تأملات – سورية.. ومخاطر التقسيم

الخطر الأكبر هو الانسياق في تحويل العلاقات داخل "وطن واحد" إلى علاقات "صراع عدائية" مستدامة

55

يكثر التلويح أكثر مما مضى بتقسيم الوطن السوري، تارة بالكلام عن دويلات وأخرى عن دويلتين، وقد يكون "التقسيم" هدفا دوليا أو إقليميا ودوليا بشكل من الأشكال، ولكن تغيير الحدود الراهنة في اتجاه التقسيم لا التوحيد، بعد استقرارها لعشرات السنين، لا يقبل التنفيذ "من الخارج" كما كان في مؤامرة "سايكس بيكو" التي عقدت ونفذت قبل زهاء مائة سنة، في ظروف أخرى ووسط معطيات أخرى، بل يتجاوزه ويزيد عليه، فلا تقتصر الوسيلة على "احتلال أجنبي يفرض دويلات لم تكن موجودة"، بل تشمل جولات صراع واقتتال محليا وإقليميا، مع اعتماد مرتكزات التبعية لتنفيذ أغراض أجنبية.

 

ليس الخطر الأكبر هو خطر وجود "أغراض التقسيم" الأجنبية.. فهذه كانت موجودة على الدوام ولم تنقطع، إنما هو خطر أسلوب التعامل معها، ولنذكر ما جرى لتفتيت "القطعة العربية" أثناء تقويض الدولة العثمانية، وكيف ولد الاقتتال في رحم وعود كاذبة حول "تحرير المنطقة العربية وتثبيت نشأتها الجديدة كيانا واحدا"، بعد أن تهيأت للتآمر الأجنبي أسبابٌ ذاتية صنعتها مظالم جسيمة وقعت من قبل والردود عليها.
إن وعود "التحرير" الكاذبة تنطلق الآن أيضا، علنا أو وراء الكواليس، وتحمل عناوين "السنة" و"الأكراد" أي عناوين عقدية وقومية، وحتى عناوين "الشمال" و"الجنوب" و"الساحل" أي عناوين مناطقية.. وهنا يتجلى الخطر الأعظم في انسياق فئات وجهات عديدة من داخل "صفوفنا" للمشاركة في ذلك بقصد أو دون قصد، بعد مظالم جسيمة وقعت أو تصطنع وتقع الآن.. وإذا بنا نساهم في ضرب أنفسنا بأنفسنا من خلال مواقف وردود أفعال ورؤى متعددة، وندعم عملية التحويل الدموي الجارية من قبل الثورة، للعلاقات داخل "وطن واحد" إلى علاقات "صراع" عدائية مستدامة، وهذا -وليس رسم الخرائط من جانب المشاركين في مؤامرات خارجية- هو ما يرسم "حدود" تقسيم جديدة.

 

إن الواقع التاريخي والاجتماعي يتضمن دوما "تطلعات" متباينة بين فريق وفريق من "شعب" يعيش في وطن "مشترك". وتنشأ المشكلات عند جعل "المتناقض" من هذه التطلعات هو الأصل على حساب "القواسم المشتركة" وإن كانت هي الأرسخ والأعظم والأكثر ضرورة وفائدة للجميع معا في الأصل.
"التناقض" بحد ذاته لا يصنع اقتتالا ولا تقسيما، بل يحدث ذلك عند توظيفه أداة من أجل "تجييش" فئات تتبنى التناقضات لتوجيه مجرى المواقف فالأحداث والأفعال وردود الأفعال، في اتجاه اقتتال وتقسيم.
لا تكاد توجد دولة في عالمنا المعاصر دون تعدد الانتماءات العرقية والقومية والعقدية فيها، بما في ذلك الدول التي تؤجج مسألة "الأقليات" في بلادنا تحديدا، ولكن توجد في كل دولة قواسم مشتركة، هي أساس التلاقي على مصلحة عليا مشتركة في وطن مشترك، ولا يمنع ذلك وجود مميزات أو حقوق أو استثناءات، تراعي ما يقتضيه تباين الانتماءات، دون انتقاص الوحدة الوطنية، والحقوق والحريات الأساسية، الفردية والجماعية.
ليس هذا مجرد "أمر ممكن" في بلادنا عموما، وسورية تخصيصا، بل هو الأصل، وهو أيضا الواجب الذي ينبغي أن نشترك جميعا في العمل من أجله، لأن البديل هو الصراع والاقتتال وربما التقسيم، بما يعود بالأضرار على جميع الأطراف دون استثناء.

