تحليل – بعد (طعنة القرن) لشباب مصر وأخواتها

بدأت الثورة.. كما بدأت الأعاصير الانقلابية ضد التغيير الذي فتحت الثورة أبوابه، وكلاهما جزء من مسار التغيير

46

 

(١) قبل الثورة  (٢) "طعنة القرن" (٣) الخطر الأكبر (٤) بين التنظير والتدبير

 

على غير ما اعتاد هذا القلم أرجو أن يعذره القراء أن يكون بعض الحديث في هذا الموضوع حديثا شخصيا، لا سيما أن المشهد الأخير من الحدث الذي سمي "محكمة القرن" يخلو من الأبعاد "القضائية والحقوقية" التي يتطلب الحديث عنها حججا وبراهين، وله بالمقابل أبعاد سياسية ولكنها "مكشوفة" لا تحتاج إلى بيان، كما أن "القراء" من شعوبنا أصبحوا أوعى من بعض "نخبنا" وأسبق إلى رؤية ما وراء المظاهر من "قلم تحليلي" يوضح بعض ما خفي عن الأنظار.

تبدو محاولة تحليل حدث من هذا القبيل "سفسطة".. مقابل وضوح المشهد وأنه طعنة في ظهور شباب مصر صناع الثورة، وجريمة بحق مصر ومستقبل مصر، تصل شظاياها إلى شباب الثورات العربية جميعا، وواقع البلدان العربية والإسلامية كافة. ولكن في المحصلة -وهذا هو المهم- هي "مجرد جريمة" من سلسلة طويلة، لا تغير المسار ببعده التاريخي، فالجرائم لم تنقطع لعدة عقود ماضية، ولم تمنع اندلاع الثورات، ووصلت الآن إلى أدنى درجات الحضيض، ولن تكون حائلا دون النهوض من جديد، فليس بعد هذا المنحدر إلا الصعود، وليس بعد غلبة الغريزة الهمجية على بقية باقية من "حياء" إلا استعادة إنسانية الإنسان وقدرته على النهوض رغم الركام، كما يشهد التاريخ عبر ألوف الأعوام.

 

قبل الثورة

في فترة الحرمان الطويلة من زيارة سورية، كنت قبل الثورة أزور مصر مرارا -وما فرّقت يوما بين بلد وآخر من بلادنا- وكنت أسعى للاحتكاك المباشر بجيل الشباب بعيدا عن مفعول الانتماءات، ومن ذلك أن أتردد يوميا على "مقهى" في شارع جامعة الدول العربية، يتردد عليه شباب الجامعة في الدرجة الأولى.. وكان "فارق السن" يثير الحديث دون معرفة شخصية سابقة.

آنذاك بدأت أكتب تلميحا وتصريحا بأن مصر مقبلة على "التغيير" قريبا، وأن جيل شبابها وفتياتها سيحمل عبء التغيير، لا أدري كيف ومتى، ولكن أرى في مواصفات هذا الجيل وحديثه وما يعبر عنه من مشاعر وأفكار بذور الرؤية المستقبلية واليقين بضرورة التحرك للتغيير، وكان أقراني (وليسمحوا لي بأن أصف أنفسنا بجيل القرن الماضي) يرون فيما أقول "أوهاما وأحلاما وصورة مثالية بعيدة عن عالم الواقع".

ثم كانت الثورة، ثورة ٢٥ يناير (كانون الثاني) الشبابية الحضارية التاريخية المجيدة، ففتحت مع أخواتها أبواب التغيير الجذري على مصراعيه.

شباب مصر كان محاطا بالأغلال والقيود والأخطار.. وصنع ثورة.

وهو الآن كما كان.. وسيتابع طريق الثورة والتغيير بإذن الله.

لا ينبغي أن نكرر "أخطاءنا" السابقة عندما نشرنا "فقدان الثقة" بجيل المستقبل.

لا ينبغي أن نكرر "أخطاءنا" عندما نشرنا مقولات من قبيل "موات الشعوب"، وليست الشعوب سوى نحن وأهلينا، إنما فقدنا "نحن" الثقة بأنفسنا وعامة أهلنا.. فقعدنا، ثم قلنا لاحقا: "الثورات فاجأتنا"!

وأقول لأنفسنا (لجيل القرن الماضي) لقد أخطأنا من بعد أيضا..

أخطأ كثير منّا عندما اعتبرنا يوم سقوط رأس الأخطبوط الاستبدادي (في مصر وسواها) هو يوم "نهاية الثورة"، فبات يقال ويكتب عن مصر هي ثورة حققت هدفها خلال ١٨ يوما.. بعد أن حققت ثورة تونس هدفها في ٢١ يوما!..

آنذاك بدأت الثورة فحسب.. كما بدأت الأعاصير الانقلابية ضد التغيير الذي فتحت الثوره أبوابه، وهذا وذاك  جزء من مراحل الثورة حتى يتحقق التغيير.

