ضحايا اللجوء على أبواب أوروبا
عشرات الألوف يفقدون حياتهم في مسارات التشريد
تحليل – الاتحاد الأوروبي لا يفتح الباب أمام هجرة مشروعة, ويمنع ما يسمى الهجرة غير المشروعة بغرض اللجوء
تحليل
كم عدد ضحايا موجات التشريد واللجوء، ممن فقدوا حياتهم وهم يحاولون الوصول إلى أوروبا؟ ومن المسؤول عن مآسيهم ومآسي ذويهم من بعدهم؟
إن جريمة التشريد عن الأوطان، وجريمة الإكراه على تحمل عذاب الترحال عبر الوديان والجبال أو في “قوارب الموت” عبر البحار، والتي لا يركبها إلا من يصبح على استعداد للفرار من الموت إلى الموت، وكذلك جميع ما يتصل بذلك من جرائم أو ما ينبثق عنها، إنما هي جرائم يحمل المسؤولية الأولى والأكبر عنها أولئك الذين يمارسون الاستبداد والاستغلال محليا في الأوطان الأصلية للمشردين، ومن يدعمهم داخل الحدود وخارجها. ولكن هل يمكن تبرئة الدول الأوروبية، لا سيما في الاتحاد الأوروبي، من حمل قسط من المسؤولية؟
تدافع المسؤولية في أوروبا
١- هي مسؤولية يتدافعونها بين فرنسا وبريطانيا منذ عقود، ويوجهون أصابع الاتهام إلى “عصابات” تستغل أوضاع المشردين و”تبيعهم” أسباب الانتقال عبر بحر المانش، أو تبيعهم الأوهام…
٢- هي مسؤولية يتدافعونها على الحدود بين بولندا وروسيا البيضاء، ويوجهون أصابع الاتهام بالمؤامرة إلى روسيا البيضاء ومن ورائها الاتحاد الروسي…
٣- هي مسؤولية يتدافعونها على أمواج البحر الأبيض المتوسط ويوجهون أصابع الاتهام إلى الأنظمة على الساحل المقابل في الشمال الإفريقي وينتزعون منها الاتفاقات لتتصرف من جانبها قبل أن يصل المشردون إلى الماء…
٤- هي مسؤولية يتدافعونها ما بين جزر بحر إيجة ويوجهون أصابع الاتهام إلى تركيا من دون اليونان، وفي الأولى ملايين المشردين واللاجئين وفي الثانية الألوف أو عشرات الألوف…
التشريد والهجرة في التاريخ الأوروبي
قائمة تدافع المسؤولية في أوروبا المعاصرة أطول من هذه الأمثلة المعدودة، فأوروبا تعتبر اللجوء إليها حاليا مشكلة سياسية واقتصادية واجتماعية، أكثر منها مشكلة إنسانية تصنعها الحروب وتنشرها المظالم المهيمنة على عالمنا بزعامته المادية، الأوروبية والأمريكية، والمفروض أن نتوقع ظهور العامل الإنساني وليس ضموره، عند النظر في الخبرات التاريخية الأوروبية مع موجات التشريد واللجوء والهجرة والاستيطان.
