تحليل – الاتفاق النووي والربيع العربي
منع المشروع الإيراني النووي العسكري من التنفيذ لن يؤدي إلى وقف تحرك الميليشيات أو تقلص النفوذ
إن أثر الاتفاق الإيراني-الدولي حول الملف النووي، على مسار ما شاع وصفه بالربيع العربي، هو جزء من الإجابة الضرورية على السؤال المحوري بشأن ذلك الاتفاق، وهو:ما الذي سيتقلص من "الخطر الإيراني" الإقليمي وما الذي سيبقى أو يتنامى، عندما يُستكمل اتفاق الإطار المقرر في ٢/ ٤ / ٢٠١٥ في لوزان، باتفاق شامل بعد حوالي ثلاثة شهور؟
قضية الملف النووي الإيراني المطروحة دوليا منذ أكثر من ١٢ سنة، قضية بالغة التعقيد، لا تفيد معها الأحكام التعميمية أو المتسرعة، لا سيما عند الخوض في الجوانب التقنية التفصيلية، إنما العنصر الأهم في السؤال أعلاه هو الجوانب المتعلقة بما شاع وصفه بمشروع الهيمنة الإيراني إقليميا، وكيف سيكون تأثير الاتفاق عليه، وهو موضع الحديث هنا.
أثر الاتفاق إقليميا
من المستفيد إقليميا من الاتفاق؟
إن البلدان التي لا تمتلك سلاحا نوويا، تعتمد -في مواجهة عدو يملكه- على شبكة علاقات سياسية واقتصادية وأمنية تجعل استخدامه ضدها غير مأمون العواقب دوليا، أما البلدان التي تمتلك السلاح النووي فتعتمد غالبا على مفعول "الردع المتبادل" بينها وبين من يصنف عدوا لها.. من مستواها.
إذا لاحظنا أن أي قوة عسكرية نووية "ناشئة محدودة" لا تمثل خطرا فعليا على "القوى النووية الكبرى" القادرة على الردع لأنها قادرة على الردّ بقوة ساحقة، سنجد أن المفعول الحاسم للاتفاق، وهو تقليص احتمال بروز قوة عسكرية نووية إيرانية "إقليميا" يرتبط في الدرجة الأولى بخارطة المعادلات السياسية والعسكرية الإقليمية، وسيصب بالتالي في صالح القوى النوويةالإقليمية، الهندية والباكستانية والإسرائيلية، إذ لن يضاف إليها منافس إقليمي جديد.
هل تستفيد المنطقة العربية من الاتفاق؟
المهم بالمنظور العربي هو انتشار النفوذ الإيراني وتضخم حجم تأثيره المباشر في لبنان وسورية والعراق والبحرين واليمن وغيرها، فضلا عن وجود تأثير له على بعض المنظمات الفلسطينية، وبعض الدول الإفريقية، ناهيك عن تعزيز وجوده العسكري بحريا.
ولكن.. جميع هذه التحركات الإيرانية في المنطقة العربية، سواء المباشرة أو المعتمدة على ميليشيات مسلحة تابعة وقوى سياسية محلية، لم يرتبط بتمرير مشروع تسلح نووي إيراني أو إحباطه.. فلا مجال للتوهم بأن منع هذا المشروع من التنفيذ في السنوات القادمة، سيؤدي إلى وقف تحرك الميليشيات، أو تقلص النفوذ المتنامي اعتمادا عليه، في أي بلد من البلدان العربية ذات العلاقة.
السؤال الأصح هو من يتضرر إقليميا من الاتفاق؟.. ويكمن الجواب في الجانب البالغ الأهمية من الاتفاق، وهو أنه "يحرّر" القوة المالية والاقتصادية الايرانية بعد حقبة الحصار والمقاطعة والعقوبات، وبالتالي ستجد تحركات نشر النفوذ الإيراني إقليميامزيدا من القدرة الإيرانية على تنفيذ ما كانت العقبات التمويلية -وليس غياب تسلح نووي- تحد منه ولو جزئيا حتى الآن.
