تحليل – إرهاب العمائم وربطات العنق
حلقة إرهابية مفرغة مفزعة، يتقن المشاركون فيها أدوارهم الرهيبة في تحريك عجلتها
اختطفت المحاولة الانقلابية البائسة في تركيا الأضواء من مسار الثورة في سورية، ويؤكد انشغال أهل سورية بأوضاع تركيا ازدياد الوعي بأننا في قارب واحد، كما اختطفت المحاولة الانقلابية الأضواء من تسليط الاهتمام الدولي على الحدث الإرهابي في نيس بفرنسا وما تلاه، وهو ما لا يمكن فصله عن مسار الثورة أيضا، وهو ما تدور الفقرات التالية حوله.
طينة شيطانية إجرامية واحدة
باسم الإسلام وبذريعة الدفاع عن الإسلام والمسلمين تُنتهك تعاليم الإسلام، وقيم الإسلام، وإنسانية الإنسان، والحصيلة إرهاب دنيء يطال المسلمين في أرضهم وغير المسلمين في أرضهم وشباب المسلمين في عقولهم وسلوكهم.. وتُستهدف ثورات الحرية والكرامة والعدالة في قلب مساراتها نحو التغيير، ضد الاستبداد والفساد محليا والهيمنة والاستغلال دوليا.
باسم الحرب ضد الإرهاب تُنتهك إنسانية الإنسان وتستباح قيم الإنسان ويستهدف الإسلام في كل مكان وتنطلق الأسلحة الجنونية الفتاكة نحو أراضي المسلمين فتقتل الأطفال قبل الكبار والمدنيين قبل المسلحين وتفتك بكل سبب من أسباب الحياة.. وتستهدف ثورات الحرية والكرامة والعدالة في قلب مساراتها نحو التغيير، ضد الاستبداد والفساد محليا والهيمنة والاستغلال دوليا.
هؤلاء وهؤلاء هم أعداء الإنسانية والأديان والحقوق والحريات والمواثيق والقيم والمبادئ، وهم شركاء في عداء الإنسان، سواء كانوا في حلف واحد من وراء ستار أم لم يكونوا، وسواء اعترفوا بذلك أم أنكروا، ولا يوجد أي مبرر له قيمة، ليزعم أحد الفريقين أن ما يرتكبه من جرائم بحق البشر من خارج الجبهات، هو ردّ “مشروع” على جرائم الفريق الآخر المماثلة، كما أن كل ما تنطق به الآلام على ألسنة الضحايا وأهلهم بشأن أحد الفريقين لا يمكن اعتباره مبررا لما يصنع الفريق الآخر.
ما الذي يريده الإرهابيون الصغار والكبار في المغاور المظلمة وفي الصالات المضيئة؟
قد تعبر عن ذلك كلمات أخ صديق يستحيي كاتب هذه السطور من نفسه إزاء عمله وعطائه، يقول إن هذه الحرب -يقصد الثورة في سورية- أضحت صفرية، أي ستقضي على كل مشارك فيها، ويجب أن نعمل لتتوقف.. فما رأيك؟ الرأي أن هذا بالذات ما يريده الإرهابيون من الطرفين، أن يصل الأمر بالثوار الصادقين إلى مرحلة لا يرون فيها مخرجا إلا أن يتوقفوا عن الثورة.
لئن توقف الثوار، فهل ينقطع تطلع الشعوب إلى الحرية والكرامة والعدالة والأمن؟
هل تتوقف جرائم الاستبداد والفساد والهيمنة والاستغلال، وقد كانت قبل الثورات وازدادت أثناءها، ويمكن لو انقطعت الثورات أن يخشوا من تجددها فتزداد جرائمهم وتزداد المعاناة أضعافا مضاعفة؟
يسري هذا على الإرهابيين المنحرفين الصغار وإرهاب المستبدين والفاسدين الصغار وإرهاب سادتهم من كبار المستبدين المهيمنين وكبار الفاسدين المستغلين عالميا.
هم من طينة شيطانية إجرامية واحدة، وتبليس إبليس مستمر إلى قيام الساعة.
حلقة إرهابية مفرغة
لقد كانت أدوار الفريقين قبل الثورات يكمل بعضها بعضا، وما تزال مع مضي الثورة في سورية إلى أبعد مما توقعوا، تضحية وبطولة واستمرارا وتحملا للأخطاء الذاتية والمعاناة بأشكالها.. وها نحن نشهد تصعيد التكامل في أدوارهم، فكلما اتسخت ربطات العنق بدماء الضحايا واضمحل شيء من التأييد لفريق لا يحكّم عقلا ولا ضميرا في حربه ضد الإرهاب، قام الفريق الآخر بعملية دنيئة ليقدم ذريعة إرهابية جديدة، وكلما سقطت ورقة من أوراق التوت عن عمائم الإرهاب المنحرف، انطلقت الطائرات والصواريخ والقنابل العنقودية والفوسفورية والقذائف وازداد استعراض تجاهل حجم الدمار ومصائر البشر، كأن الشعوب الثائرة ليست من جنس الإنسان، وإذا بهذا الاستعراض لأفاعيل الهيمنة استعراضا استفزازيا مهينا يصبّ الوقود التي تحرّك مرجل دعاية الإرهاب المنحرف لنفسه ولنصب مزيد من أفخاخ الإغراء للشباب من الشعب الضحية.
