تحت المجهر – وثائق رسمية سرية لعشرات السنين
كيف تتحقق العدالة عند فرض السرية لعدة عقود على وثائق رسمية فيها معلومات عن جرائم كبرى
ــــــــــ
ويكي ليكس يعمل منذ سنوات ويكشف معلومات موثقة حول تفاصيل جرائم وقعت، ورغم ذلك تبقى بلا محاسبة ولا ملاحقة ولا محاكمات ولا تبرئة قضائية ولا عقوبات جنائية، بل لا يوجد ما يشير إلى التخلي عن توجهات سياسية وغير سياسية في نطاق من تعاونوا مع من ظهرت مسؤولياتهم عن ارتكاب تلك الجرائم. كل ذلك ومزيد عليه في دول تؤكد سلطاتها ويؤكد زعماؤها الحرص على الديمقراطية وفصل السلطات واستقلال القضاء وسيادة القانون والدفاع عن الحريات العامة والحقوق الإنسانية ولا سيما حرية التعبير وحرية الإعلام!
الأمثلة لم تنقطع منذ عقود وعقود، ومنها بين أيدينا مع كتابة هذه السطور (١١ / ٢٠١٧م) ألوف الوثائق التي وافق الرئيس الأمريكي ترامب على إنهاء اعتبارها سرية وسرية للغاية، وتتعلق باغتيال الرئيس الأمريكي الأسق جون كنيدي قبل أكثر من نصف قرن.
ما الذي يستدعي حظر نشر وثائق التحقيق في اغتيال رئيس دولة؟
هل يراد استمرار التستّر على انخراط أشخاص كانوا في مواقع المسؤولية آنذاك، ولا يراد فضحهم ولا محاسبتهم، رغم أن الضحية أمريكي، بل رئيس أمريكي؟
مثال آخر:
ألم ينكر المسؤولون لعدة عقود ضلوع المخابرات الأمريكية ومسؤولين سياسيين في واشنطون بالتآمر على نتائج الانتخابات الديمقراطية في تشيلي عام ١٩٧٣م، وإسقاط الرئيس المنتخب سلفادور آليندي، وتدبير انقلاب عسكري بلغ عدد ضحايا استبداده بزعامة بينوخيت عشرات الألوف، حتى إذا ألغيت صفة “السرية” وانكشف ذلك كله، صدر “اعتذار” عن وزيرة الخارجية أولبرايت آنذاك، ولم يعد يفيد أهل تشيلي أن يطالبوا بإثبات المسؤولية الجنائية أصلا ناهيك عن فرض عقوبات وتعويضات وما شابه ذلك من أشكال “العدالة”؟
يضاف إلى ذلك ما يقع من تمييز بين إنسان وإنسان، كما يشهد أسلوب التعامل مع ما نشره ولا يزال ينشره موقع (ويكي ليكس) منذ سنوات، فبدلا من ملاحقة من انكشفت مسؤوليتهم عما ارتكبوه، كما في العراق وأفغانستان، يتعرض مؤسس الموقع للملاحقة، وكذلك من شاركوا في تسريب وثائق اعتبرت سرية للتغطية على مرتكبي الجرائم!
ما الذي يبقى إذن من مخزون القيم التي ترددها ألسنة سياسية حول الإنسان وحرياته وحقوقه والفصل بين السلطات وما إلى ذلك من عناوين؟
موقع ويكي ليكس لم يكشف أمورا مجهولة، كما يقال تزويرا عن الوثائق الرسمية حول الإجرام في أفغانستان وفي العراق، فالحديث عن ذلك لم ينقطع لسنوات، ولكن لم يصل إلى مستوى الملاحقة القضائية العادلة، وما فعله مؤسس الموقع جوليان آسانج كان يعني أن مصدرا “غربيا” شهد بصحّة ما كان معروفاً للجميع بغض النظر عن التفاصيل، ووثقّه توثيقا لا يقبل الجدل، بعد أن كان جلّه موضوع التداول بقدرٍ ما عبر أقلام ومقالات واستغاثات، وكلنها كانت من مصادر عربية وإسلامية، وكانت تواجه داخل بلادنا بعقدة الخواجة، أو عقدة الهزيمة النفسانية الذاتية وعقدة النقص الذاتية، مما تجسد في عزوف كثير من أصحاب تلك العقد، عن إعطاء ذلك الكشف الذاتي القيمة التي يستحقها، ما دام لا يوجد بين تلك المصادر سوى القليل من “جهات غربية منصفة” محاصَرة غربيا، مهمَلة رسميا.
