تحليل – الوعي الفكري والسياسي في العمل الأهلي/ المدني
عقدة النقص الذاتية ناجمة عن مواكبة "الهيمنة الحضارية" إما بالرفض المطلق أو الانبهار وضعف الثقة بالنفس
ملاحظة أولى: "عدم التدخل" السياسي في مجرى الأحداث قاعدة ذهبية بالغة الأهمية في أنشطة المجتمع الأهلي/ المدني، وشرط من شروط تحقيق أهدافه الإنسانية.
بالمقابل: غياب الوعي السياسي نقص خطير في تكوين كوادر الناشطين، إذا وقعيشكل خطرا على تحقيق أهدافهم الإنسانية.
ملاحظة ثانية: الاستفادة من التجارب والتقنيات الإدارية وما شابهها في المجتمعات المستقرة التي قطع العمل الأهلي/ المدني فيها أشواطا واسعة،واجب لا شك في أهميته، لا سيما في حقبة تكوين منظمات المجتمع الأهلي/ المدني وإعداد كوادره في بلدان ومناطق حرمت من ذلك زمنا طويلا ويراد أن تقف المجتمعات فيها على أقدامها لتبني مستقبلها بنفسها.
بالمقابل: لا تتحقق الاستفادة على الوجه الأمثل من خلال استنساخ "طبق الأصل" لما حقق نجاحا في أي مجتمع من المجتمعات، دون مراعاة اختلاف المعطيات القيمية والفكرية والاجتماعية والتاريخية في البلدان والمناطق التي يراد تحقيق نجاح مماثل فيها.
. . .
هاتان ملاحظتان يدفع إلى الوقوف عندهما في هذه السطور بعض ما تشهده الساحة السورية في الوقت الحاضر، ولا علاقة لهما بما شاع من مقولات وممارسات تعمّم صفة العداء على كل أجنبي، أو على جميع ما ينتسب إلى بلد أجنبي يمارس نظامه أعمالا عدائية، كذلك لا ينبغي أن يستخلص أحد من الملاحظتين السابقتين تأييد الدعوات إلى رفض مطلق لكل ما هو أجنبي، على صعيد المنظومة القيمية والفنون الإدارية والعلاقات الإنسانية والاجتماعية، ولكن لا بأس في التأكيد أنهما تنطويان بالمقابل على التحذير:
(١) من الاستغراق في الانبهار بما "ننقل" إلى درجة اعتبار "النقل" أعظم شأنا من إبداع المبدعين في قرانا ومدننا وأرياف بلادنا وتحت خيام التشريد..
(٢) من الوهم أن ما وصل إليه بعض أفرادنا من معرفة مكتسبة هو "نهاية المطاف" ويبيح "الاستعلاء" على أهلنا الذين نريد أن يحقق النقل "لهم وبهم" الفائدة المرجوة..
(٣) من التهاون بشأن أسس قيمية ومعرفية ذاتية نحتاج إليها بقدر حاجتنا إلى حصانة ومناعة دون التأثر سلبيا بالإنجازات الحديثة في عالمنا بدلا من استيعابها والبناء عليها.
في المجتمعات التي سبقت بلادنا بمراحل واسعة على صعيد أنشطة العمل الأهلي / المدني، توافرت أسس معرفية وقيمية ذاتية قبل أن ينشأ العمل الأهلي/ المدني، بمنظماته الصغيرة والكبيرة، ومنها المنظمات الكبرى الحالية، كمنظمة العفو الدولية ومنظمة الشفافية ومنظمة أطباء بلا حدود ومحررين بلا حدود وسوى ذلك من منظمات إغاثية وخيرية ومنظمات للدفاع عن حقوق المرأة والطفل وهكذا..
إذا أردنا أن تنشأ في بلادنا منظمات "مشابهة" فلن يتحقق ذلك بمجرد التقليد أو الاستنساخ لما يوجد الآن من بنية هيكلية إدارية أوعناصر أخرى جعلتها راسخة الأقدام في بلدانها، وخارج حدود تلك البلدان.
لكل من هذه المنظمات قصة طويلة نسبيا، وبدأ غالبها بجهود فردية، ولكن تشترك جميعا في أنها من رحم تطور تاريخي سابق في الحياة الفكرية والأدبية والعلمية والثقافية والسياسية، كان من مفاصله الكبرى في الغرب عصر الفلسفة الإنسانية ثم فلسفة التنوير، فآنذاك تكونت الحاضنة الفكرية فالسياسية التي تترك بطبيعة الحال بصماتها المعرفية والسلوكية على من سلك طريق العمل الأهلي/ المدني، ابتداءبصياغة أهدافه، مرورا بتكوين كوادره وفروعه، انتهاء بمناهج أنشطته ومعاييرها.