بل يمكن القول إن "الاتفاق" إذا اكتمل خلال شهور، يأتي في "أنسب" الأوقات على صعيد الوضع المالي الإيراني المتدهور، بعد أن ازداد التذمر الداخلي، كما انتشرت تقارير ودراسات عديدة تؤكد بلوغ الطاقة المالية الذاتية نقطة حرجة مع وصول حجم النفقات في عدة بلدان عربيا أرقاما "أسطورية".
ألا يجدد الاتفاق بذلك القوة المالية الدافعة للمشروع الإيراني الإقليمي تجاه المنطقة العربية؟ ألا يؤكد أن الضرر الأكبر سيكون على حساب الدول العربية وشعوبها؟
من المنظور الإسرائيلي
طغى على الساحة الحديث عن أن الطرف الإسرائيلي متضرر أيضا، ومع التسليم بذلك ينبغي أن نحدد معالم التضرر وحجمه الحقيقي، فالأرجح أن الخلاف الإسرائيلي-الأمريكي على مجرى المفاوضات صادر عن حرص الإسرائيليين على الانفراد إقليميا في الميدان بمشروع هيمنتهم الصهيوني، بينما يرى الأمريكيون أن الإسرائيليين يستفيدون أكثر من سواهم من منع إيران من التسلح النووي، وأن علهم القبول بالثمن، وهو أقرب إلى "تقاسم مناطق النفوذ" مع إيران، أي على غرار ما كان الوضع عليه في عهد "شاه إيران"، وليس مجهولا أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت آنذاك من وراء إنشاء أول مركز في إيران للدراسات حول الطاقة النووية، ولم يسبب ذلك اعتراضا إسرائيليا في حينه، بل مضت فرنسا ثم ألمانيا آنذاك على طريق دعم بناء مفاعلات نووية إيرانية قبل عام ١٩٧٩م ، ولم يكن ذلك يسبب مشكلة ما مع الإسرائيليين.
ولكن في الفترة التالية بعد ١٩٧٩م كانت الساحة خالية من "شرطي إيراني"، سواء في إطار تكامل وتعاون أو تنافس وصراع، ولا يريد الإسرائيليون الرجوع عن ذلك الآن طوعا. لهذا لن تزول نقاط التماس والاحتقان بين الإيرانيين والإسرائيليين في المستقبل المنظور، لا سيما وأن مشروع الهيمنة من الجانبين لا يقتصر على ميدان التسلح النووي، علما بأن التسلح بحد ذاته "أداة" وليس هدفا، إنما تشملأهداف المشروعين ميادين النفوذ السياسي والمالي والاقتصادي، وهنا كان المشروع الصهيوني منفردا نسبيا بعد ١٩٧٩م، والاعتراض الأكبر حاليا هو الاعتراض على تمكين إيران عبر "رفع العقوبات" من قدرة أكبر على التحرك، لا سيما وأن هذه الخطوة بالذات تفتح أبوابا واسعة أمام التعاون المالي والاقتصادي والتجاري وأمام الاستثمارات وربما التعاون التقني على مستويات عالية بين إيران ومعظم الدول الغربية، وليس مجهولا أن هذه الدولكانت تواجه طوال السنوات الماضية ضغوط أصحاب المال والأعمال فيها باتجاه "فتح" الأسواق الإيرانية أمامها.
الجدير بالتنويه هنا أن الخلافات الداخلية الأمريكية حول الاتفاق النووي، مهما بدت كبيرة، فقد بدأت تتقلص تدريجيا تحت تأثير الموازنة بين المكاسب والخسائر الأمريكية -وليس الإسرائيلية- عند المقارنة بين تعامل واشنطون مع مشروع هيمنة إسرائيلي منفرد إقليميا وبين مشروعين للهيمنة في وقت واحد.
الرياح الإيرانية على الربيع العربي
هل تتعمد السياسات الأمريكية تبديل الخارطة "الاستراتيجية" لتعاملها مع دول المنطقة، في اتجاه ترجيح الهيمنة الإيرانية رغم الأضرار المترتبة على دول عربية معروفة بأنها "حليفة" للأمريكيين إقليميا، لا سيما الدول الخليجية؟
بتعبير آخر: هل تتعمد واشنطون دعم النفوذ الإيراني على حساب "الدول العربية" أم يأتي ذلك نتيجة أخطاء السياسات الأمريكية فحسب؟
منذ اعتمادها على الواقعية النفعية" قبل أكثر من مائة عام لا تقوم السياسة الأمريكيةعلى أي "تحالف أبدي" من جانبها وإن طالبت به الآخرين تجاهها.. ولن تتخلى واشنطون الآن عن السعي للحفاظ على علاقاتها السابقة مع الدول العربية المعنية، جنبا إلى جنب مع تجديد نوعية علاقاتها مع إيران إلى وضع أشبه بما كان في عهد الشاه الإيراني.. ولكن أين كانت النقطة الحاسمة هذا الاتجاه؟
في نطاق التعامل مع المنطقة العربية بمجموعها كان عام اندلاع الثورات العربية عاما حاسما في إحداث تبديل جذري على السياسات الأمريكية عموما، أما بالنسبة إلى الملف النووي الإيراني تخصيصا، فيمكن الرجوع إلى ١٢ سنة مضت، وسنجد أن السنوات التسع الأولى منهاكانت سنوات رفض أمريكي متواصل للطلبات الإيرانية والأوروبية للدخول في مفاوضات مباشرة مع طهران، ولم ينتقل التعامل الدولي مع الملف النووي الإيراني من أسلوب الضغوط، إلى أسلوب "التفاوض المكثف" إلى جانب الضغوط إلا عام ٢٠١٢م، وهذا ما لا يصح فصله عن مفعول الحدث الأبرز في المنطقة، أي حدث الثورات الشعبية العربية وهي في أوج عنفوانها.
لقد كان محور التوقعات الأمريكية والغربية عموما في ذلك العام أن المنطقة مقبلة على تغيير جذري في خارطة القوى السياسية فيها بالمعنى الشامل للكلمة.. وبغض النظر عن المواقف الرسمية المعلنة بشأن تأييد تحرر إرادة الشعوب، ونشوء أنظمة ديمقراطية، وما يتفرع عن ذلك، بدأ منذ ذلك الحين ما أصبح الآن واضحا للعيان من تحركات الأعاصير المضادة للرياح الشعبية الثائرة في الربيع العربي.
أمريكيا لم تبدأ تلك التحركات من نقطة الصفر، فما يوصف بالفوضى الخلاقة، أو الهدامة، مما يسود في المنطقة حاليا، بُذرت بذوره الأولى في فترة التحركات العسكرية الأمريكية في أفغانستان والعراق علاوة على مناطق أخرى كالصومال.. إن جميع ما كان موضع "شكوك" و"اتهامات" و"فكر المؤامرة" بشأن تعزيز السياسات الأمريكية للموقع الإيراني إقليميا، لا سيما في العراق، أصبح الآن واقعا قائما، وقد انطوى في الوقت نفسه على تعزيز الصدامات من منطلق "مذهبي"، شيعي – سني، من ساحاته باكستان وأفغانستان والعراق وحديثا في بعض بلدان الربيع العربي.
هنا لا يفيد الجدل ما إذا كان ذلك نتيجة سياسات أمريكية متعمدة أو خاطئة، فالحصيلة واحدة، والأهم من الجدل هو أن التوصل إلى اتفاق حول الملف النووي الإيراني بأبعاده الإقليمية المشار إليها، يبني -أمريكيا- على نتائج تلك السياسات منذ غزو أفغانستان.
هل يتطلب ذلك ردا عربيا؟
إن ما يطرحه الاتفاق النووي الجديد ذو أبعاد استراتيجية بعيدة المدى، وإذا كان الرد مطلوبا فلا بد أن يحمل رؤية استراتيجية وخطوات عملية جريئة ذات تأثير كبير، ولا يبدو أن في الإمكان ذلك دون التقاء تاريخي لم تشهدة المنطقة منذ زمن طويل، بين الإرادة السياسية الرسمية والإرادة الشعبية الثائرة، والفرصة القائمة لذلك الآن فرصة غير مسبوقة، وهي المغزى الأهم حاليا فيما تعنيه كلمة الربيع العربي.
نبيل شبيب