تحليل – بذور تمرد على الخلل المالي العالمي
لا يكفي إصلاح البنية الهيكلية للنظام المالي العالمي دون إصلاح أسلوب التفكير والسلوك للدول نفسها
لا يكاد يوجد مجال لعبت فيه المؤسستان الماليتان الدوليتان، صندوق النقد الدولي والمصرف المالي العالمي، دورا رئيسيا، إلا وكانت النتائج لصالح الأثرياء وعلى حساب الفقراء، على مستوى الدول بين الشمال والجنوب، وعلى مستوى كل دولة على حدة بين فئات المجتمع المتعددة.
هذه الاتهامات وأمثالها مما يوجّه إلى المؤسستين الدوليتين لم يعد تقتصر على تلك الصادرة عن الدول النامية، فمن داخل الدول الغربية المستفيدة عامة من النظام المالي القائم منذ قيام المؤسستين عام 1944م على أنقاض الحرب العالمية الثانية وفي ظل الهيمنة الأمريكية شبه المطلقة عسكريا آنذاك، تزداد الأصوات الناقدة، وإن تعددت منطلقاتها، ما بين مدافع عن مصالح الفئات الاجتماعية الأفقر في الغرب وعن الدول النامية، بدوافع إنسانية، وبين أصحاب النظرة البعيدة من الزاوية المصلحية الذاتية المحضة أيضا، فتنامي الفوارق القائمة بين الفقر والثراء عاما بعد عام وعقدا بعد عقدا، يعود في نهاية المطاف بنسبة من الأضرار المادية لا بأس بها على المسيطرين على ثروات العالم ومنتجاته، وهم يقلّصون بأنفسهم القوة الشرائية في أسواق تصريف منتجاتهم.
ولم يكن هذا التطور عبر ستة عقود مضت تطورا تلقائيا غير مقصود، فأثناء المفاوضات التمهيدية لقيام المؤسستين عقب الحرب العالمية الثانية ظهر اتجاهان رئيسيان، الأمريكي والبريطاني، وتبنى الأول ترسيخ قواعد أساسية للتعامل المالي تقوم على مواجهة العجز في موازين مدفوعات الدول المعنية بقروض ذات فوائد ربوية، وشروط تراعي أصحاب المال على حساب العاملين، وبمعايير تتخذ من النمو الاقتصادي، بمعنى حجم الإنتاج الذي تحققه الشركات، مقياسا أساسيا للنجاح أو الإخفاق.وتبنى الاتّجاه البريطاني، من منطلق الوضع الاقتصادي والمالي المتردي في بريطانيا والدول الأوروبية الأخرى بعد الحرب، ترسيخ قواعد أخرى تدعو إلى الدعم المالي من الفوائض المالية لدى الطرف الأقوى ماليا، دون أن يقترن ذلك بشروط تزيد قوّته على حساب الأضعف، وكان أن تقرر الأخذ بالتصورات الأمريكية وسط ظروف يؤكّد المؤرخون الغربيون، أنها اعتمدت على الضغوط السياسية والعسكرية فقط، ومع إدراك مسبق للنتائج المنتظرة على المدى القريب والبعيد.
إن النظام المالي الدولي القائم منذ ذلك الحين قائم على أساس تثبيت هيمنة المال، والاعتماد عليه كقوّة رئيسية في صناعة القرار في مختلف المجالات الأخرى، وهذا ما مارسته الولايات المتحدة الأمريكية كسياسة رسمية منذ ذلك الحين. وأخذ مداه الواسع النطاق بصورة مفضوحة في استخدام الأقساط المالية الأمريكية في المنظمات الدولية المختلفة، بدءا بهيئة الأمم المتحدة وانتهاء بمنظمة العلوم والثقافة -اليونيسكو- لفرض التصورات الأمريكية، ولو كانت لا تجد تأييد غالبية الدول الأعضـاء، حيث يسري أن لكل دولة صوتا يمثلها، أما في صندوق النقد الدولي والمصرف المالي العالمي، حيث يمثل المال العنصر الرئيسي في نشاطهما دوليا، فمن البداية تقرر في النظام الأساسي أن يكون عدد الأصوات مكافئا لعدد الدولارات وليس لعدد الدول، وللأمريكيين وفق ذلك زهاء ربع الاصوات وللأوروبيين حوالي الثلث، من بين أكثر من مائة وثمانين دولة عضوا في المؤسستين في الوقت الحاضر.
ورغم أن إدارة المؤسستين العالميتين كانت خاضعة على الدوام لتصورات الأمريكيين والأوروبيين، حتى أصبح من القواعد غير المكتوبة أن يكون رئيس صندوق النقد الدولي أوروبيا والمصرف المالي العالمي أمريكيا، فإن معظم من استلموا تلك الإدارة، بدءا بمكنمارا، مرورا بكامديسوس وفولفنزون وكولر وغيرهم، كانوا من خلال الممارسة العملية، يعلنون تبنيهم لوجهات نظر تكشف عن الخلل القائم الذي يكرّس هوة الثراء والفقر وبالتالي التقدم والتخلف، ويزيدها عمقا واتساعا. وكان في مقدمة تصريحات ماكس كولر تعليقا على الحديث الدائر في اجتماعات واشنطون عام 2000م -أي من قبل وصول المحافظين الجدد للسلطة آنذاك- عن ضرورة إصلاح المؤسستين العالميتين قوله "إننا لا نحتاج إلى إصلاح البنية الهيكلية لصندوق النقد الدولي، بل إلى إصلاح أسلوب التفكير والسلوكيات للدول الأعضاء فيه".
