تحليل – جيل صناعة المستحيلات
جيل جديد لا يمكن استيعاب مواصفاته وقدراته وأساليبه من خلال "قوالب التفكير" التقليدية
لا ينبغي أن نعتقل نظرتنا الاستشرافية في بضع سنوات أو فيما يطفو على السطح من أحداث، ولا ينبغي التسرع تحت وطأة المعاناة، وقد سارع كثيرون بالفعل إلى "نعي" الثورات، مثلما نعوا "العروبة" قبل سنوات معدودات، ونعوا الإسلام من قبل تحت قناع نشر عبارة "نهاية الإيديولوجيات!".. ويبدو أن ما لا يستطيعونه هو نعي الأساليب التي عاشوا هم عليها ردحا طويلا من الدهر، ولا يريدون تصديق أن عصر الثورات والتغيير سجل نهايتها، وإن انتفضت فيهم "روح الرمق الأخير" بحلقة جديدة من استخدام القوة العسكرية الباطشة.. ضد الشعوب.
تغيير جذري بدأت الثورات تصنعه
إنّ التغيير الذي انطلقت مسيرته في البلدان العربية هو تغيير جذري في مسار عجلة التاريخ، ولا يوجد من يستطيع وقف عجلة التاريخ، ولانطلاقة التغيير وثبات مساره أسباب عديدة للغاية، ولكن السبب الجوهري هو القوة الشعبية الكبرى الكامنة فيه، والمرافقة لمراحله المتتالية حتى يبلغ غايته.. والغاية كبيرة جليلة تتطلب الجهود الكبيرة الجليلة المتواصلة.
لم تنشأ هذه القوة الشعبية المغيّرة "فجأة".. وإن فاجأت ثوراتها مَن سبق واستهان بها في "جبهة العدوان والاستبداد" أو في جبهة "القنوط والتسليم والموات".
توجد للثورات الشعبية العربية مقدمات عديدة سبقتها، كثيرة وفيرة، وكان أبرزها ظهورا للعيان هو الانتقال المبدئي في فلسطين تخصيصا ورغم القوى الدولية والإقليمية، من مرحلة الصمود البطولي للمقاومة المعتمِدة على احتضان الشعوب لها، إلى مرحلة انتصارات مبدئية محلية.
لقد صنعت هذه النقلة معطيات جديدة في واقعٍ قائم على الأرض وفي معالم الخارطة السياسية معا.. وواكبت الشعوب هذه المسيرة، ورصدت الانتقال من صيغة "الاستنجاد والاستغاثة" بمن لا تصل إليهم النداءات أصلا، إلى صيغة الاقتناع الراسخ بأن المصدر الأكبر للتغيير هو الإرادة الشعبية والقوة الشعبية.
لعل هذا ما كان يراكم الشحنة الأكبر الكامنة لصناعة التغيير عبر الثورات الشعبية.
الثورات.. شعبية
إنّ "نوعية" الحدث التاريخي هي الأهم، ولا يلفت الأنظارَ عنها الانشغال -بدافع أشبه بحب الاستطلاع- بمحاولة العثور على"تفسير" قاطع الدلالة يجيب مثلا على السؤال: علام كانت بداية "انتصارات الثورة" بعد بداية "انتصارات المقاومة" في تونس تحديدا؟ أو السؤال: علام كانت مصر بالذات هي المحطة الثانية؟ وتتجدد الأسئلة الآن عن مصير الثورتين، على اختلاف أشكال العمل على إجهاضهما مع ما لحق بهما.
الأهم هو نوعية التغيير التاريخي الجاري، وامتداده.. سيّان أين انبثقت اللحظة الأولى لتفجيره.. ولا يستهان هنا بتقدير ما وقع في تونس أولا وإجلال صانعيه.
النوعية هي ما يمكن تأكيده في "استنتاج" قاطع الدلالة وهو أنّ الشرط الأوّل للتغيير الجذري المفروض هو الاعتماد المطلق على القوة الشعبية الذاتية، ثم تبقى تفاصيل التنفيذ ومجراه، فيطول أو يقصر، حسب الاقتراب أو الابتعاد عن هذا الشرط الأول، فتتبدل مشاهد مجرى الأحداث من قطر إلى آخر من الأقطار الثائرة.
الثورة هي الثورة حيثما بدأت وحيثما امتدّت.. وهي مصدر ما نرصده من دلالات زمن متغيّر.. والعنصر الجوهري المتغيّر فيه: أنّ أهل مكة الأدرى بشعابها هنا هم الشعوب، وهي ماضية على طريق التغيير الجذري، منفردة ومجتمعة.
لقد سبقت "جماهير الشعوب" جميع النخب التقليدية، في اللحاق السريع والشامل بمسار الثورة فور رؤية نوعيةِ قياداتها الشبابية وأبصرت نوعية تحرّكها ووجهته الثابتة.. سبقت لسبب بسيط:
الشعوب.. أوعى وأقدر على استيعاب الحدث وصناعته بالتفاعل معه، بنسبة تزيد أضعافا مضاعفة على ما توهّمناه أو ساد عموما في تصوّراتنا عنها، حتى وإن ارتفعت عالياً أصوات مَن يتحدّث من "المعارضة التقليدية" عن فئته المعارضة هو، أو عن اتجاهه الفئوي هو.. تماما مثلما يتحدّث السياسي الرسمي من "العهد البائد" عن واقع "تسلّطه" هو، انقلابا أو وراثة، على مفاصل الدولة، ليطرح هذا أو ذاك نفسه "ناطقا باسم الشعوب".. مع تغييب إرادتها.
هذا ما كان سائدا بالأمس..
اليوم تتحدث الشعوب عن نفسها بنفسها وبدمائها وبمعاناتها.. وبمواصلة الطريق الذي سلكته، ولا رجعة عنه.. وهذا ما ينبغي أن نعوّد أنفسنا على استيعابه لاستشراف النتائج، التي لا يمكن أن تكون قريبة من الواقع، إلا بمقدار ما يكون هذا الاستيعاب قويما.
العجز عن الإبداع في العداء
ربما أدرك بعض الأنظمة أو لم يدرك ما يعنيه ارتباط الثورة نشأةً وأساليبَ وغايةً بالإرادة الشعبية وليس بوضع القوى الدولية والارتباط بها، ولا بالأساليب العتيقة لعمل قوى تقليدية معارِضة.
المشكلة ليست في الاستيعاب أو عدمه، بل في العجز عن رؤية ما لا تملك رؤيته.. أي "كيف" تتعامل مع هذا الحدث "الجديد"؟.. ولا يزال الواقع الراهن يشهد على أنّها ما زالت تحاول "الاقتتال" بوسائلها القديمة نفسها مع رياح التغيير التاريخي الجديدة كل الجدة، فتمارس التقتيل.. التدمير.. الانقلابات.. الاستعانة بالقوى الخارجية.. فضلا عن إنكار ما يستحيل إنكاره، بعد أن ظهر من اللحظة الأولى لاندلاع الثورات، فأصبح كالشمس في رابعة نهار صيفي.
إنّ عدم استيعاب حجم الحدث التاريخي أو عدم "تصديق" ما يجري -رغم وضوحه- يصل إلى مداه الأبعد والأخطر عبر توهّم بعض الأنظمة أنّها قادرة بقوّتها المهترئة الفاجرة على تجنّب شمول التغيير الجذري بإخماد ما أشعلته الثورات من لهيب.. وهذا مستحيل.
موقع جيل المستقبل
لئن تباينت تفاصيل رؤى القوى الدولية وما بقي من استبدادها عالميا، ورؤى الأنظمة الباقية المتشبثة باستبدادها محليا، فإنّها تلتقي –حتى الآن- عند قاسم مشترك بالغ الأهمية على خارطة عدم استيعاب الحدث بحجمه التاريخي وتأثيره المستقبلي، بل يكاد يسري ذلك على غالبية القوى التقليدية العاملة من منطلق المعارضة، أو تحت عنوان "النخب". المهمّ هنا بمنظور مستقبل التعامل مع الثورات الشعبية الجارية:
إنّ عجز القوى الاستبدادية الدولية والمحلية التي تريد "عرقلة" التغيير الجذري.. يقابله عجز كثير من القوى المعارضة التقليدية التي تريد "الإسهام" في مسيرة التغيير بعد انطلاقها.. وفي الحالتين، حالة عجز "المسؤولين رسميا" وحالة عجز "المعارضين رسميا" يكمن الخطأ الأكبر في انفصامهم عن العنصر الحاسم أكثر من سواه في اندلاع هذه الثورات، وسيبقى هو الحاسم أكثر من سواه أيضا في بلوغ غايتها عبر التغيير، الجذري نوعيا، الشامل جغرافيا، والمقصود: عنصر "الجيل الذي صنع الثورة".
