تحليل – ثورات التغيير.. بين الانتكاسة والاستمرارية
إن الله لا يغير مسار التغيير عبر ثورة شعبية، انطلقت بفضله على مسار التحرر والكرامة، إلى مسار ينذر بإطالة طريقها أضعافا مضاعفة.. إلا عندما نغير نحن ما بأنفسنا إلى الأسوأ
إن إدراك حقيقة أن التغيير الثوري مستمر، شرط من شروط العمل على متابعة الطريق.. بدلا من اليأس والتيئيس مع كل نكسة أو انحراف أو ضربة مضادة.
يقول الله تعالى في سورة الأنفال:
{ذلك بأنّ الله لم يك مغيّرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم وأنّ الله سميع عليم}
والمعنى واضح مباشر، ونستشهد غالبا بآية أخرى من سورة الرعد:
{له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله، إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}
يقول أغلبنا حسب فهمه للآية الثانية، إننا إذا أردنا النهوض من وضع سيّئ نحن فيه، فعلينا أن نغير ما بأنفسنا إلى الأفضل، ليغيّر الله ما بنا. ويبدو من السياق ومما ورد في كتب التفسير، ما يدفع إلى الأخذ بمعنى آخر:
الله عز وجل ذو فضل عظيم، يمنّ علينا ابتداء بنعمه، فضلا وإحسانا، ذو فضل عظيم.. لا يربط التغيير إلى الأفضل بشروط، ذو فضل عظيم.. يغير ما بنا إلى الأفضل ثم لا يزول ذلك إلا إذا بدّلنا وغيّرنا إلى الأسوأ، فيسري آنذاك:
{بل هو من عند أنفسكم}
نحن في حاجة إلى هذا المنظور في مراجعة أنفسنا وما نقول بصدد ما أطلق عليه الربيع العربي.
لقد منّ الله تعالى علينا من حيث لم يتوقع معظمنا، بثورات شعبية، هيّأ أسبابها لترفع الظلم، ولتنطلق بنا نحو عهد جديد، يسود فيه الحق والعدل.. فوقع من جانبنا كثير من الأخطاء والسلبيات خلال تلك الثورات.. وإذا بنا نتساءل الآن بعد أعوام معدودة:
ألم يتحوّل الربيع العربي إلى بداية حقبة أخرى من مسلسل الاستبداد المحلي الهمجي الظالم والهيمنة الأجنبية المستغلة الجائرة؟
لنا أن نتساءل أيضا:
أليس من حصيلة أخطائنا أن تنتشر بهذه السرعة أجواء القنوط والتشاؤم، واليأس والتيئيس؟
لا يدور الحديث بطبيعة الحال عن الثابتين الصابرين المستمرين في تقديم أعظم التضحيات، ولا عمّن يعانون أقصى درجات المعاناة، ومن يسطرون في سجل التاريخ ما لا ينقطع من البطولات.
نحن على وجه التعميم في انتكاسة خطيرة.. من مظاهرها مثلا أن بعضنا يردّد مقولات قيّدتنا طويلا من قبل، مثل تأكيد استحالة التغيير إلا بإرادة هذه القوة الكبرى أو تلك من القوى المهيمنة.. مع أن الخروج من ذلك هو جوهر التغيير المطلوب عبر الثورات.
إن ما تصنعه تلك القوى من موبقات أمر معروف عنها ولن يتوقف، ولكن الثورة تعني فيما تعنيه العمل للانتصار عبر التغيير رغم القوى المضادة وأفاعيلها، دون تجاهلها أو الاستهانة بما تصنع، ودون التهويل من شأنها أيضا.
لا ينبغي أن يبلغ اضمحلال ثقتنا بأنفسنا وبشعوبنا من بعد ثقتنا بالله عز وجل، مبلغا يواري مفعول إرادة التغيير الشعبية أصلا، فهذا بالذات ما يعنيه قول بعضنا إن الثورات كانت من البداية مدبّرة لنشر الفوضى الهدّامة في بلادنا، ولإعطاء الاستبداد والهيمنة دفعة تجدّد قدرتهما على البقاء والاستمرار، وفق معطيات استجدت في عالمنا وعصرنا، فأوجبت تغيير القوالب دون المضمون.
شبيه بذلك أيضا من يختزل إرادة التغيير الشعبية في الجانب المعيشي وحده، بمعنى أن الثورات تنتهي إذا وجد الناس ما يأكلون ويشربون.. ونرى كيف يُستخدم التجويع سلاحا في سورية، بل نلوم اضطرار بعض أهلنا إلى التراجع في هذا الموقع أو ذاك تحت وطأة المواجهات الهمجية، والأصل أن الأمن والسلامة والطعام والدواء جميع ذلك من الحقوق الأساسية والضرورات الحياتية، وبالمقابل لا ينبغي أن نساهم في تشويه الثورات عبر اختزالها في جانب دون آخر، لا سيما عنما ننفي عنها إرادة التغيير في ميدان إنسانية الإنسان، التي تتمثل في الكرامة والحرية والعدل وما يتصل بها ويتفرع عنها من مثل وقيم ومبادئ.
نحن أمام أطروحات متعددة، منها جزء من حرب نفسية معادية، ومنها ما أصبح على أيدينا نحن في موقع سلاح حرب نفسية ضدنا.. ضد شعوبنا.