ومن بين الاقتراحات المقدّمة تحت عنوان إصلاح المؤسستين الماليتين، برزت الاقتراحات الأمريكية الواردة بصور متناقضة، من جانب الحكومة رسميا من جهة، وفي صيغة قرار من جانب "الكونجرس" بأسلوب الضغوط من جهة أخرى، ودارت حول محورين رئيسيين:
– إعطاء المصارف المالية العالمية الخاصةمزيدا من السلطة المباشرة تجاه الدول المدينة، بعد أن أصبحت موازنة كل منها تتجاوز موازنات العديد من تلك الدول منفردة ومجتمعة.
– ترسيخ سياسات الهيمنة السابقة على أساس فتح الأسواق أمام المنتجات والاستثمارات الأجنبية، في بلدان لم تبلغ اقتصاديا القدرة على المنافسة الدولية، ودون أن يظهر لاحقا استعداد فعلي من جانب الدول الصناعية على تطبيق قواعد ما يسمى التجارة الحرة على نفسها بصورة فعالة، مثل إلغاء الدعم المالي للمنتجات الزراعية، وإلغاء الضرائب والرسوم الجمركية لرفع الأسعار الاستهلاكية لمنتجات معينة كالنفط الخام، وإلغاء ما يسمى نظام الحصص لمنع منتجات معينة من المنافسة الحرة كالمنسوجات من البلدان النامية.
وبقيت نداءات إدخال الإصلاحات على المؤسستين مجرد "إعراب عن النوايا" بغض النظر عن مضامينها، فلم تتحوّل إلى قرارات، بينما حاولت الدول الصناعية وتحت تأثير الضغوط المتزايدة في الشارع الغربي من جانب المتظاهرين، الظهور بمظهر التجاوب مع المطالبة الملحة منذ أكثر من عشرين عاما بشأن الديون المتراكمة على البلدان النامية، والتي لم يبلغ حجمها ما بلغه إلا نتيجة الخلل في موازين النظام المالي والاقتصادي العالمي، وتحت تأثير رفع أسعار المنتجات الصناعية باسـتمرار، وهبوط أسعار المواد الخام والطاقة باستمرار أيضا. ولكن القرار الغربي بهذا الصدد كان واضحا أيضا، فاختيار عدد من الدول من بين 41 دولة أشد فقرا من سواها في العالم، قام على أساس إقدام تلك الدول على تلبية المطالب الغربية، اقتصاديا مع المخاطرة باضطرابات اجتماعية طبقية داخلية، وحتى سياسيا كما هو الحال مع موريتانيا في حينه، هذا علاوة على أن إلغاء الديون -عندما ينفذ مع شروط عديدة- على كاهل هذه الدول، وعلى امتداد عدة سنوات قادمة، لا يتجاوز حدود واحد في الألف من حجم الديون المتراكمة على الدول النامية عبر ستين عاما مضت، كما لا يتجاوز واحدا في المائة من الديون المتراكمة على المجموعة الأفقر منها، والبالغ عددها 41 دولة.
إن المشكلة الأكبر في التعامل مع المؤسستين العالميتين، هي تلك التي عبرت عنها بكل وضوح وبصورة مباشرة، وزيرة التعاون الاقتصادي والتنمية سابقا في ألمانيا، هايدماري زيول، بقولها: ((يبلغ عدد الدول النامية في منظمة التجارة الدولية ثمانين في المائة من الدول الأعضاء، فإذا نظمت نفسها فعلا، وتحركت مع بعضها بقوة لتمثيل مصالحها، فلا يمكن تحقيق تقدم ما في المنظمة، إلا إذا تحقق تغيير حقيقي في مسألة وصول صادرات تلك الدول النامية إلى الأسواق)).
وتكاد الوزيرة الألمانية -التي أثارت بتصريحات أخرى انزعاج بعض أقرانها في الوفد الألماني نفسه- تحرّض الدول النامية بذلك بصورة مباشرة على التمرّد على سياسة الهيمنة الأمريكية، والهيمنة الغربية عموما، وقد أصبح التعبير الجديد عنها هو ظاهرة العولمة، وتصنع ذلك بعد أن ظهر التمرد بشكل أوضح في تعامل الأوروبيين مع الأمريكيين، على أكثر من صعيد، من ذلك الميادين الاقتصادية والمالية، كما شهد مؤتمر سيآتل لمنظمة التجارة الدولية، وشهد النزاع على تعيين رئيس جديد لصندوق النقد الدولي لاحقا. وصحيح أن الأوروبيين أيضا يتحركون تجاه الدول النامية بمنطق المصلحة الذاتية الأنانية فقط، ولكن يكادون هم أنفسهم يحتاجون في تمردهم على الهيمنة الأمريكية إلى دعم الدول النامية، بأن تتحرّك من منطلق مصالحها، وهو ما لا ينتظر دون أن توجد أرضية مشتركة بين سياسات الأنظمة ومصالح الشعوب، فهنا مكمن العلة الكبرى حتى الآن، وهنا المدخل الذي استغله وما زال يستغلّه صانعو القرار الاقتصادي والمالي في الغرب لتحقيق ما يريدون، ولو أدى ذلك إلى انتشار مزيد من المجاعات والأوبئة وإلى ازدياد البؤس والفقر بين النسبة الأعظم من أفراد ما يسمى "الأسرة البشرية".
نبيل شبيب