هي حلقة إرهابية مفرغة مفزعة، يتقن المشاركون فيها أدوارهم الرهيبة في تحريك عجلتها، لتدور وتدور مع زئير وعويل على ضحايا شعوبهم ومع الاستهزاء بضحايا شعوب أخرى.
الثورة حالة تغيير لا خيار فيها
أيها الثوار.. لا يمكن التوقف عن الثورة أصلا.. فليست الثورة مجرد مظاهرات ثم معارك ثم مفاوضات ثم إسقاط ما كان يسمّى نظاما، وليست مما يبدأ بقرار وينتهي بقرار؟
هي بوابة تغيير تاريخي مديد.. تغيير جذري للأوضاع الإرهابية السائدة بجميع ألوانها، ولهذا تحملت الشعوب
المستهدفة بالإرهاب والحرب ضده وما تزال تتحمل أقصى ما عرفه البشر قديما وحديثا، لتحقيق أهدافها.
ولنتساءل: ما معنى سلوك درب الثورة في طلب الحرية والكرامة والعدالة والأمن؟
يستحيل بلوغ هذه الأهداف الشعبية الكبرى دون القضاء على جذور الإرهاب كلّه ومسبباته، وذرائعه وممارساته، ورؤوسه الدولية والمحلية وأتباعهم وأتباع أتباعهم..
يستحيل.. دون القضاء على الاستبداد والفساد في أوكاره المحلية وقصوره الدولية، فجميع ذلك يعين بعضه بعضا على صناعة الإرهاب والحرب ضده، ليستمر استغلال الشعوب وثرواتها وبلادها أبشع استغلال..
إن الاستبداد والفساد والهيمنة والاستغلال هي محاضن الإرهاب والعدوان، أو العدوان والإرهاب، لا فرق في الترتيب ولا فرق في المفعول ولا فرق في سحنة الوجوه ولا فرق في بشاعة الإجرام.
الإرهاب وليد من زواج غير شرعي بين الاستبداد والهيمنة وبين الفساد والاستغلال، كما أن كل شكل من هذه الأشكال لاستعباد البشر هو وليد زواج غير شرعي بين الإرهاب والحرب ضد الإرهاب.
مسؤولية ثغور الثورة
الثوار في سورية لا يقفون على ثغور قرية هنا ومدينة هناك وريف هنالك..
الثورة أكبر من ثغور حلب وداريا وإدلب ودرعا وداريا ودوما وثغور جبال ووديان وغابات ومزارع..
وليس “تحرير” بعضها -مع كل التقدير والإجلال إزاء ذلك- إلا مسؤولية إضافية أكبر من رفع الرايات، وأمانة في الأعناق سيسأل رب العزة عنها من تصدّى لها.
وليس مما يعبر عن أداء المسؤولية حق الأداء وعن حمل الأمانة بوعي وإخلاص، أن ينفرد الإجرام والإرهاب الدولي والمحلي ببلدة بعد أخرى وبفريق محاصر بعد فريق، وبفصيل بعد فصيل، مع وجود آخرين يتابعون وينتظرون “معركة أخرى” أقرب إلى عرينهم، فآنذاك سيرون من حولهم من لا يتحرك لأن المعركة أصبحت بعيدة عن “عرينه”!
إن كانت هذه استراتيجية فهي استراتيجية انتحار جماعي..
وإن كانت حصيلة جهل بما تقتضيه المعركة.. فليس الجهل في مقام الثورة عذرا مشروعا..
وإن كانت نتيجة مغريات دنيوية من تمويل ملغوم أو وجاهة كاذبة أو زعامة فارغة ففي ذلك خسران الدنيا والآخرة.
استغاثت درعا في مطلع الثورة فهبت بانياس وحمص..
استغاثت حماة والغوطة فهبت حلب وإدلب..
وعندما استغاثت داريا وكلنا يعلم ما تعنيه داريا أيقونة الثورة اقتصر التفاعل معها على التساؤلات من ينجدها، في درعا عمن ينجد داريا من ثوار الغوطة الشرقية، وفي الغوطة الشرقية عمن ينجد داريا من ثوار درعا، وكأن “الثغور الثورية” من طوائف الأندلس.. ولو صدق السائلون لأدركوا أن السؤال المطروح على الثوار جميعا هو كيف ينجدون أنفسهم وثورتهم وشعبهم وبلدهم وحاضرهم ومستقبل أولادهم وأحفادهم من بعدهم، فالجميع في خطر يستهدفه الإرهابيون الصغار والكبار، ولا يسلم أحد منفردا، ولا ينتصر موقع دون آخر، ولا يحمل المسؤولية والأمانة فريق دون فريق.
وستنتصر الثورة بهذا الجيل أو بقوم آخرين.. لأنها حالة تغيير جذري لا يرتبط مسارها بأشخاص ولا بقرار هزيل لفريق صغير أو كبير كما أنها عصيّة على الاغتيال بعمل إرهابي معمّم أو عمل إرهابي بربطة عنق.
نبيل شبيب