تحليل – استهداف الثورة السورية عالميا.. لماذا؟

هذه ثورات شعبية للتحرر الإنساني الحضاري من استبداد نظام عالمي يرتكز إلى أنظمة استبداد محلي

62

ــــــــــ

كثيرا ما تساءل السوريون.. وازداد طعم المرارة في تساؤلهم مع انطلاق الغزو الجوي الروسي لبلدهم: علام هذا الاستهداف العالمي للثورة الشعبية في سورية؟
الأجوبة كثيرة، أما العبرة الأهم فتكمن في أن التساؤل يكشف عن خيبة أمل، لأنه كان يوجد لدى المتسائلين أمل، وظهر أنه في غير محله.
هو أمل يعود إلى أن كثيرا منا تأثر بعملية غسيل دماغ جماعي طويلة الأمد، قوامها مقولات تتردد بصيغة “بدهيات ثابتة في الغرب”، عن حرية الشعوب وسيادتها، وعن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وعن نهاية عصر “الامبراطوريات القديمة” وحلول عصر “حكم الشعب نفسه بنفسه”، هذا فضلا عن مواثيق مكتوبة وعن قانون دولي وإنساني، ثم ما انتشر من “مؤتمرات عالمية عملاقة” وأنشطة الرعاية الأممية كرعاية الطفولة والمرأة، وبرامج مكافحة الفقر والأوبئة، ونصرة العمال والضعفاء والأقليات، وغير ذلك مما لا يعد ولا يحصى، وما لم ينقطع الترويج له، والاستهزاء بمن يعتبر شموله لبلادنا مجرد “أوهام وسراب”.

القاسم المشترك الأعظم بين جميع ذلك هو تسويق الواقع الحضاري الحالي أنه يمثل حضارة “إنسانية”. وسبق أن فقد كثير من تلك المقولات بريقه أمام ما صنعته أحداث سابقة، كالغزو السوفييتي الشيوعي ثم الأمريكي الغربي لأفغانستان، أو السقوط الأمريكي حضاريا يوم احتلال بغداد، ناهيك عن سجل المظالم الطويل في قضية فلسطين، إنما الآن، بالذات، مع مضي سنوات عديدة على التعامل العالمي الهمجي مع الثورة الشعبية في سورية، لم يبق مجال للشك:
نعيش منذ زمن تحت تأثير زيف كبير كشفه ما سال من دماء الأحرار وصممُ “الضمير البشري” عن أنين آلام الإنسان، ذكورا وإناثا، واحتراق الأجساد والأكباد.
ولكن هل يصح قولنا بانكشاف الزيف عبر الثورة الشعبية في سورية تحديدا؟ ألم تقع قبلها أحداث مفزعة طالما ذكرت كأمثلة، كمذابح الصرب في البلقان، ومذابح مئات الألوف في رواندا خلال أسابيع، ناهيك عن حصاد الجوع والفقر والمرض من أرواح البشر في القارة الإفريقية، عاما بعد عام؟
من المؤلم أن طرح هذه الأمثلة أصبح يستخدم كشواهد على أن “العالم هكذا.. وعليكم أن تكونوا واقعيين والقبول به كما هو”.. الثورات الشعبية العربية تقول: لن نقبل.

نظام عالمي مسيطر

يوجد فارق جوهري وحاسم يميز هذه الثورات عن تلك الأحداث، ويستدعي بيانَه الاستشهادُ بما يطرحه د. أكرم حجازي مرارا منذ سنوات، حول “طبيعة” النظام العالمي القائم وكيف يتعرض الآن للخطر، ويمكن تبسيط ما يراه بالقول:
ليست “الاتفاقات والمواثيق” المكتوبة هي التي تحدد “طبيعة” النظام العالمي منذ الحرب العالمية الأولى، بل  هو “توافق عام” بين القوى الدولية على معادلة ثابتة تستبقي الكيانات الأصغر تحت السيطرة، أي الهيمنة والنفوذ، سواء ساد التنافس والصراع أو ساد التفاهم والوفاق بين تلك القوى الدولية.