لألوف السنين لم تنقطع في أوروبا الحروب بين تكتلاتها البشرية المتعددة، فعرفت من خلال ذلك موجات لا تنقطع من التشريد واللجوء والهجرة، وهو ما تجاوز الحدود الذاتية إلى ما وراء المحيطات، ومن نتائج ذلك انتشار أصحاب الجنسيات الأوروبية كمستوطنين في الأمريكتين وفي أستراليا وفي المشارق الآسيوية، وسط أهل البلاد الأصليين أو على حسابهم، كما ساهمت موجات الهجرة واللجوء في نشر الاستعمار في أنحاء العالم، على حساب غالبية السكان الأصليين داخل مواطنهم، هذا علاوة على الهجرات الاستيطانية التي جعلت لعدد من البلدان الاستعمارية “مناطق جغرافية” تبعد عنها ألوف الكيلومترات، ورغم ذلك تعتبرها تابعة لها سياسيا وإداريا واقتصاديا إلى اليوم. جميع ذلك إلى جانب موجات التشريد واللجوء ما بين البلدان الأوروبية نفسها، وفرنسا مثال صارخ على ذلك، كما كان عبر تهجير البروتسانت الفرنسيين إلى الأرض الألمانية خلال القرن الميلادي السابع عشر، وتهجير مئات الألوف من الفرنسيين بسبب الثورة الفرنسية أواخر القرن الميلادي الثامن عشر،
حق اللجوء على الطريقة الأوروبية
إن أوروبا التي تسعى الآن لتحصين نفسها وحدودها من المشردين واللاجئين إليها، عرفت لعدة قرون الهجرة لأسباب “اقتصادية استعمارية”، وعرفت الهجرة لأسباب “سياسية استبدادية”، وعرفت الهجرة لأسباب “أمنية حربية”، وعلى النقيض من الحالة الراهنة، ساهمت الهجرات الأوروبية التاريخيةي في أن تنطلق من أوروبا دعوات التوافق على قواعد وقوانين للتعامل مع المشردين عن أوطانهم، وهذا ما ولد في إطاره ما يسمى “اللجوء السياسي”، وكانت الأرض السويسرية من البلدان التي استقبلت كثيرا من المشردين واللاجئين في حقبة الثورات الأوروبية، فوضعت زيوريخ صياغة النواة الأولى لقانون اللجوء عام ١٨٣٦م، وتلتها بريطانيا بقانون مشابه عام ١٩٠٥م. وفي عام ١٩٥١م وصلت عملية التشريع هذه إلى ميثاق جنيف حول حقوق الإنسان الأساسية، فكان من بينها حق اللجوء السياسي، وهو ما تبناه الاتحاد الأوروبي أيضا، فأدرج ذلك في المادة ١٨ من ميثاق الحقوق الإنسانية الأساسية.
أما في أوروبا المعاصرة فقد وجد الاتحاد الأوروبي قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بصدد بناء جدار على الحدود مع المكسيك قرارا يتناقض مع القيم الغربية، ولكن الاتحاد الأوروبي نفسه بنى لحماية أسبانيا من المهاجرين والمشردين أول جدار عازل على حدود سبتة وميليلية شمال المغرب ١٩٩٣م وأضاف جدارا عازلا آخر عام ١٩٩٥م.
ومقابل التوثيق الأوروبي لحق اللجوء إنسانيا، أقدم الاتحاد الأوروبي سنة ٢٠٠٤م على تشكيل هيئة “فرونتكس” الأمنية لمنع طالبي اللجوء من الوصول إلى الحدود الأوروبية لا سيما عبر البحر الأبيض المتوسط، ولا يزال التخطيط جاريا لتوسيعها وزيادة عدد العاملين فيها وتطوير تجهيزاتها وتمويلها، وقد بلغ عدد ضحايا الغرق في مياه المتوسط حوالي ٢٣ ألفا بين سنتي ٢٠١٤ و٢٠٢١م.
صحيح أن فرنسا المتشددة في كل ما يمكن أن ينال من “هويتها” مثل ارتفاع نسبة ذوي الأصول العرقية والعقدية والثقافية من غير “الفرنسيين”، لا تجد تناقضا في ذلك مع ما يسمى “ميرابيلا“، على شكل جرس يمكن قرعه على أحد بوابات كنيسة روتردام في باريس.
إن الاتحاد الأوروبي يزعم تمسكه بسريان مفعول حق اللجوء السياسي وحق اللجوء بسبب الحروب والكوارث، كما تحدد ذلك في نصوص القانون الدولي، ولكن يربط الاتحاد الأوروبي بين تطبيق ذلك وبين أن تكون الهجرة إليه “مشروعة”، فيستبيح جميع الوسائل لمنع الهجرة غير المشروعة إليه، وفي الوقت نفسه يغلق الأبواب أمام مختلف أشكال “الهجرة المشروعة”.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب