟ هذا ما يمكن أن يوصل إليه القبول بالإسلام السياسي.
هذا منطق عدائي استفزازي يمكن أن يجد ردودا مضادة من قبيل:
ألا ترون إجرام الأسد؟ هذا ما يمكن أن توصل إليه "الإيديولوجيا“" العلمانية.
يجب العمل للانطلاق من رؤية مشتركة بأجنحة ثلاثة لا تنفصم عن بعضها بعضا:
داعش لا تمثل الإسلام ولا الإسلاميين..
والأسديون لا يجسدون العلمانية ولا العلمانيين..
ومنظومة الهيمنة لا تستهدف داعش والإسلاميين فقط، بل تستهدف استبقاء سيطرتها على هذه المنطقة الحضارية بكل من فيها وما فيها.
الثورة والإسلام.. إشكالية؟
إن مسار الثورة أهم من كل "خلاف وصراع فكري وسياسي"، ويفرض الامتناع عن „"تصنيف الخطر" بميزان الموقع الذاتي وليس الثوري، واعتبار الخطر الأعظم هو ما يمس جوهر الثورة التي قامت لتحرر الإرادة الشعبية.
ولدى أصحاب الاتجاهات غير الإسلامية "إشكالية" على هذا الصعيد:
لقد رصدوا من البداية اقتران التطلعات التحررية بانتشار "شعارات وهتافات" إسلامية شعبية، قريبة مما ينادي به الإسلاميون الحركيون، رغم تغييب العمل الحركي في سورية وسواها عقودا عديدة.. ولم يواروا انزعاجهم من تزعزع تصورهم القديم أن "الإسلام السياسي" و"التحرر الشعبي" نقيضان لا يجتمعان، وأن "التحرر الشعبي" لا يتحقق إلا وفق توجهاتهم.. هم.
هذه إشكالية "ذاتية" وضعت الثورة أصحابها في مواجهة شعارات "شعبية" صادرة عن الإرث المعرفي الشعبي نفسه، وتختلف عن نسيج مصنوع من قبل، للتمييز بين "إسلام حركي سياسي" و"إسلام معتدل".
اندلاع الثورات الشعبية لم يتبنّ ما يسمّى "الإسلام المعتدل" الذي يقول باختصار: "صلوا وصوموا.. ولا تشتغلوا بالسياسة"..
جاء الجواب بالرفض أي عبر التحرر تحت عنوان "الإسلام" ولو عبرت الثورات عن ذاك "الإسلام المعتدل" المبتكر، لغابت الإشكالية لدى تلك الاتجاهات، ولربما وجدت الثورات من يحتضنها من بين تلك القوى المعادية التي أصبحت على استعداد الآن لتأمين الأرض والمال والسلاح من أجل صناعة "ثوار معتدلين" بديلا عن "الثوار الشعبيين".
الأهم مما سبق:
(١) لم تكن الثورة "إسلامية حركية" ولكن "إسلامية شعبية"..
انطلقت الشعوب تكبر وتهلل وتنادي "يا ألله.. ما لنا غيرك يا ألله" وتطالب بالكرامة والحرية والعدالة، وكانت الحركات الإسلامية ما بين محظورة ومحاصرة ومعتقلة، ولا تملك مثل ما يملكه خصومها من وسائل صناعة "الجماهير".
(٢) الثورة تصحح العلاقة بين التحرر والإسلام..
إن تلاحم الروح الإسلامية مع الروح الثورية التحررية لدى الشعوب صادرة عن معرفتها بالإسلام بمعزل عما يسمى الإسلام السياسي، وكذلك مع رفض ما استهدفته حملات التشويه والتزييف والاستغلال من جانب خصومه.
بتعبير آخر:
الانطلاق الشعبي الثوري من الإسلام يجسد اليقين بأنه يريد للإنسان، جنس الإنسان، الكرامة والحرية والعدالة وصون الحقوق، ويريد للوطن، كامل الوطن، التخلص من كل شكل من أشكال الظلم الفردي والجماعي، السياسي والاجتماعي، المادي والمعنوي على السواء.
هذا ما حرك "ثورة شعبية" جامعة في أهدافها، وهي للجميع في حصيلتها.
يضاف إلى ذلك:
هذا الارتباط الوثيق بين الإسلام كما أنزله الله، وبين الاحتياجات الإنسانية، لبني آدم من مسلمين وغير مسلمين، ارتباط راسخ، لا يتبدل تسييبا، ولا يتبدل تطرفا، ولا ينبغي أن يتوهم أحد النجاح لعمل يستهدف إيهام الشعوب بغير ذلك.
معطيات من الواقع
نحتاج جميعنا إلى رؤية مسار الثورة في هذه المرحلة تخصيصا مع التأكيد:
(١) الإسلام بحد ذاته، أي بأصوله وثوابته ونصوصه القطعية، لا يتغير، سيان من يخطئ، وسيان من ينحرف، وسيان من ينتحل عنوان الإسلام دون مضمون قويم.