ننطلق من هذا الطرح لتسجيل بعض النقاط الأساسية:
١- لم يتعرض “النظام العالمي” للخطر على سبيل المثال عند انتقال مصر في عهد عبد الناصر من النفوذ الأمريكي إلى السوفييتي، ثم في عهد السادات من النفوذ السوفييتي إلى الأمريكي مجددا..
أما الثورات الشعبية العربية فتميزت بهدف “إسقاط أنظمة استبدادية محلية مرتبطة بمنظومة الهيمنة العالمية وضامنة لمعادلتها إقليميا” ولهذا اعتبرت خطيرة وواجهتها أعاصير التحرك المضاد للإرادة الشعبية.
٢- دون إغفال أخطار محلية في الدرجة الأولى، كان “الإرهاب” وما يزال ورقة أو ذريعة تستخدمها القوى الدولية لتحقيق أهدافها بالقوة، كما كان مع أفغانستان والعراق وما يراد تحقيقه الآن في سورية..
والمطلوب من هذه “الورقة” حاليا: زعزعة مسارات الثورة في ليبيا وتونس واليمن، واستكمال استعادة وسائل السيطرة الاستبدادية لما سمي الدولة العميقة في مصر، والقضاء على “قوى الثورة نفسها” في سورية.
٣- النظام العالمي “آليّة” تجسد منظومة حضارية قائمة، من أبرز خصائصها “احتكار التقدم عنصريا” و”ممارسة الهيمنة صراعا وتوافقا” و”إعادة صناعة الإنسان ماديا”..
لهذا يتخذ الخطر على النظام العالمي كما تستشعره القوى الدولية المسيطرة من خلاله، صبغة “خطر حضاري”، فكل طرح حضاري من شأنه إلغاء واقع احتكار التقدم، وهيمنة القوة، ومادية القيم، يعني تهاوي مرتكزات النظام العالمي نفسه.

الثورات تهدد منظومة السيطرة

إن خطر ثورات الشعوب في الربيع العربي أنها ثورات “تحرر إنساني حضاري” من استبداد نظام عالمي ارتكز إلى أنظمة استبداد محلي في بلدان ممزقة.
ويشير د. أكرم حجازي أيضا إلى ‎بداية نشأة “النظام العالمي الحالي” عقب الحرب العالمية الأولى، عندما أسقطت بقايا بنية هيكلية مهترئة لمسيرة الحضارة الإسلامية، فأصبح من ثوابت استراتيجيات القوى الدولية منع عودة أسباب النهوض مجددا في “العالم الإسلامي” بتجزئته والسيطرة على موارده، وحماية ذلك “عسكريا”.
١- قام الوتد الأول عبر مشروع “الثكنة الصهيوأمريكية بفلسطين”، ليمزق المنطقة جغرافيا ويعتقل أنظمتها عسكريا ويوظفها لتحويل “الأمة” إلى شعوب وراء قضبان الحدود، تنشغل بأعباء الاستبداد والفقر والبطر.
٢- قام الوتد الثاني عبر المشروع الإيراني للهيمنة بوجهه القومي “الشاهنشاهي” ثم وجهه “العقدي الطائفي”، لتوجيه الضربات إلى قيم التعارف والتعاون وصناعة “أقليات وأكثريات ونزاعات”.
٣- أما النظام الطائفي الأسدي في سورية، الذي تعود جذور “صناعته” إلى العهد الفرنسي بعد الحرب العالمية الإولى، فهو مجرد “حصوة” يتكئ عليها المشروعان “الطائفي الإيراني” و”الاستيطاني الصهيوني”. الحرص عليه هو الحرص على دوره، إذ تتكئ عليه الركيزتان الأساسيتان لاستمرار معادلة الهيمنة والتبعية إقليميا، في نطاق نظام عالمي مسيطر.

هل يحق لنا فعلا أن نتساءل بمرارة ساذجة عن أسباب العداء المفرط مع التجرد من “ورقة التوت” في الاستهداف الدولي الجائر لثورة شعبية تنزع هذه “الحصوة الأسدية الصغيرة” من مكانها؟

إن ما تصنعه ثورة شعب سورية لا يقتصر على “مجرد” إسقاط سلطة وإقامة أخرى.. إنه إسقاط “حلقة” ضعيفة بحد ذاتها، ولهذا جثا النظام سريعا على ركبتيه، ولكنها حلقة يؤدي سقوطها إلى زعزعة مرتكزات إقليمية لهيمنة قوى دولية عالميا..
لهذا تحركت تلك المرتكزات أولا، وعجزت، وتتحرك القوى الدولية معها باستمرار‎، والسؤال: هل سيسجل التاريخ أنها عجزت وجثت على ركبتيها أيضا؟

