تحت المجهر – معركة اغتيال الربيع العربي

ما زال بين أيدينا عناصر وعوامل إن وظفناها توظيفا هادفا، تتبدل مشاهد الحسم المتجدد في مسار معركة تاريخية طويلة الأمد

42

انتهت ثورات الربيع العربي بمنظور “فريقين”.. كلاهما يعتبر عودة الأنظمة الاستبدادية للسيطرة على أدوات الدولة وتوظيفها للقتل والاعتقال هو المؤشر الحاسم لذلك، وإن كان الفريقان يدركان أنها عودة خاسرة في نهاية المطاف، ما دامت تستخدم وسائلها “العتيقة” من مال حرام، وانقلابات غادرة، وانتخابات مشروخة، وتبعيات أجنبية.

الفريق الأول هو تحالف بقايا الأنظمة التى تهاوت في الأيام الأولى للثورة بسرعة مفاجئة، مع الأنظمة المماثلة لها استبدادا وفسادا وتبعية أجنبية، والتي لم تصل إليها رياح الثورات بعد.

والفريق الثاني قطاعات شعبية شاركت في الثورات، ولكن تقبّلت ما ساهم بعض “النخب” في ترسيخه ونشره من وهم كبير، أنّ سقوط بعض رؤوس أخطبوط الاستبداد والفساد هو “الهدف”، أي هو “نهاية؛ مسار تلك الثورات.. ففوجئت ببروز رؤوس أخطبوطية ناتئة جديدة، لم تظهر من العدم، إنما كان الوعي السياسي (المعارض) والشعبي (الثائر) قاصرا عن رؤيتها والتعامل “ثوريا” معها قبل أن تجد مزيدا من الدعم الخارجي وتعود عبر الثغرات التي بقيت في جدران الثورات الشعبية.

. . .

لم ينته مسار الربيع العربي ولن ينتهي عند “فريقين” متقابلين أيضا، فما يزال في بدايته، قد فتحت الثورات الشعبية له بوابة كبيرة يستحيل إغلاقها بعد اليوم، فالطاقات التي فجرتها الثورات الأولى تولد المزيد وتجدّده يوما بعد يوم وإن كانت التضحيات والمعاناة علقما نتجرعه مع “الصراخ”، بينما كنا نتجرعه بصمت وركون وهوان وألم طوال حقبة ما قبل الربيع العربي.

الفريق الأول هو نفسه، فريق أعداء تحرر الإرادة الشعبية من قوى دولية وإقليمية وتوابع منتفعة من الاستبداد والفساد، فهؤلاء يدركون ما مغزى ثورات الربيع العربي، وسيعملون بجميع وسائلهم غير الأخلاقية وغير المشروعة، لتثبيت ما حققوه حتى الآن في تحركهم المضادّ وزيادته، كي يستعيد الاستبداد والفساد في “مواقع الضعف من خارطة وجودهم” قوتهما غير الأخلاقية وغير المشروعة.

أما الفريق الثاني فعليه المعول في رؤية المستقبل، ويشمل قطاعات شعبية وفاعلة، لديها من الوعي السياسي ما يكفي لتتعامل كما ينبغي مع مسار ثورات الربيع العربي، وأنه جولات متتالية، وإن اختلفت طبيعة كل جولة عن الأخرى.

. . .

إن “استحالة” اغتيال الربيع العربي تتضح للعيان بقدر ما نستوعب أن المعركة الدائرة هي المعركة على صناعة الإنسان نفسه، وأنها لم تبدأ الآن ولم تنته أيضا، إنما وصلت إلى ذروة تاريخية حاسمة، وفق المعايير الزمنية للتاريخ.

لأكثر من مائة عام مضت لم تنقطع الجهود الخارجية المهيمنة والجهود الداخلية التابعة من أجل صناعة إنسان آخر في المنطقة الحضارية الإسلامية العربية، يخضع لعوامل الفقر هنا والبطر هناك، والتضليل ونشر الاحتلال مع القهر المتواصل هنا وهناك، كي لا يصبح في “تكوينه وواقع معاشه” عنصرا فاعلا من عناصر النهوض، بدءا بطاقة العقيدة والقيم -الحية لا الكامنة- مرورا بامتلاك الوسائل والأدوات اللازمة للتغيير، انتهاء بالإنتاج البحثي والتقني والمادي.

لقد كان الإنسان هو المستهدف دوما، من جانب قوى عدوانية، ومن محطاته الكبرى تركيا ففلسطين وماحولها، فأفغانستان والعراق، ومن جانب الاستبداد والفساد المحليين، على امتداد المنطقة ما بين المحيطات الثلاث.