إنّه جيل جديد لا يمكن استيعاب مواصفاته وقدراته وأساليبه وإمكاناته من خلال "قوالب التفكير" التقليدية التي اعتدنا عليها، وما زلنا نحاول تطبيقها على ما اعتبرناه مفاجأة كبرى: ثورات صنعها وقادها شبابٌ وفتيات، وأصبحتْ شعبيةً شاملة التأثير بأبعاد دولية.
لا يزال تفسيرنا لهذا الجانب من "ظاهرة جيل المستقبل" قاصرا عن استيعابها، بل لم نبدأ الاستيعاب أصلا، لأنّ الآليات التقليدية المعتادة للتحليل والتفسير والفهم والتعليل.. آلياتٌ مستمدّة من معطيات عهدٍ انقضى وقد تصلح لاستيعاب مواصفات جيل من الماضي على وشك الرحيل، وليس لاستيعاب ما يصنع جيل المستقبل وكيف.
إنّ فهمه واستيعابه يتطلّب دراسات مستفيضة متجدّدة بمنطلقاتها وآلياتها ومعاييرها، ولن ينقطع حبلها في مواكبة مجرى الأحداث والمتغيّرات المستقبلية المرتبطة بها، ولن تكتمل إلا في "المستقبل".. أما الآن فلا يمكن أكثر من التنويه ببعض الإشارات والدلالات بهذا الصدد:
1- عرفنا جيل المستقبل –أو توهّمناه- جيلا إن ثار دمّر.. ولكن جاء التدمير من قبل من يعادي ثوراته، بعد أن ثار ليحفظ البلاد ويعمّر..
2- عرفنا جيل المستقبل –أو توهّمناه- جيلا حماسيا عاطفيا يقول ولا يفعل، ولكنّه مضى في ثورته مدركا خطورة ما يُصنع لإجهاض ثورته، وقادرا على الفعل، وعلى إرغام سواه على "ردود الأفعال"..
3- عرفنا جيل المستقبل –أو توهّمناه- جيلا سبق تضليلُه فانحرف، أو تعصّب، أو تطرّف.. فأثبت في ثورته من الوعي ما أذهل الداني والقاصي، وجاءت صناعة التطرف الإجرامي الكبير من جانب من يريد إجهاض ثورته..
4- عرفنا جيل المستقبل –أو توهّمناه- بشبابه وفتياته جيلا منشغلا بمشكلاته المعيشية، صغيرها وكبيرها، متباين الرؤى على خارطة الانقسامات في بلده من كل لون وطيف واتجاه، ولكن رغم جميع ما تأثر به استطاع أن يحقّق على أرض الواقع في أصعب الظروف، أرسخ الصور التطبيقية المعبّرة عن واقع "وحدته الوطنية" التي ينتهك حرماتها من يتهمونه بألوان الاتهامات..
5- عرفنا جيل المستقبل –أو توهّمناه- جيلا بعيدا عن الواقع بأفكاره وأطروحاته، إن كان قادرا على التعامل فربّما في حدود تواصل بعض فئاته داخل نطاقها، وإن استوعب قضايا كبرى فربّما في حدود البلد الذي يعيش فيه، وإذا بثورته في تونس ثم مصر ثم ليبيا.. (ثمّ…) إذا به يبدع ما يكشف أنه هو الأوعى بواقع عالمه وعصره، الأقدر على التعامل مع مختلف القوى المؤثرة فيه تعاملا سيمنع بإذن الله تعريض حصيلة ثوراته للإجهاض في نهاية المطاف، وسيتمكن من تحقيق التغيير الجذري الذي يتراءى لسواه "مستحيلا"، مثلما كان "اندلاع الثورات" عند سواه بحكم المستحيل!
نبيل شبيب