أين “الأحياء” من الضحايا؟
لم يكن مجهولا أنّ جوانتانامو، مشهد مكشوف للترهيب وصار مشهدا للعار، من بين ما لا يُحصى من أمثاله في قلب أفغانستان فضلا عن المعتقلات السرية في قلب أراضي “الدول الصديقة” للدولة العاتية المارقة..
لم يكن مجهولا أن أبو غريب، وفلّوجة، والحديثة، وأخواتها ليست عناوين لجرائم “استثنائية” بل هي الوضع الإجرامي “الاعتيادي” في نطاق حروب إجرامية من بدايتها إلى نهايتها مسؤوليةً سياسيةً وأهدافاً ووسائل وتخطيطا وتنفيذا..
لا يوجد ما يستدعي التساؤل عن ردود فعل رئيس أمريكي جديد، عن توثيق جرائم ارتُكبت في عهدٍ سبقه، فالجرائم ما زالت مستمرّة على يديه وتوسّع نطاقها في عهده، بأساليب أشدّ خطرا، وجند أكثر عددا، وعتاد أكثر فحشا، وليس همّه الأكبر أن يحدّ منها، ولا أن يستر ما قد ينكشف مستقبلا، بل همّه الأكبر الآن هو ألاّ يخسر “كثيرا” من الأنصار في انتخابات نصفية قريبة في بلده، وهو يعلم أنّ هموم الناخبين مركّزة على مصالحهم الداخلية، وليس على ما يُرتكب من جرائم باسمهم وعبر أصواتهم بحقّ شعوب أخرى.
ولكن نتساءل، ويجب أن نتساءل:
١- ما موقف المسؤولين في البلدان العربية والإسلامية وهم يرون أنّهم قد شاركوا مباشرة أو تواطؤا أو صمتا فيما صنعه “عدوّهم” الأكبر بفريق من أمتهم، وببعض بلادهم، ولم يعد أمامهم بعد نشر ما نُشر من توثيقٍ للجرائم مجالٌ للمراوغة؟
الموقف حتى الآن: صمتٌ مطبق، أشدّ وطأة في واقع العرب والمسلمين من صمت الأرض التي ضمّت جثث الضحايا الأبرياء.
٢- ما موقف من كانوا ولا يزالون يروّجون لكلّ ما هو أمريكي، بدءا بالحروف الأمريكية في حضانة الأطفال مرورا بفضائيات تُصنع ببقايا نكهة عربية مطحونة ومعجونة أمريكيا ما هو أشدّ أمركةً وإجراما بطيئا متواصلا، ممّا حاولته الدولة العاتية بنفسها عبر بعض الأبواق الإعلامية، وصولا إلى واردات القمح بشروط وواردات السلاح الغربي بشروط وجلب المستشارين الغربيين والتوجيهات الغربية دون شروط؟
الموقف حتى الآن: متابعة ارتكاب الجرائم الأخطر على مستقبل الأجيال ومستقبل الأمة فكرا وثقافة وعلما وحضارة من القتل الإجرامي الحربي.
