انقلاب عسكري في مصر قبل عقود

الانقلابات العسكرية لا تصنع التغيير

تحليل – ثورة ٢٣ يوليو / تموز ١٩٥٢م هي في واقعها انقلاب عسكري رسّخ في مصر ما كان يفترض تغييره

184

تحليل

منذ عام ١٩٥٢م ما يزال يُحتفل في مصر عاما بعد عام بما عُرف بثورة ٢٣ يوليو / تموز أو حركة الضباط الأحرار، أو ما يندرج وفق العلوم السياسية تحت عنوان انقلاب عسكري. وكانت الأوضاع قبل تلك الحركة أوضاعا متردية مزرية، فكان أهم مطلب مفترض تاريخيا أن تكون حركة تغييرية، ومن هنا كان الترحيب الشعبي بها عاطفيا وكبيرا. ولكن ماذا عن الأوضاع الراهنة في مصر بعد عقود من هذا التحرك العسكري تحت عنوان ثورة؟

لئن عجز الانقلاب أو الثورة العسكرية عن تحقيق أهدافها، على حدّ تعبير محمد حسنين هيكل، وما كان ولاؤه لتلك الحركة موضع اتهام، فما الذي يُحتفل به إذن؟

لئن انتشر في هذه الأثناء الاعتقاد أن الانقلابات العسكرية لا تُحدث التغيير المنشود نحو الأفضل، وباتت الأوضاع الراهنة في مصر أشدّ وطأة مما كانت عليه مطلع الخمسينات من القرن الميلادي العشرين، فما الذي ينبغي صنعه إذن؟

فلنستخدم كلمة ثورة من باب استخدام الخطأ الشائع، إذ شاع استخدامها على وصف ما شهدته مصر سنة  ١٩٥٢م، وقد أدّى في حينه إلى إنهاء الملكية وإقامة حكم جمهوري، ولكن ما الذي يوجد في مصر في الوقت الحاضر؟

هل هو حكم جمهوري أم حكم فردي لا تختلف فيه صلاحيات رئيس الجمهورية عن صلاحيات أي ملك في دولة تسيطر عليها الملكية المطلقة؟

ما الذي ينبغي صنعه ليصبح النظام الجمهوري نظاما جمهوريا دستوريا نيابيا فعلا، خاضعا لقواعد المسؤولية والمحاسبة، وفصل السلطات وسيادة القضاء، وتداول السلطة مع تحديد معقول لفترة الرئاسة، وجولات انتخاب حقيقي دون ممارسات مشينة تجعل الانتخابات من قبيل تثبيت الخيار الأوحد فحسب؟

إذا أوصلت ثورة ١٩٥٢م كما يقال عنها إلى التخلص من بقايا الاستعمار الأجنبي في مصر، فكيف هو الوضع بعد عقود؟

هل يمكن القول بسيادة مصرية لا تخضع لإرادة أجنبية، ولو جزئيا، أي على غرار ما كان قبل عقود عديدة؟ هل يمكن القول باستقلال ناجز رغم شروط القروض السنوية باسم مساعدات، وشروط توريد القمح تخصيصا، والشروط المفروضة على الوجود العسكري المصري الوطني في سيناء، والارتباطات السياسية في صيغة محاور إقليمية مرتبطة بالدولة الأمريكية، وغير ذلك من مظاهر التبعية السياسية والعسكرية والاقتصادية، أو مظاهر الاستعمار الحديث، وقد أصبح جميع ذلك علنيا لا يحتاج إلى دليل ونقاش؟

ثم هل قضت ثورة يوليو / تموز، كما جاء في أهدافها الخمسة، على الإقطاع وسيطرة رأس المال، أم أن الحصيلة الراهنة هي وجود فئة عسكرية مترفة كما كان الإقطاع سابقا، وهي مسيطرة ماليا واقتصاديا، كما كان رأس المال سابقا، تفرض ما تريد وتصنع ما تريد عبر قنوات الفساد، كما كان الوضع في العهد الملكي سابقا، فكيف يمكن التخلص من الموبقات التي قامت الثورة المزعومة أو الانقلاب العسكري للتخلص منها؟

كان الهدف الرابع بين أهداف الحركة التغييرية بناء حياة ديمقراطية سليمة، ولا نخوض في جدل حول ما تعنيه الكلمة، وقد أصبحت من أكثر الكلمات تداولا بعد أكثر من جيلين من عمر مصر وسكانها، وبعد بضعة رؤساء للجمهورية والمفروض استثناء محمد نجيب الذي عُزل من منصب رئاسة الجمهورية، هكذا دون استفتاء ولا انتخاب ولا قرار نيابي، والمفروض أيضا استثناء محمد مرسي فقد حصل على كرسي الرئاسة بالانتخابات، ولكن لم يكن يسيطر فعلا على أعمدة السلةة أي أجهزة الأمن والإعلام والمال والاقتصاد والقضاء، وفيما عدا ذلك بات كل رئيس ينتسب إلى تلك الثورة بمنزلة حاكم متسلط مدى الحياة، سواء أجريت انتخابات وفق قوانين وإجراءات مفصلة على مقاس بقائه في السلطة، أو دون انتخابات، وحتى الآن يجري الحديث عن ضرورة الإصلاح السياسي، وضرورة الإصلاح الديمقراطي، فكيف تقوم الديمقراطية رغم عوائق تصنع صنعا دون قيامها، وأكبر العوائق هو السلطة نفسها، التي كان أول ما استمدت منه مشروعية مزعومة لنفسها أي للانقلاب العسكري هو الوعد بالديمقراطية؟