إن المغزى التاريخي لثورات الربيع العربي (ومن قبل ما شهدته الانتفاضة الفلسطينية والتحولات التغييرية في تركيا) هو أن تلك الجهود المعادية، الهائلة حجما وتنوعا وعمقا وتأثيرا، لم تتمكن من اغتيال الإنسان القادر على فتح بوابة جديدة للتحرر والنهوض.

لهذا أيضا وصلت الجهود العدوانية المضادة إلى مستوى سافر متقدم من التنكيل العلني بالإنسان حيثما أثبت “نجاته” من الاغتيال، بدءا بقطاع غزة مرورا بأفغانستان والعراق، وصولا إلى بلدان الثورات الشعبية الأخيرة بدرجات متفاوتة، أقصاها في سورية وفلسطين.

. . .

إن جوهر ما يردده بعضنا أن المعركة الجارية على مستقبل ثورات الربيع العربي، لا سيما في سورية، هي معركة وجود أو فناء، يعني حتمية استيعابنا أنها معركة على الإنسان نفسه.

الإنسان.. بقوة عقيدته وقيمه هو المنطلق لاستمرار طريق التحرر والنهوض.. ولا يمكن اغتيال ربيع ثوراته إلا من خلال اغتيال نبع هذه القوة المحركة لها.

الإنسان.. بمستوى كفاءاته ووعيه هو الأداة لضبط مسيرة التحرر والنهوض.. ولا يواجه عرقلة إنجازاته وتأخيرها إلا من خلال الثغرات الذاتية على صعيد توظيف الكفاءات والوعي والحرص على مواقع أولويتها على سائر الاعتبارات الأخرى.

السلاح.. يصنعه الإنسان.. أو يغتنمه.. أو يشتريه.. ويخترق صنوف الحصار لمنعه عنه، ولكنه يتحول إلى أداة قتل لا ثورة، في يد إنسان يفتقد العقيدة والقيم، وإلى أداة هزيمة بعد هزيمة وليس صناعة تغيير، في يد إنسان تنقصه الكفاءة والوعي.

وهذا ما يسري بصيغة مشابهة على جميع “وسائل التحرك” ما بين نقطتي النصر والهزيمة.

. . .

من حيث امتلاك الوسائل وحسن توظيفها تتطلب المعركة التاريخية الدائرة على مستقبل إنسان المنطقة،  من أصحاب القيم والعقيدة والكفاءة والوعي أضعاف ما تتطلب في حالات “توازن” ما تمتلكه “الجبهتان”.

ولكن هذا هو الوضع “الطبيعي” والحتمي في نطاق كل تغيير تاريخي كبير، وليس وضعا يسوّغ “الشكوى منه” ويجعله ذريعة للقعود بانتظار سواه.. فلن يوجد “وضع متوازن”.. أثناء حقبة التغيير، حتى نهايتها أو قبيل نهايتها.

ولكن.. هذا أيضا هو الوضع الذي يجعل “تلاقي” جبهات أصحاب القيم والعقيدة والكفاءة والوعي، “فريضة” يأثم من لا يعمل لها عملا جادا، وعنصرا محوريا في مسار هذه المرحلة ومسار كل مرحلة تالية.

. . .

ما نزال نمتلك العوامل الأساسية، أو لدينا قابلية امتلاكها بدرجة كافية، للحسم المتجدد في مسار معركة تاريخية طويلة الأمد: الحسم بين الاستمرارية والانقطاع، والحسم بين التقدم والتراجع، والحسم بين تحقيق الإنجازات وتراكمها لتولد منها إنجازات تالية، وتضييعها عبر التعامل الآنيّ المتسرع القاصر معها.

إن من يعملون لاعتقال “الربيع العربي” واغتياله بأقصى جهودهم الموبوءة، يعلمون أنه ليس في قبضتهم، إنما يتسللون ثم يظهرون على الملأ لتحقيق أغراضهم، بقدر ما يتسلل “الوهن” إلى أولئك الذين يعملون لمتابعة مساره الثوري..

أولئك -بسلوكهم- هم مفتاح استمرار الربيع العربي أو اغتياله..

وذاك هو الفارق الحقيقي ما بين “القلة” القادرة على النصر على كثرة فاجرة، وبين “غثاء السيل” وانهزاميته أمام عدد من الفراعنة والقوارين وملئهم..

وكلا الصنفين من هذا “الإنسان”، الفرد في قلة منتصرة، والفرد في غثاء على منحدر، سيرحل إلى يوم الحشر، عاجلا أو آجلا، يوم يكون نفسا بشرية “منفردة” مع ما صنعت..

{يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تودّ لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا، ويحذركم الله نفسه، والله رؤوف بالعباد}

نبيل شبيب