٣- ما موقف أولئك الذين لا يزالون يزعمون أنّ مجرّد العنوان العلماني الديمقراطي في بلدان غربية “متقدّمة” يكفي لتوجيه الحراب لكلّ ما هو عربيّ وإسلامي، بدعوى الحقوق والحريات والقضاء والقانون، وهم يرون رأي العين أنّ انتهاك الحقوق والحريات والقضاء والقانون مع ترسيخ التجزئة والتخلّف داخل بلدانهم العربية والإسلامية لم يكن من صنع عروبة ولا إسلام بقدر ما كان من صنع التخلّي عن العروبة والإسلام ودخول جحر الضبّ التي دخلها العلمانيون الديمقراطيون الغربيون، وربما حققوا شيئا ممّا يقولون داخل حدود بلادهم، وما تعاملوا وفق ما يقولون مع أيّ بقعة من الأرض خارج حدود بلادهم؟
الموقف حتى الآن: ما يزال أولئك “المتأمركون المتغرّبون” يرون في ابن بلادهم “عدوّهم” الأكبر، وفي قاتل أبناء بلادهم النموذج المثالي فكرا وقيما وتوجّها وسلوكا!
٥- ما موقف من كانوا ولا يزالون ينطلقون من الإسلام، والعروبة، والوطن، ويرفضون التسليم والتغريب والانحراف، ويطالبون بالتحرّر والعزة والكرامة والوحدة؟ أو ليس فيما نُشر وفيه ما كانوا يتوقّعون أو ما فاق التوقّعات، حافزا كافيا لأن يرتفعوا هم على الأقلّ فوق اختلافاتهم، ونزاعاتهم، وانشغالهم بالصغائر، وتشبّثهم ببعض المظاهر، كيلا يبقوا دون مستوى متطلّبات التغيير، ودون مستوى الوفاء للشهداء والضحايا والمقاومين، ودون مستوى احتياجات الإسلام والعروبة والوطنية الآن، في عصر التكتّلات الدولية وتلاقي جبابرة القوى المهيمنة على الفتك بهذه المنطقة الممتدة ما بين المحيطات الثلاث، وهم عبر الحروب ودون حروب لا يفرّقون فيها بين مذهب ومذهب وطائفة وطائفة وحزب وحزب واتجاه واتجاه، لا يفرّقون فيها وفيما يوجّهونه من عداء لها ما بين إنسان وإنسان، بل لا يكادون يعتبرون البشر فيها من جنس الإنسان، الذي يستحقّ الإقرار بكرامته وحقوقه وحريته وسيادته، لأنّه “إنسان”!
الموقف حتى الآن: هو الموقف الأخطر من سائر ما سبق، فلئن كان من تُعقد عليهم آمال المستقبل دون مستوى تحقيقها، فما جدوى الحديث عمّن يدمّرون المستقبل عامدين أو ضالّين مضلّين؟
بين التبجّح بالجريمة.. وإنسانية الإنسان
المواقف التي يجري تسويقها في الغرب بعد فضيحة كشف وثائق الإجرام، محصورة ما بين:
– جدال حول حقّ فلان أو فلان في نشر ما نشر..
– وجدال حول ما قد يترتّب من أخطار على “الإنسان” الغربي الذي ما زال يواصل ارتكاب جريمته..
– وجدال حول كيفية متابعة ما لا يزال مستمرّا في أفغانستان والعراق بحيث لا يوصل إلى “هزيمة مخزية”
– ولا جدال ولا حديث يدور حول حقيقة أنّ الهزيمة الكبرى للدولة العاتية ومن مضى معها هي أخزى هزيمة حضارية في تاريخ البشرية، وأنها هزيمة جرائم ثابتة، موثّقة، علنية، منذ اللحظة الأولى للشروع في ارتكاب تلك الجرائم الحديثة “المتحضّرة” على خطّ “ثابت” من جرائم سابقة، من قبل هيروشيما وناجازاكي وفيتنام وفلسطين.
نتمنّى، ولا يسهل بعدُ القول: ننتظر ونتوقع، أن تستيقظ إنسانيّة الإنسان في الغرب، ولا تبقى في حدود أفرادٍ أحرار منصفين يبذلون ما يستطيعون ومنظمات مدنية معدودة تبذل ما تستطيع، بل يُرجى أن تتحوّل إلى تيّار يضع حدّاً لذلك الانحراف الرهيب الخطير في تاريخ البشرية، وتاريخ الحضارات الإنسانية، تحت تأثير قوى مادية وعنصرية طاغية.
نتمنّى فحسب، لأنّنا مع تقدير كل جهد صغير أو كبير من جانب أولئك الأفراد وتلك المنظمات، ندرك تماما أنّ صناعة القرار لا يمكن أن تنقلب عبر “صناديق انتخابات” ولا “بعض الحملات” ولا بأسلوب “التضحية بكبش فداء”، بل لا بدّ من أن تتحوّل التحركات المحدودة إلى تيار، وأن تتلاقى من وراء حدود غرب وشرق، ودول وأحلاف، القوى الصغيرة والكبيرة التي تنطلق من إنسانية الإنسان، في الغرب والشرق، في دول متقدمة ومتخلّفة، ديمقراطية واستبدادية، صغيرة وكبيرة.
لم يمنع التنوير في الغرب.. من انتشار الاستعمار الغربي..
ولم تمنع الديمقراطية في الغرب.. من جرائم الحروب الغربية..
ولم تمنع شعارات الحقوق والحريات والقضاء والقانون من انتهاكاتٍ يندى لها جبين “الإنسان” ولا تجد مكانة ولا تأثيرا عند من يتخذون من تلك الشعارات ذريعة لارتكاب ما يرتكبون، فلا يكادون يجدون في حدث من قبيل توثيق جرائم قتل مئات الألوف مع ألوان التعامل الهمجي المخزية بكل مقياس.. إلاّ التمويه بالقول إنّ العدد الحقيقي للضحايا ليس مائة ألف (مثلا) وإنما ستون ألفا (فقط)، وإن ما تصنع “الدول المتحضرة” هو الجواب على ما صنعه “مستبدون وإرهابيون” همجّيون.
لقد دخل التصنيف العنصري – ولا يستهان بواقع تسويقه في الغرب – حتى على ارتكاب جريمة قتل، أو جريمة تعذيب، أو جريمة اغتصاب، أو جريمة اغتيال، أو جريمة اختطاف، هل يرتكبها غربي متحضّر أم شرقي همجي، وفق مقاييسهم العرجاء!!
الدرب الحضاري الغائب
لا يمكن القبول في البلدان العربية والإسلامية بردود فعل “الصمت” أو “التسويغ” أو “الاستمرار على ما كان” مع مواصلة التعلّق المخزي بأخزى ما أنتجته الحضارة المدنية الغربية الحديثة من انحرافات في صناعة “الإنسان!” وأن يهبط ذلك التعلّق المخزي إلى أدنى حضيض، عبر تمييع ما يعنيه ارتكاب أبشع جرائم الهيمنة المادية العنصرية وممارسة شريعة الغاب وهدر الكرامة الإنسانية!
لا يمكن القبول بردود الفعل تلك إزاء الكشف عن وثائق تثبت ارتكاب ما لا يكاد يُحصى من الجرائم، ممّا لا يزال الإصرار على “مواصلتها” مستمرا، بل إنّ ردود الفعل من تلك النوعية هي ضرب من ضروب المشاركة في ارتكاب الجريمة والاستمرار في ارتكابها.
ولهذا لا بد من التأكيد أنّ من المستحيل أن يتحقّق التلاقي الحضاري على إنسانية الإنسان من وراء الحدود والدول والتحالفات إلاّ من خلال من يرتفعون بأنفسهم فوق تلك المنطلقات العنصرية الهمجية.
ولهذا أيضا لن يكون “الشركاء” في مثل هذا التلاقي، من داخل البلدان العربية والإسلامية، أولئك الذين يظنّون سبيلهم الوحيد إلى ذلك هو تقمّصهم الرؤى الغربية، بغض النظر عن قيمتها النظرية الذاتية.
إنّما يصنع مستقبلَ إنسانية الإنسان أولئك القادرون على العطاء، عطاء قسط متميّز واضح للعيان من معين حضارتهم وتاريخهم وفكرهم ورؤاهم الإنسانية الذاتية، وذاك ما يُرجى ممّن لا تزال تُعلّق بهم وبإسلامهم وعروبتهم الآمال، آمالُ العرب والمسلمين، ويمكن أن ينطلق من بين أيديهم الطريق إلى استرجاع إنسانية الإنسان.
نبيل شبيب