تحليل – الكلام في نكبة ١٩٦٧م

لن يتحوّل المشروع الصهيوأمريكي إلى مشروع سلام وبناء وتعاون، فلا يمكن مواجهته بمشروع سلام وتطبيع وتفاهم

40

 

إذا صارح أصحاب الأقلام أنفسهم، فلا بد من الإقرار أنّ الكتابة عن قضية فلسطين، أو محطة من محطاتها مثل نكبة 1967م، تبدو للوهلة الأولى وكأنها استنفدت أغراضها، فكلّ ما يُصبّ على الورق يكرّر مقولة قديمة، أو يبين درسا معروفا، أو يقدّم اقتراحا سبق تقديمه.. إنّ الإشكالية الأكبر من سواها، كامنة في الحاجة إلى شحنة وجدانية عميقة تحوّل الكلمة إلى فعل، بعد أن فقدت قيمتها مذ فقدت استخدامها وصفا لفعل سبقها إلى أرض الواقع.

 

ما بعد النكبة

ما نزال ندور بالكلام وندور حول أسباب النكبة، بعد عقود من وقوعها ووقوع سواها، وقد نتجاوز ذلك إلى تعداد ما تلاها من نكبات، أمّا الحديث عمّا ينبغي صنعه للخروج من حقبة النكبات، فسرعان ما يفرّقنا إلى ألف رأي وطريق ومنهج ، فنعود إلى المربّع الأول الذي صنع نكبة النكبات قبل عشرات السنين.

لا يجهل الجيل الذي عاصر النكبة ولا يجهل جيل الشبيبة ممّن يتجاوز مناهج التاريخ المدرسية الرسمية الضيقة الأفق، ويعتمد على ذاته للنظر في حقائق تاريخنا الحديث ووقائعه، أنّ العلامة الفارقة لحقبة نكبة 1967م كانت تكمن في الدرجة الأولى في التمزّق بين التيارات، التي عُرفت وفق لغة عصرها بتيارات التقدميين والرجعيين، أو الاشتراكيين والملكيين، أو حلفاء (قل: أتباع) الشرق الشيوعي وحلفاء (قل: أتباع) الغرب الرأسمالي، ممّن طغا عليهم جميعا صراع المحاور على أوطان ممزّقة في خارطة "سايكس بيكو"، فكانوا أبعد ما يكونون عن إيجاد شروط منهجية موضوعية لتحقيق أيّ إنجاز حقيقي في قضية فلسطين -وسواها- وإن كانت كلمة فلسطين تتردّد على ألسنة الجميع، فكلّ يدّعي وصلا بليلى، وليلى تستغيث من فتك الصهاينة المغتصبين بها.

 

نعلم أنّ سياسات المحاور كانت أحد الأسباب الحاسمة لوقوع النكبة، ولم نخرج منها بل ازدادت التفرقة وبلغت الممارسات "القطرية" أقصى مداها تشرذما، ثمّ ها نحن نشهد في ظلّ النكبات التالية في عموم بلادنا إضافة زرع الفتن إليها وتصلّب سياسات المحاور ونزاعاتها.

نعلم أنّ السياسات العسكرية الارتجالية وادّعاءات القدرة على صنع الانتصارات دون تعبئة حقيقية، كانت في مقدّمة أسباب مسخ تلك "الانتصارات" إلى جريمة "الحفاظ على السلطة رغم الهزيمة"، ومضى الزمن فما ورث الجيل التالي من المسؤولين شيئا عن أسلافهم قدر إرثهم السياسات الارتجالية وتقديس هدف الحفاظ على السلطة بأي ثمن، ولم يسلكوا سبيل إعداد على صعيد صناعة عسكرية، أو التخلّص من "خبراء" أجانب، أو التخلّي عن قواعد أجنبية ومناورات مشتركة مع دول أشدّ عداء من سواها لقضية فلسطين وسائر قضايانا، ناهيك عن الخروج من قفص التبعية الأجنبية القاتل في مختلف الميادين الأخرى، بل أصبح التعاون المباشر مع عدوّ يمارس عدوانه ضدّ شقيق بعد شقيق هو النهج المتبع في الأعمّ الأغلب، علنا.. بعد أن كان أسلافهم يخجلون فيتبرؤون من مثل ذلك وإن صنعوه، ويصمونه بأنه خيانة عظمى.

(أضف إلى ما سبق في هذه الأثناء من جعلوا أنفسهم أدوات للتحرك الدولي المضاد لتحرر إرادة الشعوب عبر ثوراتها)

 

المخرج معروف

لا تكمن مشكلتنا إذن في نقص الكتابات المنهجية عن قضية فلسطين.. فكم طبعت كتب، ووضعت دراسات، ونشرت مقالات، لاستخلاص الدروس والعبر، وتعداد أسباب الهزائم عسكريا، فتناولت ميادين القصور في بحث علمي وتربية واعية، وفي إنتاج صناعي وزراعة متقدمة، وفي حكم قويم وحريات وحقوق، وفي غير ذلك ممّا كنّا -وما زلنا- نشكو من افتقاده بسبب استبداد فردي أو عسكري أو حزبي أو عائلي، مع كل ما ارتبط بذلك من فساد وعجز وتخلّف وضياع.

