تحت المجهر – التغيير وفلسفة النصر والهزيمة

النصر هو التمكين عبر تحقيق هدف تحرير الإنسان والأوطان وتحصيل الحقوق والكرامة والحريات والعدالة في الحياة الدنيا

49

من أخطر ما يمكن الوقوع فيه تكرار ما مارسته الأنظمة الخاسرة في أخطر هزيمة بموازين العلوم العسكرية والسياسية، في تاريخ المنطقة سنة ١٩٦٧م، عندما اعتبرتها تلك الأنظمة "نكسة" لتغطي على فداحة المصاب ونتائجه، ولتسوّغ لنفسها زورا وبهتانا البقاء في مناصب الاستبداد والفساد رغم ما صنعت بالبلاد والعباد آنذاك، و"مستقبلا" لعقود عديدة.

هذا المسلك العقيم لا ينطبق على محطات مسار تغيير كبير أوقدت شعلته الأولى انتفاضات شعبية في فلسطين فحركت عجلة التغيير نحو واقع آخر في مستقبل أفضل، بعد عقود وعقود على منحدر التراجع والتخلف، ثم فتحت الثورات الشعبية بوابة ذلك التغيير المطلوب على مصراعيها.. وما زالت مفتوحة، ويشهد على ذلك العناق المتجدد بين ما واجهه أهلنا الفلسطينيون في غزة وصنعوه وبين ما يواجهه أهلنا في مسارات الثورات الشعبية ويصنعونه.

 

لا هزيمة في قاموسنا

كثيرا ما يغيب عن أذهاننا أنه ليس للهزيمة مكان في قاموسنا، إلا على مستوى فرد أو جماعة، ولكن ليس على مستوى "قضية".. وعلى ذلك يحاسب الفرد، أو كل عنصر من عناصر جماعة ما، يوم يأتي الإنسان ربه فردا.. أما على صعيد القضية فتسري قاعدة {يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه}. 

الهزيمة بهذا المعنى هي غلبة اليأس لدى الفرد، أو انتشاره في صفوف جماعة، فيحل مكان الأمل، ويصنع الإحباط بدلا من الاستعداد لمواصلة الطريق، وهي أيضا غلبة التسليم لواقع آني، "عابر" مهما ساءت شروطه، على واجب العمل مهما كان عسيرا لصناعة واقع آخر.. 

آنذاك يتطلب العمل للقضية ذاتها قوما آخرين يتجاوزون بالأمل والعمل مفعول اليأس والإحباط والتسليم.. ومن لم يصنع وهو قادر يسري عليه وصف "القاعدين"، أو المستجيبين لمن يقعد ويقول {لو أطاعونا ما قتلوا}.

لهذا كان هتاف "الله أعلى وأجلّ" وكان التأكيد {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} بعد غزوة أحد، ولهذا أيضا أمكن للرعيل الأول أن يتابع الطريق من أجل القضية، فتتابعت في مستقبلها الانتصارات والفتوحات، وأصبحت حصيلة معركة أحد "تاريخا".

 

النصر الحاسم هو التمكين

يعرف قاموس العلم العسكري الحديث تعبير الهزيمة، ويميزه عن المكاسب والخسائر، لا سيما عند الحديث عن حرب المواقع، وجولات الكر والفر، والهزيمة آنذاك هي تراكم الخسائر وتلاشي المكاسب وبالتالي اضمحلال قدرة الطرف المهزوم على المتابعة.. فيكون الطرف الآخر هو المنتصر.

يسري هذا على الأنظمة التي صنعت نكبة ١٩٦٧م وأمثالها، ولم تكن هزيمتها الساحقة بسبب نقص عدد وعدة -ومن شاء فليقارن ما كان الوضع عليه آنذاك- كما لم يكن التراجع بعد الهزيمة بسبب نقص فيما تبقى من طاقات لمتابعة الطريق.. بل كان بسبب رؤية الهدف محصورا في "تمكّنها" هي في كراسي الاستبداد والفساد، فكانت قبل المعركة وبعدها مهزومة قابعة داخل نفق وجودها المؤقت في السلطة.. وهذا ما نعبر عنه عادة بأنها لم تكن "على مستوى القضية".

النصر بمعايير الثورات الشعبية، أو معايير التغيير الجذري الشامل، هو تحقيق هدف تحرير الإنسان والأوطان وتحصيل الحقوق والكرامة والحريات والعدالة في الحياة الدنيا، فهذا التمكين هو النصر المطلوب.

 

المسؤولية عن الخسائر

هذا طريق لا يعرف الهزيمة، فقد تولّى الله تعالى ألا تقع، لمن يقاتل في سبيله، ولهذا نتحدث دوما عن "إحدى الحسنيين" وعن "وعد الله بإظهار دينه".. ولا ينفي ذلك خوض مواجهات كر وفر وتحقيق مكاسب أو وقوع خسائر، وهذا ما نشهده في هذه المرحلة من مسار التغيير.

والأمر الأهم: 

لا استهانة بالضحايا، بدعوى أننا نحسبهم في عداد الشهداء الأحياء..

ولا استهانة بالمسؤولية عمّن يتجرعون علقم المعاناة، بدعوى أن هذا امتحان دنيوي..

ولا استهانة بالخسائر المادية، بدعوى أن النصر من عند الله وهو وعد لا ريب فيه.

جميع ذلك يقع نتيجة أخطائنا، التي تعني حمل المسؤولية عن هدر طاقاتنا البشرية والمادية، أي "أسباب القوة" التي لا بد منها كشرط من شروط النصر.. 

هذه مسؤولية نحملها جميعا، كما نحملها أفرادا، كل على حسب موقعه ومسلكه.

 

لا تصحيح دون عمل

"فلسفة النصر والهزيمة" معروفة لنا عموما أو للغالبية العظمى ممن يعتبرون الثورة الشعبية ثورتهم، مشاركة أو دعما، ويعتبرون قضية التمكين في بلادنا وعالمنا وعصرنا قضيتهم، ولا يكون ذلك دون المشاركة في حمل أعبائها ودعم من يتقدم الصفوف فيها. 

المعرفة ناقصة دوما ما لم نترجمها إلى خطوات عملية، والمسؤولية فردية في الدنيا والآخرة.

كلنا "يعلم" مواطن الخطأ، ولا يكفي "تدافع المسؤولية" للنجاة من المحاسبة، فكلنا مطالب بخطوات عملية كيلا يزيد عدد الضحايا.. وتشتد المعاناة.. وتتراكم الخسائر.. وتجعل "مجيء قوم آخرين" ضروريا ليصنعوا ما لا نصنعه.

مواطن الخطأ التي تفرض الخطوات العملية معروفة، ومنها:

الفرقة، الإحباط، القرارات الفردية، التعصب، النزاعات، الارتجال، الفساد، الخذلان، التقصير في الدعم.. والقائمة تطول، وقد بات تعداد بنودها من فضل القول، ولكن لن يكون عدم حمل المسؤولية الآن للتعامل معها من "فضل الذنوب والخطايا" بين يدي الله تعالى، وهو العليم بالسرائر.

نبيل شبيب