تحت المجهر – الإسلام فوق الأشخاص والتنظيمات

الجميع بعد النبيّ صلى الله عليه وسلّم، يؤخذ منه ويترك ويشمل ذلك كافة التنظيمات

37

القدوة الحسنة أمر، والارتباط بالأشخاص والمنظمات والرموز أمر آخر. المسلمون جميعا دون تمييز بين كبار وصغار، رجال ونساء، علماء وعوام، حركيين وغير حركيين، زعماء وعامة، يخاطبهم القرآن الكريم جاعلا لهم الرسول صلى الله عليه وسلم، هو الأسوة الحسنة، لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وهو وحده من يُقتدى به، بكل ما ثبت عنه من أفعال وأقوال، من فروض وسنن ونوافل، ومن أخلاق وخلال، وكل من عداه، في أي زمن من الأزمنة، وأي مصر من الأمصار، وفي كل حال من الأحوال وظرف من الظروف، لا يُنظر إليه، إلا على أنّه يخطئ ويصيب، ويحسن ويسيء، ويجتهد ويخطئ، ولا وحي بعد الإسلام يصوّب، ولا معصوم يمكن أن يكون قدوة دون وعي وتفكير عند من يقتدي به، ومن يفعل ذلك مع التقليد الأعمى فشأنه شأن الإمّعة، حتى وإن أصاب فيما يقلّد.

 

بين يدي جيل المستقبل – سبل متشعبة والإسلام واحد – تبعات جسام – ضوابط الطريق

 

بين يدي جيل المستقبل

جيل الشبيبة المسلمة يقف اليوم، ذكورا وإناثا، على أبواب مفصل تاريخي في حياة المسلمين وحياة البشرية، فإمّا أن يتحرّك مؤدّيا واجبه عن علم ومعرفة ووعي، تفكيرا وتخطيطا وعطاء وبذلا وصبرا ومصابرة، فيحقّق النقلة النوعية المرجوّة حضاريا وفي كل ميدان من الميادين، أو يقصّر في ذلك، فينتقل أمل المستقبل إلى جيل يأتي من بعده، وتكون له من المواصفات، ما يجعل تحقيق تلك الأهداف على يديه ممكنا.

وبين يدي جيل المستقبل اليوم مَن يعاصرهم أو يقرأ عنهم، من علماء ودعاة، ومن أحزاب وجماعات، ومن مفكرين ومثقفين، ومن حكومات ومنظمات، ومن هؤلاء جميعا من أعطى وأنجز، وبلغ مرتبة عالية أو أخفق، وحقق هدفا أو لم يحقق، واختار لنفسه طريقا فأصاب أو أخطأ، ولا ينبغي بحال من الأحوال، أن يكون شأن جيل المستقبل كشأن جيل سبقه، وإلا لكانت الحصيلة -مع الاعتراف لكل ذي فضل بفضله- شبيهة بما نعاصره اليوم، وما حققت بلادنا أهدافها ولا تحققت للبشرية سعادتها، ولا تمكّنت رسالة الخير والهدى في أرضها، ولا حملها المخلصون إلى أنحاء الدنيا، إلا من رحم ربي.

إنّ الاعتراف للعلماء والدعاة الكبار بفضلهم الكبير، لا يكون قويما ولا يمثّل اعترافا بالفضل، ما لم يكن فيه تقدير صحيح لما أنجزوه وما لم ينجزوه، وما لم يسرِ عليهم ما كان العلماء والدعاة من العهد الأول يقولون به عن أنفسهم، أنّه يؤخذ منهم ويُترك، إلاّ "صاحب هذا القبر"، خاتم الرسل والنبيين صلّى الله عليه وعليهم أجمعين وسلّم.

وإن الاعتراف للتيار الإسلامي، بحركاته وجماعاته، ما نشأ منها قديما وما نشأ حديثا، وما بقي في حدود جانب من جوانب الإسلام، وما أخذ بالإسلام كله، وما خاض تجارب أخفقت، وما لا يزال يخوض التجارب فتنجح أو تخفق.. الاعتراف للتيار الإسلامي بفضله في حياة الأمّة وواقع البشرية، لا يكون قويما، ما لم تكن النظرة إليه نظرة النقد والتمحيص، والتقويم والتصويب، فيقال دون حرج للمخطئ أخطأت، وللمصيب أصبت، وفي الحالتين، يبقى الارتباط بالله تعالى فوق كلّ ارتباط، وقياسُ كل إنسان وكل عمل على ما أنزل من الهدي هو المقياس.