كم وكم قلنا وكتبنا ثم مضينا على طريق النكبات دون أن تؤدّي الدروس والعبر إلى تغيير، في أيّ ميدان من الميادين، إلاّ من سيّئ إلى أسوأ، ثمّ إذا شذّ عن ذلك الطريق الخطير فريق، وسجّل عبر الطاقات المحدودة للمقاومة نصرا ما، مهما كان محدودا، تلاقى مَن زعموا العجز عن بذل جهود فاعلة من أجل الإعداد والبناء والتعبئة، فأقدموا على بذل جهود ضخمة.. ولكن لتوجيه سهامهم إلى ذلك الفريق المقاوِم ، والتخلّص منه، وإطفاء الشمعة التي يوقدها، كأنّهم يخشون أن تنكشف عوراتهم.. أو يحسبونها لم تنكشف بعد.

 

لقد كشفت المقاومة أنّنا نواجه في قضية فلسطين عدوّا ضعيفا يحمل بذور انهياره منذ نشأته الأولى، ولكن تعمل أنظمة التسلط على بلادنا ويعمل بعض أحزابنا وتياراتنا على بقائه والحيلولة دون انهياره، ونشارك عبر إقناع أنفسنا باستحالة مواجهته، مصدّقين مقولات أطلقها العدوّ فعشنا نلوكها دون تفكير، تحت عنوان تفوّق عسكري، أو علمي وتقني، أو ارتباط بقوى دولية عاتية، بل مضى بعضنا إلى القول إنّ الجز يكمن في تفوّق "الإنسان" العدوّ على الإنسان العربي.. أو المسلم، فليس في عناصر الوراثة في تكويننا ما خلّفه أينشتاين وفرويد وأقرانهما!

إنّها أفحش صور التيئيس وأكذبها وأخطرها من قبل نكبة 1967م وبعدها، فهي لا تستهدف الحيلولة دون العمل الآن لتحقيق  نصر ممكن في يوم من الأيام فحسب، بل والحيلولة أيضا دون مجرّد التفكير فيه، ناهيك عن المحاولة الجادة والتخطيط المستقبلي.. ومن يصنع ذلك بات متّهما فالحماسة والعاطفة موؤودتان بفضل اتهامات تقليدية جاهزة، مثل العقيدة والكرامة اللتين وأدتهما مقولات مضلّلة من قبيل "انتهى عصر الإيديولوجيات".

 

إذا أردنا الحديث عن مخرج من منحدر النكبات في قضية فلسطين، فلا يمكن أن يكون حديثا جادّا إلا إذا كان عن أوضاعنا، وأوضاع شعوبنا والأنظمة المتسلطة عليها، وعن المناهج المتبعة على السبل المتشعّبة، والأنانيات المسيطرة على أساليب تفكير متحجرة.

لن يتحوّل المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوأمريكي في أرضنا مهما صنعنا من مشروع عدوان وهيمنة إلى مشروع سلام وبناء وتعاون، فلا يمكن الحديث الجادّ عن مواجهته بمشروع سلام وتطبيع وتفاهم، سواء حمل عنوان "خيار استراتيجي أوحد" أو "مبادرة عربية جديدة" أو "مشاريع شرق أوسطية" ملغومة.

لن يتحوّل الكيان الإسرائيلي إلى دولة مجرّدة من السلاح، ولن يتخلّى أبدا عن الإعداد للحروب، فلا يمكن الحديث الجادّ عن التعامل به دون إعداد عسكري حتى بمنطق من يريدون تسوية سلمية وتطبيعا وما إلى ذلك ممّا جعلوه من خلال تكرار الحديث عنه وكأنه من الأمور "البدهية الاعتيادية".. تضليلا وغسيلا للأدمغة.

وإذا صحّ وجود تفوّق علمي فلن يتقلّص دون حكومات تتخلّى عن العصبيات الحزبية والعشائرية والمحسوبيات وميزان الولاءات الشخصية لصالح منهج علمي وتطوّر تقني ومخطط موضوعي.

ولا يتحقق إنجاز صناعي ولا زراعي ولا اجتماعي ولا حتى فني ورياضي دون سلوك السبل القويمة للإنجاز، كما عرفتها البشرية ونعرفها، وكما يسير فريق من أدمغتنا المهجّرة عليها فيبدع في مساراته.

ومن المستحيل أن يتحقق شيء من ذلك وسواه على طريق التقدّم والإعداد والبناء، إلا إذا أكمل بعضه بعضا، فلا ينفصل ميدان حرية الإنسان وكرامته عن ميدان تعليمه وعطائه ولا ينفصل ميدان إنتاج اقتصادي عن ميدان استقرار حقيقي سياسي.

 

الكلام عن مخرج من حقبة النكبات كلام مكرور، لا يمكن أن يأتي قلم فيه بجديد، فما ينقصنا ليس الكلام عن المخرج بل التحرّك على الطريق، ولا الكلام عن تغيير بل ممارسة التغيير، ولا الكلام عن أمل بالنصر بل إيجاد أسبابه، ومن أراد الخروج من حقبة النكبات حقا، فلا يضيفنّ إليها المزيد من خلال الكلام وحده ما دام قادرا على بذل الجهد حيثما استطاع، وحيثما يملك القدرة على التحرّك والعطاء، فذاك وحده هو المعيار لمصداقية الكلام، وهو وحده ما قد يفيد صاحبه يوم يأتي بين يدي الديان فردا.

نبيل شبيب