تحليل – بين عقم البرج العاجي وعطائه
نحن أحوج ما نكون إلى بيان كيف تتعايش رؤانا المتعددة تعايشا يشمل طرحا فكريا وثقافيا وأدبيا وعلميا، وطرحا عمليا مرتبطا بواقعنا المعاصر
مع كل حدث تغييري كبير تدبّ في الساحات الفكرية والثقافية والأدبية والإعلامية هبّة حياة جديدة، ثم نعود إلى الروتين القديم.. ومنه مثلا الخوض في نظريات ومقولات، عتيقة وحديثة، لها قيمتها الذاتية، ولكنها نائية بمفعولها المعاصر عن الإنسان وهمومه والواقع الآني واحتياجاته.
قفص الروتين
إن فائدة الثقافة العامة وتفاعل الثقافات تتطلب أن تتميّز كل ثقافة بعطاءاتها الذاتية، كي تتجاور مع سواها، ويكون التبادل تبادلا حقا، ويكون فيه جوهر التفاعل الإنساني، ولكن "مجرد" الإنتاج، بعيدا عن التفاعل مع متطلبات الحدث الجاري، يتحول بصاحب الإنتاج إلى ترف فكري وثقافي؛ يسري هذا في الفترات الاعتيادية من حياة الأمم، ويسري بدرجة أشدّ عندما يكون الإنسان والمجتمع في أزمة وجود على أكثر من صعيد، بما في ذلك ميادين الفكر والثقافة والدعوة والأدب والإعلام والفنون.
إنّ فيما يعيشه الإنسان.. من حقوق الأطفال والنساء والشبيبة والشيوخ، والإنسان.. في بطولات صناع التغيير، والإنسان.. في المآسي الفردية والجماعية المتتابعة.. في جميع ذلك ما يكفي ليتحرّك وجدان الأدباء والشعراء والكتّاب فيفجّر طاقاتهم وقرائحهم ومواهبهم، إنجازا يجعل أقلامهم لا تجد متسعا من الوقت لترف فكري وثقافي، وآنذاك تصبح عطاءاتهم أمثلة ونماذج تربطهم بواقع الإنسان، فيتغيرون ويساهمون في التغيير.. ولكننا غائبون بدرجات متفاوتة بإنتاجنا "الإبداعي" عن وقائع مباشرة ومشكلات المعيشية اليومية وتطورات القضايا المصيرية وما يعنيه جميع ذلك من نتائج واسعة النطاق، جغرافيا ومضمونا، على المدى القريب والبعيد.. ولا يضمحل هذا الغياب عبر "جلد الذات" أو "جلد الآخرين"!
جميل أن يعرّف بعضنا باكتشاف قصيدة كانت مجهولة لشاعر أسباني كالشاعر لوركا أو أديب فرنسي كالأديب رامبو، أو أن نتعرّف على كتاب أجنبي ككتاب "قرن الحب والرغبة" ليخوض بنا في الأدب الفرنسي الأقلّ شهرة من سواه، أو أن يندفع أحدنا لإجراء بحث علمي -لا يستهان بقيمته- عن طائفة مثل "الطائفة الجينية".. كلّ هذا مقبول وإن صعب الاهتمام به خارج نطاق التخصّص الجامعي.
أجمل من ذلك أن يحتضن هذا "الإنتاج" وأصحابَه توازنٌ يصنعه العطاء المبدع المتفجر بالتعبير عمّا عندنا، في البيت والحارة والقرية والمدينة، في المواجهات والمخيمات والمشافي والمدارس والجامعات.. نحتاج إلى توازن العطاء قبل أن تحترق أقلامنا احتراقا يمنع التفاعل مع ما تصنعه الأخطار الجسيمة الكبرى المحيقة بنا والغازية لديارنا، والموجبة أن نطرح أفكارا ومبادرات تتجاوز الحواجز والمسافات والانتماءات، وتجمع الأفكار والأحاسيس والطاقات، وتبيّن بصورة واقعية سبل العمل والبذل "وسط المحن ورغما عنها" ليظهر البديل العملي عن تلك الصور الهزيلة المهينة التي تُعلن مرّة بعد مرة، بأساليب استعراضية سخيفة، عن "عجز" يحكم بلادنا وشعوبنا ويتحكّم في قضايانا.
الموعظة السهلة
ربّما انصرف ما سبق من أمثلة عند بعض القرّاء على فريق ممّن ينتمون إلى التيار العلماني، فلننظر فيما نعايشه من كمّ متزايد من المواعظ والأدعية، ومن دروس تتناول أحكاما فقهية وسيرا تاريخية، ولكن بأسلوب الاستنساخ، فلا جديد سوى استخدام وسيلة إلكترونية في الإخراج.
لا اعتراض على موعظة أو تعليم فقه، ولكن الاعتراض عندما يصبح ذلك كمن يعلّم أحكام الصيام لمن يطلب لقمة طعام ولا يجدها.
ومن وجوه "الروتين" المتفشّي أيضا التركيز على مشاهير من عهود ماضية من داخل بلادنا، هجوما أو دفاعا، نقدا أو تقديسا، وما كانوا قطعا معجزات تاريخية ولكن ساهموا في صناعة التاريخ البشري، فأصابوا وأخطؤوا، إنّما المسيء أن نجعل النظر في أعماق التاريخ يتركّز على إثارة خلاف الآن، لا سيما عندما ينطلق من "البرج العاجي"، من صاحب عمامة أو قبعة.. ليساهم في اشتعال جبهات معاصرة حافلة بالأخطار.