 

سبل متشعبة والإسلام واحد

كثير من جيل الشبيبة، جيل المستقبل المعقود عليه الأمل الكبير، ينظر إلى ما صنع الجهاد والمجاهدون في أفغانستان أيام وقفتهم التاريخية في وجه الغزو السوفييتي، وقد يذكر كيف وجدوا التأييد من جانب المسلمين في أنحاء الأرض واستبشر المخلصون بولادة الجهاد من جديد على أيديهم، ثمّ اختلطت المشاهد، فإذا بكلمة المنظمات الجهادية تنتشر حديثا على سبيل الأخذ عليها أنّها تتشدّد، وأنّ انحرافها عن الطريق يوردها ويورد كثيرا من المسلمين المهالك، فيطرح جيل المستقبل على نفسه السؤال، هل هذا هو الطريق الصواب؟

وينظر جيل المستقبل إلى ولادة الحركة الإسلامية الحديثة في عهد حسن البنا رحمه الله تعالى، وإذا بمن يسير على دربه رافعا رايته، وقد مضى على عصره ثلاثة أجيال متوالية، قد وُضع في قفص الاتهام، أن طغت السياسة على نهجه، وهي جزء من الإسلام فحسب، ويلاحَق بالاعتقالات والمحاكمات ظلما وعدوانا، أو يتفرّق كثير ممّن يحمل اسمَ حركته إلى أكثر من فريق في أكثر من بلد إسلامي، فتثور الحيرة في نفوس أبناء جيل المستقبل.. هل هذا هو الطريق الذي عليهم أن يسلكوه؟

وينظر جيل المستقبل إلى ما أنجزته حركة حماس وأمثالها من منظمات المقاومة الإسلامية فيقال له هذا هو الطريق، أو ينظر إلى ما أنجزه "حزب العدالة والتنمية" في تركيا فيقال له هذا هو الطريق، أو ينظر إلى ما تصنعه فئات من المسلّحين التي تصف نفسها بالطائفة الناجية ويصفها خصومها بالطائفة الإرهابية الضالّة، ثم يقال لجيل المستقبل هذا هو الطريق، أو يقال ذلك طريق معوجّ مرفوض، فأين التقويم الصحيح؟

أو ينظر إلى كثير من العلماء والدعاة، لا يواجهون سلطات الاستبداد إلا باللين والحكمة والموعظة الحسنة وفق فهمهم لها، ولا يتجاوزون حدودا معينة فيما يقولون ويكتبون، فيقال له هذا هو الطريق.

أو ينظر إلى فريق من الكتّاب والمفكّرين، وهم ينظّرون للتحرّك الإسلامي تعايشا مع الآخر العلماني، فيقال له هذا هو الطريق.

أو ينظر إلى ما يوصف بالفنانات التائبات المحجبات الداعيات ويقرأ ما كتب عنهنّ ترحيبا وتمجيدا، لتكون الواحدة منهنّ قدوة لسواها من فتيات الجيل، ثم يفاجأ ذكورا وإناثا، أنّ هذه أو تلك منهنّ قد خلعت الحجاب، وربما تنكبت طريق الهدي الذي سلكته فعادت إلى ما كانت عليه أو بعضه، فكيف يتعامل مع من جُعلن قدوة بين ليلة وضحاها، وما عُدن قدوة بين ليلة وضحاها، بدلا من تأكيد مسؤولية كل فرد تجاه ربّه عما يصنع وعمّا لا يصنع.

أين هو الطريق.. وما هي إذن السبل المتشعبة؟

إنّ لكل فريق من هؤلاء جميعا دون استثناء، جانبا حالفه فيه الصواب وآخر غلب عليه الخطأ، ولكل منهم ظروف أملت عليه الأخذ باجتهاد قد يصلح لظروفه ولا يصلح لظروف سواه، وكلّ منهم أعطى وأنجز وتخلّف وقصّر، ولا يوجد منهم أحد يمكن أن يزعم لنفسه أنّه بلغ مبلغ الصحابة علما ووعيا وعطاء وجهادا.

الأسوة هو النبيّ وحده صلى الله عليه وسلّم، وجميع هؤلاء يؤخذ منهم ويترك، وجميع الأحزاب والمنظمات والجماعات يمكن أن يُدعم صنيعها في جانب، وتُلام على صنيعها في جانب آخر.

