تحليل – تركيا والمحرقة الإقليمية
تفجير سروج وما قبله وما تلاه هو جزء من استهداف تركيا، فما الذي يجعلها مستهدفة؟ وما هو الموقف المطلوب إزاءه؟
لا ينبغي أن نفصل الأحداث عن بعضها بامتدادها الجغرافي أو بامتدادها الزمني التاريخي، فمن دون ذلك يصعب استيعابها ويصعب تحديد الموقف الأصوب تجاهها، ولا تستهدف الفقرات التالية تسليط الضوء على حدث بعينه واستخلاص موقف تجاهه.. إنما المطلوب رؤيته ورؤية معالم الموقف الأفضل منه عبر منظور شامل.
إن تفجيرات سروج وأورفه وغيرها في تركيا في المرحلة الراهنة هي محطة مرتبطة مباشرة بما شهدته عين العرب/ كوباني من قبل، ومرتبطة مباشرة وغير مباشرة مع ما يجري في العراق من تفجيرات “إرهابية” تواكب القتل المتجدد للمدنيين في غارات جوية “رسمية”، وكذلك بما شهدته وتشهده سيناء من صراع “الانقلابيين والإرهابيين” على حساب أهل سيناء ومصر وفلسطين والمنطقة، وترتبط أيضا بما يعنيه “الاتفاق النووي” مع إيران مقابل بيع الوعود الكلامية لدول الخليج.. جميع ذلك يشكل مع تطورات أخرى نسيجا “استراتيجيا” واحدا، تشارك في صياغته قوى عديدة، إضافة إلى الارتباط المباشر بين ما تشهد تركيا وتعاملها المتميز مع مسار الثورة الشعبية في سورية، والإعدادات الحالية لمرحلة تالية.
في حقبة ماضية غلب أسلوب استهداف كل بلد على حدة بما يناسبه، كالحروب المتوالية ضد العراق حتى بلغت محطة تسليمه للحلفاء الجدد في إيران، أو كالتعاون المتنامي مع المستبدين في كل من ليبيا وتونس واليمن وسورية ومصر وغيرها، وتوجد أمثلة عديدة أخرى، أما الآن فلا يتضح المشهد على حقيقته دون الربط بين أجزائه، لرؤية أبعاد استراتيجية ونتائج متبادلة التأثير، تجمع بين ما يجري تدبيره وتنفيذه في هذه البلدان وسواها وتتكامل أهدافه كي تتكامل نتائجه في مجموع المنطقة ما بين المحيطات الثلاث.
من بنات فكر المؤامرة
قبل الوقوف عند محطة “تركية” آنية من بين المحطات المتوالية الأخيرة في مجرى أحداث الحاضر المشهود.. نقف عند بعض مشاهد التاريخ القريب.
في عام ١٩٥٣م أسقط انقلاب عسكري حكومة محمد مصدق “الديمقراطية” بعد تأميم قطاع النفط الخام، وأعاد الانقلاب الحكم العسكري، الاستبدادي داخليا، الغربي خارجيا، المتمثل في سلطة شاه إيران واقعيا، وآنذاك كان كل اتهام بضلوع المخابرات الأمريكية والبريطانية لعدة سنوات في تدبير الانقلاب وتنفيذه، لا يجد “نقاشا” بل يجد ردا تقليديا يتهرب من النقاش وراء عبارة: “هذا من فكر المؤامرة”
في عام ٢٠١٣م أي بعد ستين سنة، كشف عن نصوص وثائق استخباراتية رسمية كانت سرية وسرية جدا من قبل، فأثبتت رسميا أن الاتهام صحيح وأن المؤامرة هي ما تصنعه حكومات غربية وليست وليدة “فكرنا المريض!”.
يسري شبيه ذلك على انقلاب تشيلي عام ١٩٧٣ وما تلاه من حكم عسكري استبدادي دموي لمدة ١٦ سنة.. ثم الكشف رسميا عام ٢٠١٣م عن دور المخابرات الأمريكية المباشر فيه.
كثير مما يشابه هذه “اللعبة التضليلية” واكب أيضا مسارات “عمليات إرهابية” كبرى كتفجيرات نيويوك وواشنطون، ولكن كان رفض مجرد النظر فيما يطرح بصدد حقيقة أمرها، رفضا جاهزا عبر الاتهام التقليدي بفكر المؤامرة أيضا بينما أصبحت تلك العمليات ذريعة للهجمة، الكبرى تاريخيا والمتواصلة منذ عقود، على المنطقة العربية والإسلامية.. وقد بلغ ضحاياها الملايين، واستهدفت بذور كل تقدم علمي وصناعي وتقني “إنجازا وأشخاصا” كما استهدفت “مكونات شخصية الإنسان الفرد” ترويعا وتشويها، وربما ينكشف لأحفادنا مستقبلا بعض الوثائق “السرية حاليا” حول حقيقة “المؤامرة”!
الأمثلة عديدة جدا.. فلينشر من شاء ما شاء من مقولات تدور عموما حول “الاتهام الغوغائي بفكر المؤامرة”، عندما نقول استنادا إلى قرائن في منزلة الأدلة: إن ما نواجهه الآن ونتعرض له من أعاصير مضادة للثورات الشعبية في البلدان العربية ومضادة أيضا لتركيا التي احتضنت مسار تلك الثورات أكثر من سواها، إنما هو حلقة معاصرة تحمل القوى الدولية خارجيا والمرتبطون بها إقليميا ومحليا المسؤولية عن مجراها، مثلما صنع أسلافهم في مسلسل لم ينقطع يوما واحدا منذ “مؤامرة سايكس بيكو” ومن قبل.