كان من الأهداف الستة أيضا بناء جيش وطني، ونعلم ما تحقق من تقليص للجيش أفرادا ومعدات، من قبل أن يصبح السلام زعما هو الخيار الاستراتيجي الأوحد لمصر وأقرانها من بلدان عربية بسلطات شبه مطلقة. وإن الجيش الوطني لا يكون جيشا بمعنى الكلمة دون مراعاة عنصر توازن القوة المسلحة مع مصدر الخطر، ومصدر الخطر القائم على مصر وجيرانها معروف، ولا ينقطع تسلحه، ولكن مع تجاوز ذلك كله، هل كان الجهد المبذول والنفقات المالية، من أجل بناء جيش وطني يعادل ولو على وجه التقريب ما كان من جهد ونفقات لبناء أجهزة قمعية تعمل داخل البلاد، داخل الوطن، وتستهدف الشعب وتعاقب النزلاء في معتقلات لا تكاد تفرغ إلا وتُملأ من جديد، وتستهدف المتظاهرين في الجامعات والمساجد وراء ما يشبه قضبان السجون ومصفحات الحصار، للحيلولة دونهم ودون التعبير عما يريدون في الشوارع، فإن تجرأ فريق على ذلك يلقى ما يلقاه من اعتداءات وإهانات وانتهاك حريات وحقوق، ولو كان من مستوى القضاة، وهم من يُفترض أن يكونوا السلطة النزيهة العليا أكثر من سواها، ناهيك عما سمي حالة الطوارئ، والوصف يعني مؤقتة، ولكن صارت حالة مزمنة، وناهيك عن محاكم عسكرية وأخرى مبتكرة صارت رمزا للمظالم بأنواعها.

ما الذي ينبغي أن ينتشر في مصر بعد، للقول إن الأوضاع فيها بعد عقود من قيام الانقلاب / الثورة وعسكرة السلطات قد أصبحت أسوأ مما كانت عليه الأوضاع التي أراد الثوار من العسكر تغييرها كما قالوا؟

*   *   *

كم جرى ويجري الحديث عن ثورة يوليو وعن مصر التي كانت وستبقى في صدارة الحديث باعتبارها مفتاحا رئيسيا لأوضاع المنطقة بأسرها، وكلما مس قلم حصيلة الثورة بنقد، وجد من يدافع عن منجزاتها، وما منجزاتها بغائبة عندما يجري الحديث عن الثمن الأمني الداخلي الباهظ أو عن التحول التاريخي الخطير من انقلاب على الاستبداد إلى ترسيخ استبداد أشد وأخطر.

إن ما تحقق على المستوى العربي وعلى مستوى حركة عدم الانحياز دوليا، كان منجزات كبيرة في فترة ما عُرف بالعصر الذهبي للقومية العربية، ولكن مضى ذلك العصر مع حرب النكبة الثانية عام ١٩٦٧م، ومضىت العقود من بعد ذلك، فلا يفيد أوضاع مصر وأوضاع المنطقة ولا يفيد العرب والعروبة أن نشيد أو لا نشيد بما تحقق قديما، ونحن نعايش الآن ما يجري في مصر وأخواتها، وما يتهدد المنطقة العربية والإسلامية بأسرها من أخطار داهمة.

إننا في حاجة إلى ثورة على الاستبداد، وثورة على التبعية الأجنبية، وثورة على التخلف والفساد، وثورة على الظلم والمحسوبية، وثورة على الجهل والفقر، وثورة على كل مظهر من مظاهر استعباد الإنسان، واستعباد الأوطان، ولا نحتاج إلى انقلابات عسكرية، تعود بنا القهقرى، ولا إلى نظام حكم حزبي أو فردي أو عائلي، يتصرف بالبلاد وكأنها عزبة يملكها، وبالثروات وكأنها إرث يخصّه، وبالشعب وكأنه قوافل عبيد وإماء له.

في حاجة إلى ثورة في الفكر السائد على مستوى السلطة والمعارضة، في الأحزاب الكبيرة والصغيرة وخارج نطاقها، في وسائل الإعلام ودور الأدب والثقافة، في المدارس والجامعات والمصانع والمزارع وروابط المجتمع المدني والأهلي، ثورة تصنع الإنسان الذي لا يمارس الاستبداد ولا يسكت عليه، ولا ينتهك الحقوق ولا يخنع لانتهاكها، ولا يُشغل بلقمة الطعام بنشر الفقر رغم الطاقات الذاتية الكبرى، ولا يُشغل بالبطر عن مصير البلاد والقضايا المصيرية على حساب أقوات الشعب وثروات الوطن.

ولئن اتخذ صانع القرار كافة ما يمكن أخذه من احتياطات في نظره، كيلا يطيح به انقلاب تصنعه مجموعة من الضباط فهو من يوجد من خلال ممارساته السياسية إذا صح هذا الوصف، أوضاعا يستحيل أن تفيد معها احتياطات من أي نوع، وهو المسؤول عن جرّ البلاد وأهلها إلى ثورة حقيقية يصنعها الأحرار من مختلف فئات الشعب، ولن يمكن آنذاك ضبط نتائجها الفورية مسبقا، ولكن ستصنع آنذاك التغيير، الذي يطرحه كثيرون شعارا، ويزعمون العمل من أجله، ثم يتحركون في الاتجاه المعاكس جملة وتفصيلا، ولا يأبهون بأنه يمكن أن يفوت الأوان، آجلا أو عاجلا.

وأستودعكم الله وأستودعه مصر وأهلها وسائر شعوبنا وبلادنا ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب