تحليل – التعصب يغتال الثورة

الثورة تملك الجميع، فمن يتجاوز تعصبا مقتضيات التخصص والتكامل في مسارها يوجه لها ضربات فتنة تعصبه المقيت وأنانيته

60

سؤال: كيف نتحدث هكذا عن "التخصص والتكامل، وقد أدمت أبصارنا وقطّعت قلوبنا مشاهد أهلينا في حلب وما حولها وفي أخواتها؟

جواب: وكيف يخوّل بعض من حملوا مسؤولية المواجهة في حلب وأخواتها أن يخوضوا وسط هذه المشاهد في خلافاتهم حول مسار هذه المعركة وتلك، وحول هذه الفتوى المزعومة وتلك، وحول عقائد هذه الفئات وتلك؟

أو ليست هذه الوقائع في صميم ما يسبب الفرقة الانتحارية بدلا من المواجهة الجماعية للخطر الداهم؟

إن جوهر المشكلة يكمن في أخطر ما خلفته حقبة الاستبداد وريث الاستعمار، على الأمة بمختلف مكوناتها، أقواما وشعوبا وقبائل وألسنة وألوانا: فتنة التعصب التي حذر منها ومن أنها "نتنة" الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، عليه أفضل الصلاة والتسليم.. إنه ذلك التعصب الأناني للذات الفردية، ولو حملت قناع "راية جماعة"، والتعصب لرؤاها وأفعالها.

 

فتنة التعصب من أخطر "النوازل"

إن فتنة التعصب في سورية وثورة شعب سورية -وهما مثال على سواهما- أصبحت من أسباب نشأة الثغرات أمام أجناد الباطل.. بعد أن أصبحت حاجزا منيعا دون توحيد فصائل الثوار، ومتاهة متشعبة بين أطروحات متناقضة لتطبيقها في "بقع جغرافية ممزّقة مدمّرة دامية.. محرّرة!". هذا -يا قوم- مستحيل واقعا، محذور شرعا وفكرا، إنما يكون التطبيق المشترك، بتوافق مشترك، بعد سلوك طريق مشترك، لتحقيق أول هدف مشترك: إسقاط بقايا النظام ورد الاحتلال الأجنبي والهيمنة الخارجية، ولا يمكن تحقيق هذا الهدف عبر النزاع على من يرفع مشعله ويتجاهل مشعل سواه.

ولا يقولنّ قائل.. المشكلة في غياب القيادات!

إن فتنة التعصب هي التي تمنع "ظهور القيادة الجماعية" إذ تجعل "القائد الملهم المزعوم" لفريق متعصب، يصنع حوله دائرة استشارية لا تشير إلا بما يراه مسبقا، ويشكل دائرة إعلامية لا تنشر إلا ما يتوافق مع رؤيته سلفا، ويعيّن دائرة "قضائية" تنظر في كل قضية خبط عشواء.. وتتعامى عن أخطائه وأخطاء أصفيائه، وكأنهم ليسوا بشرا يخطئون ويصيبون، ويتوّج جميع ذلك ومزيدا عليه بدائرة يسميها "شرعية" تطرح ما تعنونه بفتوى أو موقف أو اجتهاد أو حكم أو سوى ذلك من مسميات "شرعية" دون انضباط شرعي محكم، حتى أصبح أهم "ضوابط عملها" هو البقاء داخل نطاق قفص التعصب وتمكينه بدعوى العمل لتمكين "الأمة"!

ولا يقولنّ قائل.. المشكلة في قنوات التمويل!

إن فتنة التعصب هي التي تعتمد عليها شروط الممولين وإملاءاتهم من خارج سورية، فكل شرط من الشروط يجد "ركيزة" يعتمد عليها أصحاب الأهداف الخارجية، للتنفيذ إما نتيجة توافق الأهواء مع الأهواء ابتداءً، أو لوجود المستعدّين للانصياع مع تعصب مقيت تجاه إخوانهم في ميدان العطاء الثوري.

إن فتنة التعصب لا تأتي بنصر ضدّ عدو فاجر يتحالف مع القريب والبعيد، ويقاتل ليفنى الجميع، بمن فيهم الفريق المتعصب لذاته وما يراه، المصرّ على تعصبه ولو أدّى إلى تضييع أخيه الآن تحت راية أخرى، ثم تضييع نفسه غدا وتضييع من يسير خلفه وخلف رايته.

 

لا نصر ولا تمكين دون التخصص والتكامل

ليس النصر والتمكين بسقوط استبداد محلي ليقوم آخر براية أخرى.. وليس بسقوط مرتكزات هيمنة أجنبية لتقوم أخرى بألوان أخرى.. وليس بانتصار فصيل وهلاك فصيل واستشهاد ما لا يحصى من أهلهم وشعبهم.. إنّما هو انتصار الجميع عبر سقوط الاستبداد القديم وفساده وكذلك عبر انتزاع جذوره، وانتزاع "إرث ممارساته" لدى كثير من العقول وعبر كثير من الممارسات تحت مختلف الرايات..