أما “دافع الجريمة” فهو الحيلولة دون بزوغ فجر حضاري جديد في المنطقة، تعتبره القوى “المهيمنة ماديا” على الحضارة الغربية خطرا على “هيمنتها” تلك.
موقع تفجير سروج في استهداف تركيا
إن تفجير سروج وما قبله وما تلاه هو جزء من استهداف تركيا، فما الذي يجعلها مستهدفة؟ وكيف تتعامل مع الأحداث؟ وما هو الموقف المطلوب إزاءه؟
إن من يستهدف تركيا يستهدفها “وطنا وشعبا ودولة وسياسات إقليمية، وإن أُعطي ذلك أحيانا عناوين توهم بحصر الاستهداف في “حكم إردوجان” أو “حزب العدالة والتنمية”، مع تجاهل فاضح لما تعنيه الانتخابات الديمقراطية والإرادة الشعبية.
لم تصدر تركيا “إرهابا” خارج الحدود كما صنعت إيران وتصنع لتجد في النهاية مكافأتها عبر “الاتفاق النووي”..
ولم تمارس تركيا سياسة “معادية” للقوى الدولية وهي العضو في حلف شمال الأطلسي وطلبت العضوية في الاتحاد الأوروبي..
ما الذي تصنعه إذن السياسات التركية وتؤثر به على “الساحة الدولية” فيستدعي استهدافها، نتيجة تقدير “خطورته” على واقع الهيمنة.. هيمنة القوى المتحكمة في صناعة القرار في عالم الحضارة الغربية المعاصر؟
إن “جريمة تركيا” الأكبر -في السنوات الماضية- بمنظور تلك القوى هي دعم الحق الفلسطيني والعربي والإسلامي والإنساني بأن تتحرر الإرادة الشعبية والأوطان في عالم يقال إنه عالم الديمقراطية وعصر يقال إنه عصر حقوق الإنسان وحرياته.
في هذا الإطار يأتي تفجير سروج وما بعده في نطاق حملة مزدوجة تستهدف:
١- زعزعة استقرار تركيا داخليا على محاور “مجموعة جولن” أولا، ثم التحالف غير المتجانس من وراء حزب الشعوب الديمقراطي، وكذلك تلغيم ما سبق التوصل إليه بنجاح ولكن بصعوبة بالغة لتفكيك الأزمة القديمة مع الأكراد، مع ربط ذلك “التلغيم” بخارطة جديدة لوجود الأكراد إقليميا.
٢- استفزازات لا تنقطع لدفع تركيا إلى أحد طريقين عسكريين، إما مشاركة ما يسمى التحالف الدولي لضرب داعش دون التعرض لمصانع الإجرام والإرهاب الأسدية، أو الدخول في معركة انفرادية رغم الإعلان المسبق رسميا أنها لن تجد تأييدا أطلسيا أو غربيا.
الخطوات الأولية لتركيا قبل تفجير سروج وبعده تظهر أن الضغوط المتواصلة عاجزة حتى الآن عن دفع المسؤولين في تركيا إلى التخلي عن حذرهم، واتخاذ قرار متسرع، قد يسبب انهيار الاستقرار الداخلي أو التورط العسكري الخارجي.
الموقف المطلوب
من منطلق الثورة الشعبية في سورية وكذلك من منطلق مصلحة الشعوب العربية الثائرة في مواجهة الأعاصير المضادة لثوراتها ولربيع تحرير إرادتها، لا يفيد موقف “قطعي” مع تتابع الأحداث، فقيمة الموقف مرتبطة بتفاعله وتعديله عند الحاجة بما يواكب المستجدات.. ولكن نحتاج إلى معالم كبرى بحيث يتحدد كل موقف جديد في نطاقها، ومن ذلك على سبيل المثال دون الحصر بشأن تركيا موضع الحديث هنا:
١- القرار التركي.. تركي يتخذه المسؤولون في تركيا، وكل محاولة للتأثير عليه من خارج نطاقهم لا يساهم في تحقيق مصلحة تركيا وموقعها من المصلحة العليا المشتركة بينها وبين شعوب المنطقة وثوراتها بما في ذلك سورية، ولا ينفي ذلك بيان ما تحتاج إليه الثورة الشعبية في سورية من دعم مدروس.
٢- تحرير إرادة الشعوب، في سورية وأخواتها، لا يتحقق من خلال تدخل خارجي، جزئي أو شامل، وعسكري أو غير عسكري، بل هو عملية طويلة الأمد وكل شوط من أشواطها مرتبط بإنجازات ذاتية، ومن الإنجازات الذاتية كسب التأييد الخارجي دون أن يكون على حساب الأهداف المشروعة.
٣- مصادر التأييد والدعم معدودة محدودة، ولكل منها ظروفه واعتباراته وإمكاناته، ولا ينبغي بناء العلاقة مع أي منها على حساب العلاقة مع طرف آخر، بل ينبغي الوصول عبر التعامل مع “الجميع” إلى نسيج تكون حصيلته هي المعيار في خدمة أهداف الثورة.
٤- خدمة المصلحة العليا المشتركة ليست محدودة بواقعة أو حدث، بل تتحقق من خلال الربط بين الأحداث المتعددة وخلفياتها، والقدرة على التعامل معها دون إغفال التأثير المتبادل فيما بينها، بحيث يخدم مسار الثورة، وطنا وشعبا ومستقبلا وعلاقات خارجية.
نبيل شبيب