ملاحظة: ألا يقول العلمانيون ذلك عن علمانيتهم فيبرؤونها من تطبيقات مزعومة، دموية، أسدية وغير أسدية؟
(٢) طاقة الثورات الشعبية طاقة شعبية برؤية إسلامية ذاتية من أجل الإنسان، تجمع بين عناصر الرؤية العقدية الدينية، والقيمية الإنسانية، والمعرفية الحضارية.
ملاحظة: أليس هذا ما نجده بين أيدينا جزءا من الواقع، سواء قبلنا به أم رفضناه، بعد أن تراكمت معطياته تاريخيا وأصبحت في صلب مكونات الشعوب نفسها؟
بالمقابل:
(١) منذ مطلع الثورة لم ينقطع استهداف هذا الإسلام "كما أنزل" عبر الخلط بينه وبين أخطاء التطبيق لدعوته لا سيما في الميدان السياسي الحركي والفكري الاجتهادي.
(٢) وصل ذلك الآن إلى مرحلة خطيرة بمحاولة الخلط بينه وبين أفاعيل إجرامية تنسب إليه انتحالا وتزويرا وليس اجتهادا وتأويلا.
(٣) لا يُستغرب صدور هذا الخلط عمن يعادون الثورات الشعبية لأنهم يعادون أصلا تحرر الإرادة الشعبية من خلالها.
(٤) هذا ديدنهم، ولكن لا يمكن القبول بصدور الخلط الذي يستهدف الإسلام عن فريق يرى موقعه في مسار الثورة، في مقاعد "المجتهدين" وطنيا أو قوميا أو علمانيا.
سيان ما هي أهدافك للمستقبل.. لن تنطلق مع سواك نحوها إلا من حيث تقف على أرض الواقع فعلا وليس وفق ما تتبناه لنفسك.
الحديث هنا عن المنطلق المشترك في مسار الثورة، وليس عن حاجة كل فريق إلى تصحيح أخطائه وتطوير نفسه.
الإرادة الشعبية هي المرجعية
إن الإرادة الشعبية هي الخط الثوري الأحمر.. وتقوم على:
(١) الإرادة الشعبية هي التي فجرت الثورة كي تتحرر ولتكون هي المرجعية.
(٢) معيار الانتساب للثورة مرتبط بعدم تفضيل الاستبداد والهيمنة الأجنبية على القبول بإرادة الشعوب، وإن توافقت أكثر مع "الآخر".
(٣) الخطر لا يهدد الثورة مهما تعثر مسارها، قدر ما يهدد من يرفض القواسم المشتركة القائمة واقعيا، فهو يفصل نفسه عن الواقع الشعبي والثوري، قاصدا أو غير قاصد.
(٤) من يشترط على "الآخر" التخلي عن الرؤية الشعبية الذاتية الجامعة، عقيدة أو حضارة، سيسقط على طريق التغيير كما سقط سواه.
باختصار:
لا وصاية على الإرادة الشعبية.. لا وصاية يفرضها نهج إسلامي، كما يقول خصوم الإسلاميين، ولا وصاية أيضا لأي نهج آخر يعملون لفرضه
كل ما عدا ذلك يهدم مزيدا من الجسور كما كان يجري عبر ما سمي الفصام النكد بين الإسلاميين والعلمانيين.
لهذا وجب التحذير من "تصعيد" ممارسات الإقصاء، عبر الانتقال من "شيطنة الآخر" التقليدية إلى شيطنة "الأصل" الذي ينطلق الآخر منه.
الجميع دون استثناء مطالبون بالتبرؤ من الأفاعيل الإجرامية، والاستبدادية الإجرامية، والهيمنة الأجنبية العدوانية، ومطالبون بتصحيح أخطاء الماضي، كي يجدوا معا القواسم المشتركة الثابتة لمسار الثورة:
التحرر.. عبر إسقاط بقايا النظام..
التحرر.. عبر رفض ألوان الوصاية الخارجية والهيمنة الأجنبية..
التحرر.. من ألوان الصراع التي سادت قبل الثورة..
وهذا ما يوجب:
تحكيم الإرادة الشعبية دون مطالبة أي طرف بأن يتخلى طرف آخر عن رؤاه وتصوراته أو عن حقه بطرح ذلك بين يدي الإرادة الشعبية، للوصول عبر الغالبية الشعبية إلى تثبيت ما يسمى "مبادئ فوق دستورية" ثم "النصوص الدستورية" بالإضافة إلى „"آليات توافقية" لضمان هذا الطريق.
من لا يرتضي ذلك سيجد نفسه آجلا أو عاجلا خارج نطاق مسار الثورة وخارج نطاق الإرادة الشعبية أيضا.
نبيل شبيب