نحن أحوج ما نكون في هذه المرحلة بالذات إلى بيان كيف يتعايش ما نراه متفرقين تعايشا يشمل طرحا فكريا وثقافيا وأدبيا وعلميا وإعلاميا وفنيا، وطرحا عمليا مبدعا مرتبطا بواقعنا المعاصر.
إنّ المثقف أو الأديب أو المفكّر أو الفنان أو الإعلامي أو الكاتب عموما، سيان ما هو انتماؤه أو اتجاهه، لا يحمل وصفه ولقبه بجدارة، إذا انفصل بصوته وقلمه وإنتاجه عن واقع الجماهير، وهم في الأصل من يُفترض أن يستهدفهم بعطائه، ولا يقولنّ أحدنا: هم لا يُقبلون علينا.. فهو إذا كان من "النخبة" المسؤول -وليس الجماهير- عن ابتكار سبل التواصل بينه وبينها، بما يتجاوز حدود غروره السجين وراء قضبان التجاوب من جانب أقرانه من النخبة فحسب.. إنه وهم معه آنذاك فريق معزول عن العالم والعصر، لا علاقة لعطاءاتهم بالأمّة واحتياجاتها، وإن فاضت بها قاعات الجوائز التكريمية في "البرج العاجي".
طوق النجاة
هذه خواطر لا تميّز بين تيارات وفرق ومدارس، فالقصد أن تتضافر الجهود للخروج من مسلسل التردّي الفكري والثقافي والأدبي والفني والإعلامي وحتى البحثي العلمي، واستشعار المسؤولية الملقاة على عاتق القادرين على العطاء، ففي أيديهم.. معا، مفاتيح التحوّل، ما بين حقبة وحقبة.
رصدنا مثلا كيف كانت ثقافة الإنتاج السينمائي والمسرحي والغنائي في الخمسينات والستينات من القرن الميلادي العشرين تعيش في عالم منفصل عن واقع الشعوب، فساهمت في الضياع دون البناء، والانحراف دون الإنجاز، وسقطت تلك الثقافة جماهيريا، ولن يفيد بعض أساطنة الموروث من مصانعها أن يبذلوا محاولات مستميتة مع إنفاق الملايين.. لتجديد نشرها عبر الفضائيات تخصيصا، باعتبارها "تراثا فنيا"، وهم من كانوا ينشرون مقولة إنّ الإبداع في الفن يكون جديدا إذا تمرّد على "قيود التراث"؛ أين تمردهم "المبدع" إذن على ما أخفق فيه أسلافهم في التاريخ الحديث القريب!
كما رصدنا عزلة الحركة الإسلامية عن كثير من القضايا الحيّة، بدءا بقضية المرأة، مرورا بقضية العامل، وانتهاء بقضية الفلاح، وإن ساهمت في نشر "الصحوة" عموما.. فقد بقيت هذه الصحوة تفتقر إلى طاقات قيادية ذاتية، للمبادرة والتخطيط ولتحقيق قفزة العطاء النوعية المطلوبة بإنجازات تتجاوز النظرية إلى التطبيق، ولتحقيق القفزة المصيرية بين جيل مضى أو كاد وجيل جديد.
ما زلنا نعايش حكايات البرج العاجي ومن يتحلّقون حوله تصفيقا أو تنديدا.. ولكن من يعيش فيه وإن كان مزخرفا براقا، يعيش في عزلة الموات بعيدا عن الواقع. ونشهد بالمقابل أنّ قطاعات شبابية من الجماهير وصلت إلى "الأبراج" بوجدانها ووعيها، وتنتظر من داخل صفوفها من يرتقي بنفسه وبمستواه، عطاء فكريا وثقافيا ليكون له نصيب من دور القيادة والريادة والإرشاد، ولا قيمة بعد ذلك للتسميات فالعزلة عزلة موات وإن لم نرَ الأكفان.
إن العطاء والتفاعل يصنعان الأبراج، وليس العكس، ولا تصنعها الألقاب أيضا، بدءا بالنخبة، انتهاء بتعبير "حصون الأمة"، مهما ظهرت البلاغة في صياغتها ورافقتها أضواء مسلّطة على جوائز لا تعطي هي قيمة لمن يحوز عليها، بل تكتسب قيمتها الحقيقية بقدر ما يكون عطاء من يحصل عليها هو مصدر تلك القيمة.
إنّنا في حاجة إلى المثقف الذي لا يصطنع في عالم الثقافة والفكر والأدب والفن هموما يتيه فيها فيساهم في زيادة التيه، وقضايا مبتورة عن الواقع فيساهم في الانشغال بها عن رؤية الطريق، بل يكون هو من يحمل الهمّ الواقعي القائم فعلا من حوله، بالكلمة الوجدانية الحية الفاعلة، والفكرة المبتكرة العملية المؤثرة، واللوحة الناطقة من وراء جمال الألوان، بواقع المكان والزمان.
نحتاج إلى من يساهم في رؤية طوق النجاة، ثمّ لا يقول لسواه: هذا هو، بل يحمله بنفسه في وجه الموج الهائج، ويضمّ جهده إلى جهد سواه، في حمل تبعات الأمانة وفق ما يجيده ويجود به، فكرا ودعوة وإعلاما وثقافة وأدبا وفنا وعلما.. تلك هي مسؤوليته الجليلة الكامنة في مداد قلم من عصارة تفاعله مع الإنسان واحتياجاته من حوله، وآنذاك يستفيد من الغوص فيما صنع سواه في غابر الأزمان تاريخيا ووراء الآفاق جغرافيا.
نبيل شبيب