 

إن كل كلمة ثورية أو سياسية أو فكرية أو إعلامية في اتجاه ترسيخ ما تعمل قوى خارجية وداخلية لنشره في اتجاه ديمومة الصراع، كلمة لا تعبر عن المسؤولية الثورية ولا السياسية ولا الفكرية ولا الإعلامية.
ليست مشكلة سورية وأخواتها مشكلة أكثرية وأقليات.. 
ليست هي مشكلة تعدد ما يطرح من مرجعيات.. 
ليست هي مشكلة تسميات للتوافق من قبيل عقد اجتماعي أو دستور وطني أو مبادئ فوق دستورية أوما شابه ذلك.. 
إن العنصر الحاسم في جميع ذلك هو توظيف أي عنوان من هذه العناوين،بما يمنع التوافق والتكامل ويمنع تثبيت أولوية "المصلحة العليا المشتركة" تجاه كل ارتباط خارجي منحرف، أي توظيف "عنوان إيجابي في الأصل" ‎في اتجاه الاختلاف والنزاع والصراع والاقتتال وربما الدمار المشترك عبر "التقسيم". 
ولا نجهل أن أشد أشكال التقسيم خطرا هو ما يكون "واقعيا" دون حدود جغرافية، أي مثل التقسيم الذي شهدته حقبة العقود الماضية من خلال مادة دستورية وتطبيقات إجرامية تمزق شعب الوطن المشترك بين "سادة" و"عبيد".
هذا بالذات ما أوصل إلى اندلاع الثورة عليه..
هذا بالذات ما عبرت الثورة عن نفسها بصدد رفضه من خلال شعارات مثل "الشعب السوري واحد.. واحد واحد واحد"..
هذا بالذات ما يعني أن المفروض والواجب ثوريا هو التخلص من "بضاعة الاستبداد الفاسد"، وبضاعته هي توظيف "التنوع" لزرع "العداء" وبالتالي ليكون المستبد الفاسد ومن يمالئه "فوق الجميع"..
وهذا بالذات بالتالي ما يستدعي التحذير من أن أخطر انحراف في طريق الثورة بعيدا عن هدف التغيير الجذري، أي الحرية والكرامة والعدالة والأمن والتقدم، هو السقوط كليا أو جزئيا في "صيغة" مشابهة -مع تبدل المسميات-للصيغة "التقسيمية" التي "قامت" الثورة ضدها.

. . .

الثورة تنتصر حقا بقدر ما نحوّل شعار "الشعب الواحد" إلى رؤية مشتركة، ونهج محدد، وأهداف واضحة، وأعمال مؤثرة على أرض الواقع، في "وطن مشترك"، فإن لم نفعل، يمكن أن يسقط نظام همجي مهترئ، ويقوم نظام يرث موبقاته الاستبدادية، فيستمر الصراع لعقود وليس لسنوات فقط، كما يلوّح بذلك من يزعمون صداقة الشعب السوري، وهم يصنفوننا‎ (ونحن نتلقف تصنيفاتهم ونتداولها بدلا من تصنيفنا الذاتي لأنفسنا: مستبدون وشعب ثائر) فيتحدثون عن متطرف وأقل تطرفا، ومعتدل وأقل اعتدالا، وأقلية وأكثرية، ولا يكادون يستثنون من هذا التصنيف أحدا مثلما يستثنون الاستبداد الهمجي الفاسد نفسه، فلا ينبغي أن نستغرب استثناءه أيضا من "الاستهداف" في "استراتيجيتهم الرسمية المعلنة" وما يستخدمونه لتنفيذها من وسائل وأدوات.
إنما لا ينبغي أيضا أن تغيب مراعاة ذلك كله، في كل تحرك ذاتي لرأب الصدع في مسار الثورة، واستعادة "الرؤية الثورية الجامعة" ومضاعفة الجهود لتحقيق وحدة الصفوف على كل صعيد، ميداني.. وسياسي.. وفكري.. وإعلامي، فجميع ذلك يكمل بعضه بعضا، ولا يغني جانب عن جانب أخر منه. 

نبيل شبيب