هل يمكن للشاب الناشئ أو الفتاة في مقتبل العمر من جيل المستقبل أن يميّز بما فيه الكفاية ليأخذ ويترك، ويدعم ويلوم؟

كيف لا يكون له (أو لها) ذلك في حدود ما بلغ من العلم والمعرفة والوعي، ما دام مسؤولا بين يدي الله تعالى، لا يعفيه من المسؤولية أن يكون "تبعا لسواه" دون تفكير، ومطيعا دون تمحيص، ومستجيبا دون وعي؟

وكيف لا يكون له ذلك وقد جعل الله تعالى دين الإسلام على محجّة بيضاء، وجعل منه ما يُعرف بالضرورة، فيكفي أن يكون مقياسا لسواه ومصدرا للحسّ الإسلامي القويم، إذا تحقق شرط الإيمان والإخلاص؟

 

تبعات جسام

على أنّ للمسؤولية الفردية تبعاتها، وللموقف السليم مقدماته، وللأسلوب القويم شروطه ومواصفاته، فمن صدق بإيمانه وإخلاصه لا يستعجل في حكمه على أمر من الأمور دون أن يطّلع عليه بما فيه الكفاية، ولا يشغل نفسه بمثل تلك الأحكام عن رؤية ما يقع عليه هو من واجب فيؤديه، وما يستطيعه من عمل فينجزه، وما ينقصه من علم فيستدركه، وما يتمكّن فيه من تخصص فيتقنه.

لقد تحوّل كثير من قطاعات العمل الإسلامي في الفترة الماضية إلى ما يسري عليه شعار "الشيخ والمريد" و"الأمير والرعية"، وتحوّلت البنية الهيكلية للعمل الإسلامي من منظمات وأحزاب وجماعات إلى ما يسري عليه ممارسة إن لم يكن قولا وتنظيرا، شعارُ "جماعة المؤمنين" و"الطائفة الناجية" و"الطاعة المفروضة" فأصبح بعض تلك الهياكل التنظيمية أو بعض جوانب عملها قيودا دون تطوير مفروض، وتعديل واجب، وتقويم مدروس، وتغيير مشروع، وتحوّل كثير من كبار العلماء والدعاة والحركيين والكتّاب إلى نماذج بشرية سامقة إلى العلياء بإنجازاتهم، ولكن يُعامَلون وكأنّهم فوق البشر، ويساء إليهم بهالة تقديس لم يكن أحدهم يطلبها أو يجيزها لنفسه أو سواه، وأصبحت كل كلمة صدرت عنهم -عند كثير من محبيهم وليس جميعهم- خارج دائرة التفكير والنقد، وكل فعل أقدموا عليه صالحا للأبد، وإن تغيّرت الظروف والمعطيات، وتبدّلت الاحتياجات والوسائل، وتقلّبت دائرة الزمن من مرحلة تاريخية إلى أخرى.

إن جيل المستقبل يحمل مسؤولية جسيمة أن يخرج بنفسه من فلك التبعية لأي إنسان أو جماعة، دون أن يهمل الاستفادة من إنجازه وإنجازها، وإعطاء كلّ ذي حق حقه، تماما مثلما نطالب بلادنا أن تخرج من فلك التبعيات الأجنبية، دون أن تقطع ما لا ينبغي أن يُقطع من العلاقات الدولية والبشرية.

وإن جيل المستقبل يحمل مسؤولية جسيمة أن تتحوّل لديه النظرة إلى الزعامة لتكون نظرة موضوعية واقعية كما أرادها الإسلام، فلا يرفعها إلى العلياء، ولا يهبط بها إلى الحضيض، ولا يتحوّل من ورائها إلى إنسان دون عين تبصر وأذن تسمع وقلب يعي وعقل يفكر ولسان يحسن الثناء حيث يفيد كما يحسن الاعتراض حيث يجب.

إنّ جيل المستقبل يحمل على عاتقه واجبا لن يؤدّيه أحد سواه، أن يبتكر بنفسه صيغا للدعوة والعمل والرقيّ والإنجاز، تنطلق من إسلامه، وتناسب عالمه وعصره وظروفه وواقع بلاده وأمته.

