تحليل – الثورات وقضية الإنسان
مسؤولية ثورة البناء، بناء الإنسان والعلاقات الإنسانية جنبا إلى جنب مع تشغيل مراكز العلم ومصانع الإنتاج
في كل عصر فرعون وقوارينه، أو نمرود وأعوانه، منذ خلق الله تعالى إبليس مثلما خلق آدم وحواء عليهما السلام، وخلق الموت والحياة والخير والشر في دنيا الابتلاء حتى يرث جلّ وعلا الأرض وما عليها.
وأثبتت الثورات الشعبية قدرة الإنسان في بلادنا على الخروج من نفق القهر عبر عشرات السنين الماضية، ليستعيد العدالة بعد اعتقالها، والحريات بعد مصادرتها، والحقوق بعد انتهاكها، والكرامة بعد إهانتها.
ولكن يوجد أيضا من ينتمي إلى الشعوب الثائرة نسبا، ولا يريد لنفسه وسواه عدالةً ولا حرية ولا حقوقا ولا كرامة، فكأنه دون مستوى الإنسان بنفسيته وأحاسيسه وسلوكه.
لا يستهان بوجود فريق لا تتفجّر طاقاته في ثورة كريمة، ولكن في أعمال مضادة، كلّما أصبحت العبودية التي اعتاد عليها في خطر، ومن هذا الفريق:
"صاحب مصلحة" لا يريد أن يخسرها وإن تلوّثت بدماء زكية طاهرة..
"صاحب فكر منحرف متحجّر" وإن ظهرت غالبية كبرى تريد فكرا مستقيما متحررا..
"خادم مأجور" على استعداد للقتل والنهب والإجرام وفق إعداده وتدريبه..
"مجرم بطبعه" يرفض أيّ بيئة مستقيمة مستقرة قائمة على العدل..
ليس هؤلاء وأمثالهم مناط الحديث، وهم جزء من تركيبة الطاغوت وملئه، إنما المقصود صنف آخر يثير الأسى والإشفاق، ولا يغيب الأمل في أن يخرج من قفص غسيل الدماغ الجماعي على امتداد أكثر من جيلين، إذ لم تصل إليه نسائم التحرر عبر الثورة، ويكاد يتيه حاليا مع استئناف العمل للعودة إلى ما قبل الثورات، من خلال الجهود المضادة محليا وإقليميا ودوليا.
. . .
هو لا يستطيع أن يبصر الدماء الطاهرة والآلام والمظالم، ليستوعب وجود من يضحّي بنفسه من أجل بلده وأهله وأولاده وأحفاده، ولا يملك -بحكم ما صُنع بأهلنا عبر عقود متتالية- أن يتخلّص من الغوغائية في الخطاب.
لندع جانبا أتباع الأنظمة الاستبدادية الفاسدة، فهم جزء منها، يكذبون ويعلمون أنهم يكذبون، ويشتمون ويعلمون أنهم يشتمون، وينكرون ويعلمون أنهم ينكرون.. وينشطون على هذا المنوال في مواجهة كل نسمة من نسمات الحرية، لتحقيق ما يطلبه الثائرون.
ولكن يوجد أيضا من يكذب ويشتم وينكر.. ولا يعي ما يصنع، وهنا يحتاج مسار الثورات إلى جهود مخلصة كبيرة، ليصل إلى أعماق النفوس وواقع السلوك بما تطرحه الثورات وتعنيه من العدل والحرية والكرامة والحقوق، واستيعاب الطريق إليها، ورؤية ما تصنعه لهم هم أنفسهم ولأهليهم وبلادهم.. ولذرياتهم من بعدهم.
. . .
إذا صدقنا مع أنفسنا وجب أن نقول، لقد مّر بنا -أو بمعظمنا- مثل هذا الوضع لفترة قصيرة أو طويلة في أعماق أنفسنا وواقع سلوكنا في حياتنا، فأين من ولد "ثائرا" على الظلم والفساد منذ نعومة أظفاره أو منذ أبصر واستوعب ما حوله، وما أكثر من تعايش مع الظلم والفساد، وكأنهما "قدر" لا ينبغي تغييره أو لا يمكن تغييره.
لقد أنعم الله على بعضنا بالخروج من هذه الحلقة الشيطانية المفرغة، فلا يلومنّ من لا يزال على الطريق للخروج منها بفضل من الله.
الثورة على الظلم والفساد، لا تنحصر فيمن يخوض غمارها بنفسه أو يدعمها قدر استطاعته، فهي ثورة أجيال، تعود ثمارها على من لم يشارك فيها أيضا، وإن بقي لفترة من الزمن ضحية غسيل الدماغ الجماعي المرفقة بصناعة "فكر وشعور وسلوك ورؤى" غير جديرة بالإنسان الذي كرّمه الله تعالى.
. . .
نقول ثورة.. ويغلب على تصوراتنا مشهد الصدور العارية في مواجهة الإجرام سلما، أو مشهد قوة مسلحة محدودة كما ونوعا في مواجهة قوة متفوقة عددا وعدّة.
نقول ثورة.. ويجب أن نضع في حسابنا وجوب تغلغلها في كل ميدان من ميادين صناعة الإنسان مجددا، أو بتعبير أصح: تحرير الإنسان الكريم من آليات صناعة "كائن" يخضع للاستبداد والفساد بل يصل إلى درجة العمل دون وعي لإنقاذ الاستبداد والثورة من السقوط.
هي ثورة في ميادين الفكر والتربية، والتعليم والإعلام، والأدب والفن، والتخصص والكفاءة، ناهيك عن ميادين العقيدة والمعاملة، والقيم والأخلاق.
إنّ الجيل الذي يصنع الثورة يحمل على كاهليه ما لا يستطيع البشر حمله في الأحوال الاعتيادية، ويواجه أيضا مسؤولية أعباء أكبر وأضخم من ذلك في ثورة البناء، بناء الإنسان والعلاقات الإنسانية جنبا إلى جنب مع إعادة العمران وزراعة الحقول وتشغيل مراكز العلم ومصانع الإنتاج.
لن تكون الثورات "مستدامة"، بمعنى امتداد آثارها عبر العقود والقرون القادمة، للأحفاد، إلا إذا واصلت مساراتها على أرض الواقع وليس في الشعارات فقط، لتكون ثورة احتضان الإنسان، كل إنسان، في مجتمعه ووطنه وبين أهله.. وهذا هدف جليل لا يجوز الامتناع عن الإعداد للنهوض به، منذ الآن، من جانب كل قادر على ذلك، دون أن يكون عمله على حساب مسار الثورات نفسها.
لا يفيد أن نتجاوز ترسيخ الأساس من أجل المستقبل، إنما لا ينبغي أيضا الغفلة عن متطلبات المستقبل.. أثناء ترسيخ الأساس، فهو مطلوب من أجله، وليس بسبب ماضٍ مضى فحسب.
والله ولي التوفيق
نبيل شبيب