جميع هذه الأطروحات لا يستهان بتأثير أي منها، عندما نتساءل: أين أصبحنا في مسار ما نسمّيه الربيع العربي، وما الذي يحق لنا أن نتوقعه في قادم الأيام؟
الأطروحات متعددة وتؤثر فينا.. في تصرفاتنا الفردية والجماعية والشعبية، وفي توقعاتنا المستقبلية.. ولهذا وجب عند الحديث عن مسار ثورات الربيع العربي الآن.. وعن استشراف مستقبلها، أن نتأمل بعمق في منطلقاتنا.. ومنها أن رؤيتنا للربيع العربي ومنه الثورة الشعبية في سورية، يجب أن تقوم على استيعاب حاضر يتغير واستشراف مستقبل قادم مع تجاوز حدود معايير الماضي
إن معايير أحداث التغيير في الماضي، التي نطبقها على الحاضر، نشأت عن دراسة تاريخ مضى والاستفادة من تجارب سابقة والقياس عليها.. بينما يتميز الحدث المعاصر بسيولته، فلا تتبين جوانب الصورة الآنية بكاملها إلا بعد اكتمالها.. أي تتبين بشكل أفضل للجيل التالي من الباحثين.
وليس الربيع العربي حدثا كيميائيا أو فيزيائيا أو تجربة مخبرية، ليمكن أن نرصد عناصره ونحصرها، في حدود ما نعرف من تجارب سابقة.
بتعبير آخر:
إن الإجابة على السؤال المطروح عن مآلات الربيع العربي ليست سهلة، ولا يصح التسرع بصددها، لأننا لا نعرف، أو لا يعرف على وجه التعميم من يعاصرون حدث التغيير الكبير الجاري حاليا، على امتداد منطقة واسعة من بلادنا، إلا بعض الإرهاصات، والمعالم العامة.
نستشعر أنه تغيير تاريخي جذري كبير، ولكن لا يستطيع أحد الجزم منهجيا بأبعاده ومداه، وكم يستغرق من الزمن، وما سيترتب عليه، في موقعه الجغرافي المباشر، وعلى مستوى العلاقات البشرية والدولية.
يسري هذا على الهدف المشترك الأكبر: تحرر الشعوب، ويسري أيضا على التحذيرات التفصيلية التي تطرحها نبوءات عديدة، مثل حرب طائفية طويلة الأمد، أو مزيد من التفتيت والتقسيم للبلدان العربية والإسلامية، أو انتشار ما يسمى الإرهاب والحرب على الإرهاب.
ما نعلمه على أية حال، يلتقي على أن الثورات الشعبية التي نعاصر انطلاقتها الأولى ليست انقلابات عسكرية أو غزوات أجنبية، أو ما شابه ذلك من أدوات التغيير المحدودة مضمونا وحجما، والتي قد تسمح بحكم قريب من الصواب، مع الجزم نسبيا بنتائج المتوقعة.
حتى في حالة مقارنة الثورات الشعبية المعاصرة بثورات تاريخية معروفة، سنجد بعض المعالم المتشابهة والمعايير المتقاربة، ولكن سنجد أيضا عناصر تبين وجود اختلافات بينها.
من العناصر الجديدة ما يبرز للعيان عند مقارنة الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية، المحلية والدولية، الآن وعبر حقب تاريخية سابقة.
ومنها ما يبرز للعيان أيضا عند مقارنة المعطيات المعاصرة من وسائل وتقنيات ومستوى الوعي المعرفي الفردي والجماعي، مع ما كان من قبل.
توجد مستجدات كثيرة، ستترك أثرها بطبيعة الحال على المشهد المستقبلي.
قد يحاول بعضنا استقصاء هذه العناصر المستجدّة وحصرَها، ليصل إلى استنتاجات أقرب إلى الصواب، ولكن سيبقى منها ما لا يستطيع أحد الإحاطة به.
قد لا نختلف على التأريخ لإرهاصات التغيير الذي ترمز إليه كلمة الربيع العربي حاليا، ولعلها بدأت بعصر جمال الدين الأفغاني، ولا ينبغي أن نختلف عن أن الأحداث الحاسمة لصناعة التغيير، هي ما نشهد الآن بداياته الأولى فقط في مسارات الثورات الشعبية العربية، أما النتائج فهي ما سيعايشه أحفادنا وأحفاد أحفادنا.
هذه الرؤية للبعد الزمني تقينا على الأقلّ التسرّع في الأحكام كما صنعنا، عندما اعتبر كثير منا إسقاط رؤوس بعض هياكل السلطة المستبدة، هو الثورة، وانتهت، مع أن ذلك كان إيذانا ببدايتها وليس إعلانا عن تحقيق أهدافها.. وبالتالي نهايتها، ومثل ذلك التسرّع بالحكم بنهاية الربيع العربي بسبب انقلاب محلي هنا، وجريمة دولية بحق الشعوب هناك.
إن الله لا يغير ثورة شعبية، انطلقت على مسار التحرر والكرامة، إلى مسار ينذر بإطالة طريقها أضعافا مضاعفة.. إلا عندما نغير نحن ما بأنفسنا إلى الأسوأ.. من حال الثورة التغييرية الشاملة، إلى حال الأنانية الفردية أو الأنانية التنظيمية المتعصبة.
العقدة نحن.. ونحن من نحمل مهمة حلحلة عقدة الربيع العربي في الوقت الراهن..
والله وليّ التوفيق.
نبيل شبيب