 

"طعنة القرن"

الآن أيضا.. يمكن أن يتكرر هذا الخطأ الجسيم في اتجاه بالغ الخطورة.. كيف؟

نعلم كيف تحرك صنّاع الأعاصير الانقلابية المضادة، ولا أعني الأدوات من "بيادق" فحسب أي من يتولون الجانب التنفيذي باغتصاب السلطة وسرقة الثورة.

لقد تحرك أساطين الهيمنة والتسلط تحركا مضادا واسع النطاق، دوليا وإقليميا ومحليا، وبذلوا جميع ما يستطيعون بذله على مدى ثلاث سنوات ونيف، مالا مسروقا من ثروات الشعوب، وإرهابا استبداديا تجاوز ما كان في أربعة عقود ماضية، ونشرا للفوضى الهدامة من خلال صناعة إرهاب همجي على غرار "الطابور الخامس" في ظهور الثورات.. وتخطيطا لتحرك أخطبوطي لمنظومة الهيمنة والتبعية.

الآن.. وصلوا إلى لحظة يريدون أن "نراها" أكفانا للثورات الشعبية، ومن بين "جزئيات" ما يصنعون لهذا الغرض: إعلان استعراض الهيمنة عبر "أحكام البراءة المزعومة من المسؤولية الجنائية والسياسية عن جميع ما ارتُكب من جرائم غير مزعومة".

كلا..

لم يكن سقوط رؤوس الأخطبوط نهاية مسار الثورة والتغيير.. بل بداية مرحلة تالية

وليس هذا المشهد الاستعراضي نهاية مسار الثورة والتغيير.. بل بداية مرحلة تالية

ليس ما يطرحونه صحيحا مهما حرصوا على إخراجه في صيغة "مشهد ختامي" أو حصيلة "ثابتة" لحركتهم الشاذة ضد مجرى التاريخ.

ولا ينبغي الترويج دون قصد لما يحرصون عليه من نشر الإحساس بأن ما أسموه "محكمة القرن" لاستبداد القرن وتحول إلى "طعنة القرن"، وكأنه فعلا "طعنة قاضية" في ظهر الجيل الثائر على الاستبداد المحلي والإقليمي والدولي.

 

الخطر الأكبر

إن أخطر ما وصلت إليه الأعاصير الانقلابية المضادة الآن هو هذا التأكيد الاستعراضي "الإرهابي" العلني لما كان على الدوام موجودا ولكن وراء بقية غشاء من حياء:

ليست القضية قضية "إنسان" و"حقوق" و"حريات" و"إرادة شعبية" و"انتخابات" و"ديمقراطية" و"دستور" و"قوانين دولية".. بل هي قضية هيمنة.. وسيطرة.. وقوة غاشمة.. وغدر متكرر.. وإجرام علني.

وسيان هل يوضع جميع ذلك أو لا يوضع تحت عنوان "سياسة المصالح" النفعية.. فهو في الحالتين على غرار ما نعرفه عن مقولة إبليس "إني أخاف الله رب العالمين" وهو يعلم ونحن نعلم.. أن هذا لا ينجيه من النار يوم الدين ومن اللعنات إلى يوم الدين.

أين مكمن الخطر الحقيقي؟..

يقولون لجيل المستقبل وبئس ما يقولون:

طريق الإصلاح على نار هادئة.. مسدودة

طريق الثورات الشعبية المشروعة.. مسدودة

طريق الانتخابات لتحكيم الإرادة الشعبية.. مسدودة

طريق العمل الأهلي / المدني خارج قفص الاستبداد والهيمنة.. مسدودة

طريق الكلمة الحرة المستقلة الفعالة في مواجهة الانحرافات جميعا.. مسدودة

يقولون لجيل المستقبل وبئس ما يقولون:

ليس أمامكم إلا الخضوع الانتحاري للإجرام الاستبدادي أو الاستجابة الانتحارية لإغواء الإجرام الإرهابي،

ولا يسري هذا على مصر فقط، بل على الشعوب الثائرة جميعا، وعلى سائر الشعوب أيضا.

الخطر أكبر من أفاعيل مناورة سياسية استبدادية أو أمنية قمعية أو عسكرية انقلابية أو تدخل عدواني، فالمستهدف هنا هو "الإنسان" في جيل المستقبل، هو قلبه وفكره وسلوكه، واستيعابه كيف ينبغي أن يتابع الطريق على منهج الثورة والتغيير الذي التزم به، وليس على "السبل المتشعبة" يمنة ويسرة، خضوعا انتحاريا أو إرهابا قاتلا.

قليل منا، من "جيل القرن الماضي" من استوعب ما يعنيه هذا المنهج الذي عبر عن جيل المستقبل فأعطى الثورات الشعبية معالمها الرئيسية دون سابق تخطيط وتدبير.. ولا يزال من أهم معالم هذا المنهج بين يدي جيل الثورة والتغيير:

هو منهج ثوري تغييري تاريخي.. إنساني، لا يقاس النجاح والإخفاق فيه بحدث واحد، كسقوط رأس أخطبوط أو نتوء آخر، ولا بمرحلة واحدة على الطريق، كمرحلة "اندلاع" ثورات شعبية جماهيرية كبرى، ومرحلة ردّات انقلابية وتدخلات دولية واسعة.