 

ضوابط الطريق

لن يحمل جيل المستقبل تلك المسؤولية بحقها ويؤدّي ذلك الواجب كما ينبغي، ما لم يكن الفرد فيه، ذكورا وإناثا، قادرا على الارتقاء بنفسه، جنبا إلى جنب وهو يعمل، فلا يتوقف عن الاستزادة من العلم، ولا ينقطع عن العطاء. وليس فيما تتطلبه المسؤولية والواجب ما يوصف أحيانا بالمراحل، فلكل مرحلة من مستوى العلم والمعرفة المتحقّقين، ومستوى الوعي والاطلاع الضروريين، ما يمكن أن يتحقق به جزء من المسؤولية وما يؤدّى من خلاله قسط من الواجب.

لا ينبغي استعجال النتائج تهوّرا ولا ينبغي أيضا الانتظار الطويل قعودا وتخوّفا.

لا ينبغي الاقتصار على العمل الفردي انعزالا، ولا ينبغي أيضا الامتناع عن العطاء إلا بأمر جماعي في تنظيم من التنظيمات. 

لا ينبغي الانقلاب على كلّ ما هو موجود تحت عنوان "التيار الإسلامي" العريض، ولا ينبغي أيضا التقيّد بما فيه دون استثناء، أو التردّد عن إضافة الجديد إليه وابتكار المزيد من أساليب العمل ووسائله.

ليس المطلوب أن يكون طريق جيل المستقبل إلى مستقبل إسلامي منشود هو طريق فلان أو فلان، من علماء ودعاة وحركيين عمالقة في تاريخنا القريب أو المعاصر، أو ممّن يوصفون بالدعاة الشباب وقد أنجزوا ما أنجزوه، وليس المطلوب أيضا التحرّك بمعزل عمّا تحقق على أيدي هؤلاء وهؤلاء، وجزاؤهم محفوظ مضمون بين يدي الله تعالى.

المطلوب أن يكون الفرد من جيل المستقبل مسلما، مرتبطا بالله تعالى، متأسّيا بنبيه صلى الله عليه وسلّم، قادرا على الاستفادة من كلّ إنسان أو إنجاز، والتعامل مع كل تنظيم أو ظرف من الظروف، وآنذاك فقط يعلم أنّ في عطاء سواه من الأفراد ومن التنظيمات، جوانب يستفاد منها بمتابعة الطريق عليها، وجوانب كان الخطأ فيها سببا من أسباب عدم الوصول إلى الغاية المنشودة فيجب تجنّبها والحذر من تكرارها، وأنّ هذا وذاك والقول به لا ينقص من شأن أحد أو يشينه ولا يجمّله أو يقدّسه.

المطلوب أن يكون الفرد من جيل المستقبل مسلما وفق ما يحتاج هو إليه، وما تحتاج إليه بلادنا وقضايانا وظروفنا وإمكاناتنا الحالية والمستقبلية، لا الماضية مع من مضوا، فذاك هو المنطلق إلى الوعي بالحاضر والاستفادة من القديم دون استغراق فيه، وهو المنطلق لتخطيط مدروس لا غنى عنه، وتعاون من وراء سائر الحواجز والمسميات توجبه الأخوّة في الإسلام، فهو الأصل الثابت، وكلّ قالب من قوالب العمل من أجله وسيلة، قابلة للاستمرار وقابلة للتطوير والتبديل والتعديل، ولن يمكن لأي صاحب فكر أو قلم أن يكتب عن المستقبل أكثر من بعض ما قد يستشرف من معالمه، إنّما جيل المستقبل الذي يعاصر المستقبل بنفسه، هو الأقدر على استخلاص ما يصلح له ويحسن، وما ينبغي صنعه ويجب، أو ينبغي تركه ويجب، وليس له معيار إلاّ ما ثبت من أصول ومبادئ إسلامية في القرآن الكريم والسنة المطهرة، فهما المقياس لكل ما عداهما من بعد انقطاع الوحي، وهما فوق كلّ ما كتب عالم جليل أو مفكر قدير أو تبنّته منظمة من المنظمات في فترة من الفترات.

على جيل المستقبل ينعقد الأمل، وهو الأقدر على تحقيق الأمل من خلال اجتهاده عن علم ومعرفة ووعي، ومن خلال إنجازه تخطيطا وتنظيما وتطبيقا، ومن خلال القيادات التي تنبثق من داخل صفوفه وتعيش معه في عالمه وعصره، ومن خلال تعاونه فيما يرضي الله تعالى ويحقق الخير لنفسه ولأمته وللبشرية من حوله في عالمه وعصره.

وذاك هو ما سيسأل عنه كل شاب وكل فتاة من جيل المستقبل، يوم يلقى الإنسان ربّه فردا، ويحاسب فردا، وينال جزاءه فردا.

نبيل شبيب