تحليل – التعامل مع السياسة الأمريكية
المنطقة الوحيدة على الخارطة العالمية، التي لم تتجاوز مرحلة الانضواء الطوعي تحت جناح الهيمنة الأمريكية، هي المنطقة العربية
ممّا يثير الذهول رصد كيفية تعامل المسؤولين في البلدان العربية والإسلامية مع السياسة الأمريكية، لا سيما عند مقارنته مع تعامل المسؤولين من بلدان أخرى معها. وكانت فترة الانتخابات الرئاسية الأمريكية على الدوام فترة “مثيرة” لمن يريد رصد نوبات متتابعة من التفاؤل وأخرى من التشاؤم.. تليها فترة أربع سنوات من محاولات التضليل والتبرير مع كل تصعيد جديد للعدوانيّة الأمريكية، والتي وصلت في هذه الاثناء إلى درجة غير مسبوقة.
خيبة أمل من ينتظر تآكل النفوذ اليهودي / الصهيوني
في المتابعة السياسية والإعلامية العربية لحدث الانتخابات “الأمريكي”، ما يعتبر ذكره من قبيل التكرار المملّ والمؤلم، كالقول إنّ الناخبين الأمريكيين ينتخبون نيابة عن العرب أيضا، وهذا بعد أن جعلت الحكومات العربية جُلّ مفاتيح صناعة القرار المتحكّم بقضايانا وشعوبنا وبلادنا وثرواتنا، في الأيدي الأمريكية، أو كالتساؤل: إنّ الأمريكيين ناضجون ديمقراطيا فمتى تبلغ شعوبنا العربية مستوى من الوعي لتكون “جديرة” بالديمقراطية، وفي ذلك القول جهل مركّب، يدل على عدم المعرفة الموضوعية بواقع الأمريكيين وواقع الجولات الانتخابية المهرجانية لديهم، وكذلك على عدم تقدير مستوى الوعي لدى الشعوب العربية حق قدره. إنّما تصدر مثل هذا الأقوال عمّن يعلم استحالة فوزه هو في انتخابات نزيهة حرة، أو نجاح تيار يمثله في استفتاء يمثل الاختيار الحر للإرادة الشعبية فعلا، فمقياس “الوعي” عنده هو اقتناع الآخرين بما يراه هو، وتأييد ما يريد هو، والتصويت لصالحه هو.. وإلاّ فيمكن أن يشارك هو في تبرير استمرار الحرمان من الحقوق السياسية!
على أن في بعض ما كان من متابعات لحدث الانتخابات الرئاسية الأمريكية ما ركّز على عوامل جديرة بالاهتمام، كالتساؤل عن حقيقة النفوذ اليهودي في حكومة جديدة، أو عن مدى الاستمرارية ما بين حكومتين.
ليس مجهولا أنّ لليهود نفوذا في الغرب عموما وفي الدولة الأمريكية على وجه التخصيص، وليس مجهولا أيضا دور اليهود في وسائل المال والإعلام، وليس مجهولا كذلك أنّ كثيرا ممّا يحصّله اليهود من مواقف غربية منحازة، إنما ينشأ لتلاقي المصالح والأهداف بين الجانبين على قواسم مشتركة عديدة.. جميع ذلك معروف ويتكرّر على أسماعنا باستمرار، ويجب متابعة ما يرتبط بموقع النفوذ اليهودي / الصهيوني في البلدان الغربية، ولكن لا يصحّ في ذلك أسلوب بات واسع الانتشار للأسف، إذ “يحصر” منظورنا إلى السياسة الأمريكية والسياسة الغربية عموما، في نطاق “النفوذ اليهودي”، كما يكاد يحصر تفسير سائر الأحداث والتطوّرات في الغرب، في هذا النطاق أيضا.
هذا ببساطة ما لا يتلاءم مع الواقع القائم، وتعدّد أسباب صناعة القرار، فضلا عن وجود عناصر ذاتية غربية للعداء وأخرى لتفاهم وتعاون محتملين، وذلك بغض النظر عن وجود اليهود في الغرب أصلا، بينما نجد في شدّة المبالغات على هذا الصعيد من جانب محللين وسياسيين في بلادنا العربية، وكأنّ “التهويل” مقصود، حتّى بات يوظّف في حملة التيئيس من تحقيق الأهداف المشروعة.