النصر هو التمكين للشعب وإرادة الشعب وسيادة الشعب من فوق كل فصيل وفريق واتجاه.. ولا يتحقق هذا النصر غدا إلا على طريق تمكين المتخصصين الأكفاء الآن في مواقع تخصصهم وتكاملهم مع بعضهم..

إن الموقف الشرعي هو اختصاص العلماء النزيهين، والتخطيط الاستراتيجي والمرحلي اختصاص الباحثين الدارسين، والإعلام اختصاص الإعلاميين الأحرار المستقلين، والقتال اختصاص المقاتلين المخلصين الحرفيين، والقيادة اختصاص من يكسب ثقة هؤلاء جميعا، ويضمن لهم مؤسسات تقوم على عطاءاتهم وتأخذ بها دون إملاءات فوقية.. والقيادة المشروعة هي التي تخدم هؤلاء جميعا بدلا من أن تستخدمهم.. كما يفعل المستبدون.

ولا يقولن قائل إن علماء سورية المعتبرين يخطئون ويصيبون.. فهذه كلمة حق تتحول إلى باطل عندما تخدم الباطل، وإن أولئك الأدنى درجة من العلماء -وبعضهم أشباه العلماء- يخطئون ويصيبون وتبلغ احتمالات الخطأ لديهم أضعافا مضاعفة..

ولا يقولن قائل إن الدارسين والباحثين منظرون عن بعد من خارج الميدان.. فليس مكانهم في الميدان أصلا، وإن قيمة دراساتهم وبحوثهم ترقى بتقديم أهل الميدان لهم ما يكفي من معلومات موثوقة وإمكانات تواصل حرة مضمونة فضلا عن التعامل مع ما يقدمون من عطاء ووضعه في ميزان التجربة العملية التطبيقية..

ولا يقولن قائل إن الإعلام الحر مرفوض، وإن المقيد بما تمليه القيادات هو المطلوب.. فهذا ما صنعه ويصنعه الاستبداد وصنعته وتصنعه الهيمنة الأجنبية، ومن يحذو حذوهما لا يمكن أن يحقق النصر..

ولا يقولنّ قائل إن المقاتلين أسياد أنفسهم وفصائلهم وأسياد قراراتهم الميدانية.. فما عزل خالداً قائد فصيل أو قائد جيش بل من كان موقعه خارج الميدان، وهو المتخصص في قيادة الأمة، بمن فيها من عسكريين ومدنيين، كذلك كان دور حسان بن ثابت متميزا بشعره، وذاك شأن سواه كمن نال دعوة التفقه في الدين، ومن تعلم لغة العدو، ومن صار كاتبا حافظا لمنطوق الحديث النبوي، ناهيك عن أهل التجارة والحرف وصاحب اليد التي "يحبها الله ورسوله".. ولا تفاضل في شيء من ذلك، بل هو ميزان التقوى، تقوى كل فرد في ممارسة اختصاصه.. رضي الله تعالى عن أولئك الصحابة وأرضاهم أجمعين.

 

إلى حملة رايات إسلامية في الثورة

لا يوجد في ساحة الثورة فريق.. أي فريق، ولا فصيل.. أي فصيل، يملك بمفرده أمر الثورة ومسارها، نتيجة تخصصه في الجهاد وساحاته، أو الفقه الشرعي وفتاواه، أو التخطيط والإدارة وفنونهما، أو قرارات التعاون مع هذا الطرف أو ذاك من الأطراف الإقليمية والدولية.. إنما الثورة تملك الجميع، فمن يتجاوز تعصبا مقتضيات التخصص والتكامل وهي من شروط النصر في الثورة، يوجه ضربات فتنة تعصبه المقيت وأنانيته الفردية للثورة ومستقبلها وشعبها، سيان ما هو موقعه، وما هي الراية التي ينسب نفسه إليها، والتعليل الذي يسوقه خارج مجال علمه وتخصصه.

يقول بعض من يحمل رايات إسلامية من أهلنا إنهم يصنعون ما يصنعون باسم "فقه النوازل".. وكأن هذا الفقه لا يفرض علينا أن ندفع عنا "أخطر النوازل والمفاسد" بما سواها، وإن أخطرها هو ما نزل وينزل من ألوان التقتيل والعذاب فوق رؤوس أهلنا في جميع أنحاء بلادنا، وهذا ما لا يمكن دفعه إلا بوحدة الكلمة، ولا تتحقق عندما يكون لكل فصيل أو فريق كلمته "العليا" تجاه سواه، فتلك هي فتنة التعصب وقد أصبح من أركان أخطر النوازل، لا سيما أننا جميعا ندرك أن ثورة التغيير التاريخية في سورية تعبر منعطفاً من أخطر ما عرفته من منعطفات عبر السنوات الماضية، فإما أن "تستقيم" الرايات المتفرقة والقيادات المتعصبة، على قواسم مشتركة، توحد الكلمة لتضع حدا لهذه الفتنة الكبرى، أو أن يأتي الله تعالى بقوم آخرين ينصرهم "رب الناس" لينتصر بهم جنس الإنسان عبر انتصار الإسلام.

والأمر كله لله من قبل ومن بعد.

نبيل شبيب