محددات “معركة عالمية”؟

هي ثورة شعبية ذات “أبعاد تغييرية عالميا”، لا يسبب “انتصارها” سقوطا مدويا لمنظومة السيطرة والقوة المهيمنة عالميا مع إنجازاتها التقنية والمادية الضخمة، فليس هذا من طبيعة أحداث التغيير التاريخية الكبرى، إنما تنتقل “الإنجازات” – كما كان دوما عبر تاريخ البشرية – إلى دورة حضارية جديدة تستأنف مسيرتها.
ولكن المطلوب هو إدراكنا أن الثورة في سورية هي عماد جولة كبرى:
١- هي إذن عملية تغيير عالمية الأبعاد تستغرق جيلا أو أكثر..
٢- وما يسري على سورية يسري على كافة ثورات الربيع العربي، وفي مقدمتها الوقود الأولى للثورة في مراجل “الانتفاضة” بفلسطين..
٣- الحد الفاصل بين “النصر” و”الهزيمة” في وعينا وفي واقعنا هو الحد الفاصل بين مجرد استبدال بيدق بآخر في موقع السلطة، وهذا ممكن ولا يفيد وحده، وبين الأخذ بنهج حضاري إنساني تغييري مكان آليات الخضوع في معادلة عالمية للتبعية والهيمنة، وهذا ممكن وإن كان عسيرا باهظ التكاليف.

إن الاكتفاء بتغيير جزئي أو مزور ظاهري ليس ثورة، بل يشابه سلسلة الانقلابات العسكرية، أو ما كان في إيران عندما سقط الشاه وكان مرتكزا للغرب، فتبدلت عجرفته الإقليمية بأخرى “طائفية”، ولهذا أمكن ترويض عملية التغيير، واحتواؤها وتوظيفها دوليا في نهاية المطاف، وهو ما ترمز إليه عبارة “دور الشرطي إقليميا” وكذلك تتويج ما بذل”عالميا” من جهود بعقد الاتفاق النووي.

أما الثورات الشعبية العربية فإشكاليتها لدى القوى الدولية أنها لم تطرح “بيدقا بديلا” من جنس سلفه، أي من جنس بن علي ومبارك والقذافي وصالح، وهذا ما يسري على آخر تلك الأنصاب في سورية أيضا.

لهذا انطلقت الأعاصير المضادة للإرادة الشعبية، فأعيد في مصر إنتاج “عصا السلطة” التي يتكئ عليها المشروع الصهيوني ولا تزال الجهود جارية في بلدان أخرى كل على حسب ظروفه، أما في سورية تحديدا فلم يجد “اللاعب الدولي” بدماء الشعوب “بديلا” جاهزا كالسيسي، ولا حتى “بذرة بديل مناسب” كحفتر بحيث يمكن دعمه لفترة، كما كان مع كرزاي والمالكي، كما أخفقت محاولة أن يُصنع البديل صنعا وكان من ذلك ما سمي تدريب المعتدلين.
كان التعامل الدولي مع ثورة سورية من البداية أي فور انتهاء صلاحية “الحصوة الأسدية”، هو “انتظار البديل”، فكان “مسلسل مهل القتل”، وكان العمل لمنع انتصار الثورة، وكان حصار “قنوات التسليح والتمويل”، أما “الضحايا” فلا تدخل في حسابات صناعة القرار أصلا إلا من حيث “إخراج” تنفيذ القرارات.
ليس “الغزو الجوي الروسي” الآن (٩ / ٢٠١٥م) سوى نقلة دولية إلى التولي المباشر لأداء ما يسمى المهمة القذرة.

لا يعني ذلك تبسيط الأمور بالقول إن الغربيين يورطون روسيا، فليست موسكو “دمية سياسية غبية”، ولكن تدرك أن المنافس الدولي الغربي لن يواجه غزوها بالقوة، وتعمل في الحلبة الدولية لتكون شريكا “له قيمة”، وهنا يتخذ الغزو الجوي صبغة “المقامرة والمغامرة”.
لا ترغب القوى الغربية في إخفاق روسيا، فحتى “لو” نجحت يمكن التعامل معها وفق “اللعبة الدولية ومعادلتها القديمة”، ولكن “تتوقع” القوى الغربية ذلك الإخفاق وتعدّ العدّة لما بعده، ومن منظور الثورة الشعبية في سورية نتوقع ذلك الإخفاق أيضا، ويجب أن نعمل له، ويجب في الوقت نفسه أن نعدّ العدّة لما بعده، كيلا تصب حصيلة الغزو نجاحا أو إخفاقا في صالح القوى الدولية وهيمنتها وربائبها الإقليميين، بدلا من مواصلة الطريق نحو انتصار الإرادة الشعبية الثائرة، في سورية وأخواتها.  

نبيل شبيب