الاندماج الصهيوأمريكي اندماج عضوي
إن النظرة الموضوعية للبنية السياسية الغربية، بما فيها مركز صناعة القرار الأمريكي، توصل إلى نتائج أخرى، تأخذ مسألة النفوذ اليهودي فيها مكانها الواقعي، ويمكن التعامل معها سلبا وإيجابا، كما يمكن التعامل مع سواها على السواء، وعندها نصل في إطار متابعة السياسة الامريكية، إلى عدد من النقاط المبدئية، توفّر ما يكفي من المؤشرات لترجيح بعضها، وسيبقى بعضها في حدود تكهّنات ينبغي وضعها في الحسبان أيضا.. ومن تلك النقاط الرئيسية:
١- إنّ مداخل النفوذ اليهودي / الصهيوني إلى السياسة الأمريكية متعدّدة، لا تقتصر على “أصوات الناخبين”، ومنها مراكز صنع القرار في الشركات والمصارف المالية، ولهذه نفوذها “اليهودي” المعروف داخل حزب الجمهوريين بنسبة أعلى مقابل نفوذ اليهود عبر “أصوات الناخبين” داخل حزب الديمقراطيين بنسبة أعلى.
٢- ولكنّ لعبة ممارسة التأثير اليهودي / الصهيوني على الحزبين الكبيرين في الانتخابات، فقدت مع الزمن كثيرا من توازنها، إذ يبدو أنّ زعماء الأمريكيين اليهود / الصهيونيين مضوا أحيانا أبعد من المعتاد، وهذا بغض النظر عن الحجم الحقيقي للمشاركة اليهودية / الصهيونية في تلك الخلافات.
٣- على سبيل المثال.. عند انتخاب بوش الابن خاض كثيرون بلا فائدة في حقيقة أنّه تعمّد التركيز على إبراز الرغبة في التعاون مع “الأقليات” وفق الوصف الرسمي بأبعاده القانونية، أي مع السود وذوي الأصل اللاتيني على وجه التخصيص، وكذلك الرغبة في التعاون مع ذوي الأصل العربي وإن لم تكن لهم صفة “الأقلية” قانونيا.. وبالمقابل كان يلفت النظرَ غيابُ وجود من يمثل النفوذ اليهودي بالنسبة العالية المعتادة في المناصب الحسّاسة من الأجهزة الحكومية.. وهذا ما نشر التكهّنات بأنّ لدى بوش وزعماء الحزب الجمهوري رغبة في إيجاد ما يوازن النفوذ اليهودي “المتورّم” في آلية صناعة القرار السياسي.. فماذا ينبغي الانتباه إليه بعد ظهور حجم الخطأ الكبير في تلك التكهنات؟
٤- الأهمّ من رصد النفوذ اليهودي/ الصهيوني صعودا وهبوطا وتأرجحا، إدراك أن اندماجه في بنية صناعة القرار السياسي الأمريكي اندماج عضوي، وأن معطياته بالنسبة إلى التعامل مع قضايا العرب والمسلمين، معطيات ذاتية متوفرة في الأرضية الأمريكية نفسها، وهذا ما يعطيه القدرة على تحقيق أهدافه، وليس الاعتماد على الإمكانات اليهودية والصهيونية الذاتية فحسب. إنّ الحصيلة العدوانية للقضايا العربية والإسلامية ناجمة عن التلاقي الصهيوأمريكي على أهداف مشتركة في بوتقة نشر الهيمنة عالميا، وليس عن علاقة بين طرفين.. أحدهما يمارس الاستغلال أو الإغراء أو التضليل.. والآخر هو الضحية، وهذا ما ينبغي أن يوضع في الحسبان في التعامل مع السياسة الأمريكية بدلا من انتظارٍ لا طائل تحته، أن يأتي يوما ما، رئيس أمريكي ما، يتمرّد على النفوذ اليهودي / الصهيوني!!
التبعية.. ركيزة الهيمنة
لقد أصبح الغالب على التفاعل السياسي العربي مع كل جولة انتخابات أمريكية، هو ذلك الأسلوب التقليدي العتيق الملوّث، الذي يغلب عليه الانتظار والترقب لرؤية ما يقرره الرئيس الجديد للتكيّف معه.
ومن أسوأ وجوه هذا الأسلوب التبعيّ الكريه، اقتران “التساؤل” عن الدور الأمريكي “المرجو” في المنطقة، بالتساؤل عن “الموقع” الذي سيضع الرئيس الجديد فيه “قضايانا” على جدول أعماله.. وهل سيتفرغ لقضاياه السياسية الداخلية فترة طويلة أم قصيرة، وهل سيميل إلى ما يسمّى العزلة كما يتردّد مع كل رئيس جديد، أم سيتابع أسلافه على طريق الهيمنة، أو العولمة، أو الأمركة، أو سوى ذلك من التسميات لمضمون واحد.
بل يبدو لمتابع الأحداث والمواقف والتطوّرات على الساحة العربية أحيانا، أنّ عجلتها تتوقف أثناء المعركة الانتخابية الأمريكية وتستأنف دورانها بعد أن يقرّ قرار الرئيس الجديد على “نوعية” الاهتمام بالقضايا العربية وحجمه وتوقيته.. حتى إذا مضت فترة الانتخابات، بحث أصحاب عجلات السياسة العربية عن موقع ما لها في مؤخرة ركب عجلة الرئاسة الجديدة.