إن أخطر ما يتعرض له جيل الثورة والتغيير من وراء ذلك.. هو الانحراف تحت الضغوط ليسلك طريق الخنوع أو طريق الإرهاب، فلا هذا ولا ذاك ما يوصل إلى الهدف الجليل المشروع الكبير، ولا هذا ولا ذاك ما يمثل أي مرحلة من مراحل منهج الثورة والتغيير.

 

بين التنظير والتدبير

هل يكفي الكلام التنظيري؟.. ألا نحتاج إلى التخطيط والتدبير مع التفكير؟.. لا شك في ذلك.. ولكن كيف؟

بتعبير آخر:

هل يمكن أن تظهر "الآلية العملية" للعيان دون أن ينتشر الحد الكافي من "ثقافة التغيير".. لا سيما التوافق العام على المحاور الكبرى والقواسم المشتركة المطلوبة للمنهج والتخطيط له؟..

ألم يتفرق المجتمعون بعد كل اجتماع بسبب غياب مثل هذا التوافق وراء مفعول "استباق التنافس" على الرؤى المتعددة المستقبلية البعيدة المدى؟

ليس السؤال: هل سيظهر التوافق والمنهج والتخطيط، بل: متى.. مع ضرورة الشعور بالمسؤولية الفردية على هذا الصعيد عبر السؤال:‎ هل سيكون المتكلمون الآن عن منهج قويم وفعال جزءا منه أو لا يكونون؟

الجواب عند السائل نفسه: الشرط الواقعي وليس "التنظيري" هو استيعاب مسار الثورة والتغيير تاريخيا، وليس انتمائيا، كي نتمكن من ربط كل فكر مطروح بواقع ملموس.

قبل الثورات الشعبية لا سيما في مصر.. كانت "الإرهاصات" موجودة، نراها أو لا نراها، ولكن تفعل فعلها حتى أخذت "شكلا" محددا فبدأنا نربطها بأسماء وأماكن وأحداث.. مثل بوعزيزي، وميدان التحرير، وتوكل كرمان، وثوار مصراته، وحمزة الخطيب.. مثلما اتخذت الأعاصير المضادة أشكالا بدأنا نربطها بالسبسي والسيسي وحفتر والحوثي وداعش..

الآن أيضا.. نرى "إرهاصات" و"معالم عامة" و"اجتهادات تنظيرية" و"تحركات ميدانية".. منها ثورية ومنها المضادة للثورة والتاريخ.

نرى في تونس اجتهادات، وفي مصر بطولات طلابية، وفي ليبيا صمودا ثوريا، وفي اليمن نقلة نوعية في الوعي الشبابي، وفي سورية مساعى جادة لتوحيد القيادة الثورية.. ونرى مقابل ذلك نشأة محاور جديدة بين "خصوم" الأمس، وحربا مشبوهة ضد الإرهاب بعد تركه من قبل ليترعرع، وتحركات سياسية لا نهاية لها يرث بعضها بعضا..

جميع ذلك "معا" هو المشهد الراهن، وقد تظهر غدا جوانب أخرى فيه.

إن مسار الثورة والتغيير يتطور باستمرار ولن نستطيع ربطه مسبقا ولكن "يجب" التلاقي أو انتشار حد أدنى من التوافق على محاور وقواسم مشتركة أساسية، عسى نتمكن من تحقيق النقلة الجماعية العملية إلى التخطيط و"التدبير" وفي مقدمتها بإيجاز:

١- منهج الثورة والتغيير هو منهج للشعوب والأوطان فوق جميع الانتماءات والتوجهات، ودون أي صيغة من صيغ الإقصاء واحتكار الطريق إلى الصواب.

٢- لا يستقر "التخطيط" للوطن الواحد، دون أن يضع في حساباته العلاقة بين المعطيات الوطنية وسائر المعطيات الإقليمية والدولية.

٣- المنهج المطلوب يجمع بين "خبرات" الخبراء التقليدية والمنهجية من عصارة التطور الحضاري البشري، لدى "جيل القرن الماضي"، وبين "استيعاب" المعطيات المتبدلة يوميا في اللحظة الراهنة ومن يصنع الحدث في اللحظة الراهنة من جيل المستقبل.

٤- المنهج المفروض هو تحديد المنطلقات واقعية كما هي، والأهداف البعيدة الجليلة العزيزة الكبيرة كما طرحتها الشعوب بثوراتها، وحصر الإمكانات المتوافرة لتنميتها وحسن توظيفها، وتحرير أدوات التنفيذ تمويلا وتوجيها وتنظيما وحظر تحويلها من "أدوات تنفيذية".. إلى أغلال تعيد صناعة الاستبداد.

نبيل شبيب