الحاضنة الفكرية والسياسية الأولى هي التي كونت الوعي الفكري والسياسي للإنسان الفرد، فكونت بذلك نوعية "العلاقات الاجتماعية" من بعد،وكان ميلاد تلك الحاضنة في فترةتميزت بسواد الظلام والتخلف حضاريا، فنهل المبدعون فيها -كما نصنع الآن- من عطاءات عصرهمالحضارية "الأجنبية"، أي مما توافر في الدائرة الحضارية الإسلامية المجاورة، وقد "صهرواما نقلوه" في بوتقة إرثهم المعرفي الذاتي، برجوعهم إلى ما استوطن من قبل في بلدانهم في عصور الإغريق والرومان، قبل العصور المظلمة تحت سيادة الكنيسة والإقطاع.
نحن الآن في حقبة مشابهة لحقبة الولادة الأولى للحاضنة الفكرية والسياسية التنويرية التي ترعرع العمل الأهلي/ المدني الغربي لاحقا فيها، ثم انتشر عالميا.
ولهذا نحتاج إلى "أسلوب مشابه" في عملية النقل الجارية، فمع نقل عصارة التجارب الاجتماعية وإنجازات التقنيات الإدارية الحديثة، ينبغي بذل "جهود تنويرية" ذاتية كافية، اعتمادا على الإرث المعرفي التاريخي الذاتي لدينا، ليتحقق الانسجام القيمي والإنساني والفكري وكذلك السياسي، ويصهر ما يتحقق من إنجازات، في عناصر تكوين الإنسان الفرد في بلادنا وجذوره الحضارية في مجتمعاتنا.
. . .
العمل الأهلي/ المدني الناشئ لدينا يشهد -كسواه- سلبيات وإيجابيات، من السلبيات ما يردده بعضنا:
إن المهارات الفنية الإدارية والتوجهات العامة في العمل الأهلي/ المدني تحمل صبغة "عالمية.. إنسانية" أو "صبغة علمية منهجية" فلا ضرر أو خطر في الأخذ بها كما هي. هذا صحيح.. جزئيا فقط، فعلى النقيض من "صناعة الآلات" ترتبط صفة "العالمية والإنسانية والمنهجية" في "صناعة الإنسان" بتجسيد الوعاء الحضاري السائد في مرحلة تاريخية بعينها وجذور نشأته المعرفية والقيمية الذاتية.
يضاف إلى ذلك أن مسار "التطور" البشري اعتمد دوما -ولا يزال- على "إضافة الجديد" ذاتيا وليس على نقل "إنجاز سبق" فلا يتحقق تطور حقيقي إذا اعتبرنا ما بين أيدينا عالميا هو نهاية المطاف، وكانت الإضافةدوما وليدة المنعطفات الحضارية، كالمنعطف الحضاري الذي نعايشه حاليا.
إن عقدة النقص الذاتية ناجمة عن مواكبة "الهيمنة الحضارية" إما بالرفض المطلق أو الانبهار وضعف الثقة بالنفس.
بالمقابل: يتجسد التحدي الحضاري بين أيدينا فيأن يتمكن "الإنسان" الذي نشأ في بيئة متخلفة من إبداع الجديد وإضافته إلى ما أبدعه السابقون لعصره أو المعاصرون له.
ولنذكر أن شبيه ذلك هو الذي مكّن التنويريين في فترة الظلمات في أوروبا من إنجاز ما أنجزوه وإضافة ما أضافوه في مسيرة الحضارة البشرية.
. . .
الوعي الفكري المطلوب عامل بالغ الأهمية في تكوين كوادر العمل الأهلي المدني في الساحة التي صنعتها الثورة الشعبية في سورية -وأخواتها-ابتداءبتكوين من يتولى تأسيس هذه العمل ونشره بمختلف فروعه.
كذلك الوعي السياسي بحقيقة الحدث الذي نعاصره وحجمه، ورؤية ما فيه من بذور تغيير حضاري جذري، وإدراك أنه أكبر بكثير من مجرد تغيير أنظمة ومناهج سياسية.. جميع ذلك هو الوعاء الذي نحتاج إليه في كل عمل حاليا، ويشمل أنشطة العمل الأهلي/ المدني أيضا، لا سيما في حقبة تأسيسها الأولى، فقيامها على أرض صلبة هو من ضمانات تجنب الانهيار السريع عندما تعصف الرياح المضادة، وقد انطلقت بالفعل على أشدها في وجه عملية التغيير الجارية.
نبيل شبيب