تحت المجهر – مسؤوليتنا عما لا نصنع هي الأخطر على مستقبلنا

لا تزال هاماتنا فيما نحسبه "أبراجنا العاجية" دون مستوى هامات الشعوب وصمودها وعطاءاتها

39

من المعيب.. بل من الخطورة بمكان أن يغيب عنا كثير مما يمكن أن نقوله ونقرره ونتلاقى عليه في "أروقتنا" أو عبر تواصلنا، ونحن نركز بدلا من ذلك على السؤال والمتابعة والاهتمام بشأن ما يجري في أروقتهم في لقاءات ثنائية وجماعية ما بين موسكو وبروكسل وواشنطون وعواصمهم الأخرى، وقد تصدرت قضايا بلادنا -لا سيما سورية- جداول أعمالهم. وإن تعاملنا مع ما يقولون ويصنعون تعاملنا بردود أفعال قاصرة، ما بين تنديد خشن وتأييد خجول، أو تكرار ممجوج لقول ما يراد ترسيخه وترسيخ مفعوله المدمّر في شعورنا وتفكيرنا وواقعنا: هم قادرون.. ونحن عاجزون.

. . .

في هذه الأيام على سبيل المثال (فالمشهد يتكرر منذ سنوات ولا يستجدّ فيه سوى بعض التفاصيل وألوان الإخراج) انعقد مؤتمر وزاري أوروبي، وتبعه مؤتمر لمن نسميهم "السبعة الكبار"، وتلاه لقاء وزيري موسكو وواشنطون، ونحن لا نكاد نستوعب معا ما يقال ويتقرر ناهيك عن التعامل الجادّ معه، فتلهث ألسنتنا ولا يوجد من يسمع، وتلهث أقلامنا ولا يوجد من يهتمّ ويقرأ.. ونحن نتساءل ونتساءل:

١- هل سيتفقون أم سيختلفون.. وفي الحالتين على النفوذ والهيمنة في بلادنا، وقد يبقى بعض الفتات لبعضنا

٢- هل سيوجهون الضربات فرادى أو مجتمعين.. وفي الحالتين إلى القلب من قضايانا، وقد يبقى لنا إسقاط بعض بقايا المجرمين التافهين في بلادنا

٣- هل يستأنفون مسيرات جنيف وفيينا وآستانا وما قد يضاف إليها.. ومن "سيحظى" من بين أصحاب القضية بدعوة لحضورها دون أن يكون له حق المشاركة في وضع جداول أعمالها وضبط معاييرها، ناهيك عن تأثير فعال في صياغة نتائجها

٤- هل يغضبهم تحرّك بعض فصائل الثوار، فيبطشون، أم يتركون تحجيم إنجازاتهم لأقلامنا وألسنتنا وخلافاتنا وخدمة بعضنا لبعض ما يريدون في أروقتهم؟

هذه دوامة عجز يصنعه التخاذل والقصور ولا يتلاءم إطلاقا مع عطاءات شعوب لم تملك أسباب القوة، وصنعت ثورات بمنزلة معجزات بمعيار التاريخ ومفاصل التغيير الكبرى في مجراه.. ولم يعد ينفع مع استمرار بقائنا في هذه الدوامة تعليل ولا تسويغ ولا تبرير ولا حجة، بدءا بتوارث القحط السياسي انتهاء بتدافع المسؤولية.

بين أيدينا شهداء ومعذبون ومشردون ومعتقلون ومكلومون، ولا تزال هاماتنا فيما نحسبه "أبراجنا العاجية" دون مستوى هامات الشعوب وصمودها وعطاءاتها..

متى نعطي الأدلة والبراهين العملية على بعض ما نصوّر به أنفسنا، كنخب سياسية وفكرية وعسكرية وأدبية وإعلامية، أو في منزلة عباقرة عصرنا برايات إسلامية وعلمانية ووطنية وقومية؟

نتحدث أحيانا من باب التمنيات عن احتمال وصولهم في أروقتهم (في الوقت الحاضر) إلى خضوع موسكو للرغبات الأمريكية "المعلنة رسميا" بصدد التخلي عن بقايا النظام الأسدي الإجرامي، فلنفترض حدوث ذلك، هل نتصور أن سورية (وفي سواها أوضاع مشابهة أيضا) ستكسب "سلطة" جديدة تحقق هدف ثورة شعبنا بعد كل ما قدّم من تضحيات؟ أم يعيش بعضنا على وهم الحصول على نصيب من "الكعكة"؟

وقد يستمر تقلب سياساتهم وممارساتهم من أجل استمرار الصراع الدائر في بلادنا على مصائرنا، ويسقط المزيد من الضحايا من شعوبنا، فهل بلغنا بعد سنوات وسنوات مستوى التأثير على مجرى الصراع في الاتجاه المطلوب ثوريا وهو وحده المشروع بمختلف المعايير؟ بل هو وحده أيضا ما يعيد لوجود نخبنا بعض القيمة لتقوم بدور فاعل ما.

في الحالتين أصبحنا نساهم في تيئيس بعضنا بعضا فنردد أن توحيد صفوفنا على قواسم مشتركة ورؤية مستقبلية من "المستحيلات" مثلما كنا نقول قبل سنوات إن شعبنا لن يصنع ثورة فذاك من "المستحيلات"، وليت الأيام تكذب حديثنا عن العجز عن التلاقي مثلما كذبت حديثنا عن حقيقة طاقات شعوبنا.

ولكن على افتراض أننا جعلنا توحيد صفوفنا مستحيلا فعلا.. ألا يمكن على الأقل بذل جهود جادّة مخلصة هادفة للتقارب والتفاهم على حد أدنى وليس الحدّ الأقصى "المستحيل"، من تصورات مشتركة بحيث توجد لتجمعاتنا العديدة المتفرقة "غرفة عمليات فكرية وسياسية"، أو "سقفا مشتركا" من نوعية ما يسمّونه "الورقة الصعبة" التي لا يستطيع أساطنة قوى الشرق والغرب تجاوزها أثناء مشاوراتهم وتفاهماتهم واختلافاتهم في أروقتهم؟

. . .

إننا نرصد.. كيف يحتاجون إلى أيام أو أسابيع أو شهور كي ينتقلوا من مرحلة إلى أخرى في توافقاتهم واختلافاتهم، ألا يمكن أن نستغل هذه الفرص الزمنية بدلا من انتظار نتائج ما يصلون إليه في أروقتهم، للتخلص من أسباب القصور، ووقف الحملات العدائية ضد بعضنا بعضا في عالمنا الافتراضي، والبحث عن قواسم مشتركة بيننا وخطوات "صغيرة" مبدئية تجمعنا على بعض المنطلقات من أجل خطوات تالية؟

يا أيها السياسيون في جميع مواقعكم، ويا أيها القادة العسكريون في جميع فصائلكم، ويا أيها المفكرون والمتخصصون في جميع زوايا معاهد بحوثكم ومراكزكم، ويا أصحاب الأقلام القديرة التي تطلقونها يوميا في صياغة كل شكل من أشكال الهجوم والنقد على فلان وفلان وهذه الجهة أو تلك:

إن مسؤوليتنا عما "لا نصنع" من أجل تقاربنا ورفع مستوياتنا "معا" لا تقل خطورة على مستقبل شعوبنا وبلادنا عن خطورة ما "يصنع" العدو الهمجي، أو الأعداء مجتمعين ومتفرقين، فغياب تأثيرنا وانشغالنا ببعضنا بدلا من عمل مشترك هو في مقدمة ما يمكنهم من مواصلة ما يصنعون.

نبيل شبيب