أليست المعطيات الدولية عالميا، والمعطيات الرسمية العربية والإسلامية إقليميا، هي التي تعطي “الإمكانات الذاتية الأمريكية” القدرة على متابعة طريق الهيمنة.. وهي التي تمثل “الركائز” و”الدعائم” و”القواعد” التي لا تستطيع تلك الهيمنة الانتشار من دونها؟
عالميا بدأت القوى الدولية تتحرّك في اتجاه مضاد.. وهذ التحرّك يتنامى تدريجيا.. أما على المستوى الرسمي، العربي والإسلامي، فخطوات التحرّك في ذيل الهيمنة الأمريكية وبما يعطيها القدرة على الانتشار والرسوخ.. هي التي تتزايد حجما وعددا وتتزايد نوعيتها وخطورتها عاما بعد عام وقضية بعد قضية!
القابعون في قفص الهيمنة
من المعالم الرئيسية ذات العلاقة التي يمكن رصدها على هذا الصعيد:
١- لم تعد أوروبا الغربية الحليف الطيّع للإرادة السياسية والعسكرية الأمريكية، فقد انتقلت بذرة التمرّد من القطاع الاقتصادي والنقدي إلى القطاع السياسي والأمني، وقد يحتاج تطوير المسيرة الأوروبية إلى فترة زمنية أطول مّما يرجوه أنصارها، ولكن تتميّز هذه المسيرة لتحقيق “استقلال اقتصادي ومالي حقيقي” بقيامها على أسس متينة نسبيا.
٢- رغم مظاهر التعاون والتفاهم في ميادين عديدة لم تقبل موسكو بالانضواء تحت المظلة الأمريكية التي تمتد نحوها عبر حلف شمال الأطلسي رغم أنّ السنوات العجاف الأخيرة من حقبة الشيوعية فسنوات الانتقال إلى نظام رأسمالي، قد خلّفت أوضاعا مالية تربط كثيرا من الطاقات الذاتية الروسية بالإرادة أو المشاركة الأمريكية، ويبدو أنّ هذا ما بدأت موسكو تعمل على التخلّص من آثاره كما تشير السياسات الروسية في شرق آسيا وجنوبها، وحتى تجاه أوروبا الغربية.
٣- لم تعد منطقة جنوب وشرق آسيا، بما في ذلك الصين والهند وباكستان من الناحية السياسية والأمنية، بالإضافة إلى ما يسمّى دول النمور من الناحية الاقتصادية والمالية، مجرّد أرقام على مائدة “العولمة” بأشكالها القديمة والحديثة، بل تؤكّد الدراسات المستقبلية ميلان كثير من المعادلات العالمية لصالح تلك المنطقة خلال سنوات معدودة.
٤- لا بدّ من الإقرار -مرة أخرى- بأنّ المنطقة الوحيدة على الخارطة العالمية، التي لم تتجاوز سياسيا مرحلة الانضواء الطوعي تحت جناح الزعامة الانفرادية الأمريكية عالميا، هي المنطقة العربية، وعلى الأقل ما يتبع منها لما يسمى “الشرق الأوسط” وفق المصطلحات السياسية-الجغرافية الأمريكية.
٥- في عام ٢٠٠٠م فقط بدأت في المنطقة العربية ظاهرة قد تتحوّل تدريجيا من “تململ” شعبي تجاه الهيمنة الأمريكية وما تجده من تبعية محلية، إلى “انتفاضة” شعبية، لا يمكن تجاوزها ببعض التصريحات المؤقتة والمؤتمرات الكلامية.. وآنذاك يمكن القول إنّ السياسة الأمريكية لن تتابع الانحياز العدواني المطلق لأنها لا تستطيع ذلك، ولأنّ مراعاة مصالحها ستتطلب منها إعادة النظر، أمّا القول إنّ هذه المصالح ستكون من تلقاء ذاتها عامل تغيير في السياسة الأمريكية، فهذا ضرب من الأوهام، ثبت في الماضي أنه لا يتحقق، ولا يوجد ما يبرّر الاعتقاد بسوى ذلك في المستقبل المنظور، وربّما تسفر الظروف الداخلية الأمريكية إلى تقلّص النفوذ اليهودي في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة العربية، ولكن سيبقى بعد ذلك مفعول “المصالح الذاتية” التي ارتدت لباس الهيمنة، أو أمركة العلاقات الدولية باسم العولمة، ولا سبيل للحدّ من هذا المفعول، سوى أن تتحوّل المصالح الذاتية في المنطقة العربية والإسلامية إلى قوة فاعلة، لا أن يكتفي الممسكون بزمامها بأسلوب الترقب والانتظار فالتكيّف والانهزامية.
نبيل شبيب