الوحدة مبدأ وهدف
للحقيقة والتبصرة والتاريخ - مع الوحدة وضد الانفصال
ملخص لإحدى خطب عصام العطار في مسجد جامعة دمشق عقب انفصال سورية عن مصر سنة 1961م
في يوم جمعة في مسجد الجامعة بدمشق بعد وقوع الانفصال بفترة وجيزة
إنّكم لتعلمون -أيُّها الإخوة- وأنتم تستمعون إليّ، وتشهَدون مواقِفي الفكريّة والعمليّة من سَنوات، أنّني قد دَعَوْتُ دائماً إلى الوَحْدة، وعَمِلْتُ دائماً من أجل الوحدة، وأنّني قد أيَّدْتُ وَحْدَةَ سورية ومصر قبلَ أن تقوم، وبعدَ أن قامَتْ بالفعل، لأسباب مبدئيّة، ولإنقاذ بلادِنا مِمّا يتهدّدُها في الداخل والخارج، وتحقيق مصلحتِها -ومصلحةِ أمّتِنا كُلِّها- على المَدَى القريب والبعيد.. ولكنّني لم أقبَلْ قطُّ -رَغْمَ كلِّ ضَغْطٍ وإحْراج رسميّ وإعلاميّ- أن أجامِلَ عبدَ الناصر، وأن أقولَ فيه غيرَ الحقّ، كما لم أقبل قطّ في أيّ ظَرْفٍ من ظروفي، وفي أيِّ مرحلة من مراحل حياتي دونَ استثناء، أن أجامِلَ أيَّ حاكِمٍ من الحكام، وأن أقولَ فيهِ غيرَ ما أعتقدُه مِنَ الحقّ
وإنّكم لتعلمون أيضاً -أيها الإخوة- أنَّ صوتي رُبَّما كانَ على امتدادِ فترةِ الوَحْدَة أعلَى صوتٍ ارتفعَ في بلادِنا، من فوق هذا المنبر، ومن كلِّ مكان خطبتُ فيه أو تحدثت، بالدفاع عن حقِّ الشعب وحريّتِه وكرامتِه، وانتقادِ سلبيّات الحكم الدكتاتوريّ البوليسيّ، وممارساتِه الخاطِئَة على كلّ صعيد، وبيانِ ما أعتقد أنّه السبيل القويم لخير الشعب في دنياه وآخرتِه، بمقياسِ الإسلام ومصلحةِ الأمّةِ والبلاد، من فوق اعتباراتِ المكاسب والخسائر والمخاطر، ومؤثّراتِ المساومات والمضايقات والضغوط، حيث كنتم لا تكادون تسمعون من أكثر الناس في ذلك الحين إلاّ التسبيح والتحميد والتمجيد.
ولذلك فإنّني أنظر بازدراء إلى من تسمعونهم الآن يقولون ناقدين:
– لماذا يسكت عصام العطار عن جمال عبد الناصر؟ لماذا لم يَعُد عصام العطار يهاجم جمال عبد الناصر؟
لقد هاجمتُ جمال عبد الناصر، وهاجمتُ أخطاءَه، وأخطاءَ الحكمِ في عهدِه، وهو في أوجِ قوّتِه وسُلْطَتِه، من أجلِ الشعب وحريّتِه ومصالحِه، فلمّا سقطَ عبد الناصر لم تَعُدْ مهاجمتُه رُجولة وبطولة وموقفاً كريماً شريفاً يَفْخَرُ به الإنسان، ويَقِفُه خالصاً للهِ عزَّ وجلّ.. فسكتُّ عنه ووقفتُ عن الهجوم
وسكتُّ أيضاً ووقفتُ عن الهجوم، لأنّني لم أُرِدْ أن يختلِطَ موقفي بمَواقف بعض من يهاجمون عبد الناصر كراهيةً بالوحدة نفسها، أو لأسباب شخصية أو حزبية خاصة، أو خدمةً لجهات أو لسياسات محليّة أو خارجيّة لا تتصل بمصلحةِ الأمّة والبلاد، ولا تنسجم معَ مصلحةِ الأمّة والبلاد
وسكتُّ ووقفت عن الهجوم، لأننا أمام الحدَثِ الهائل المُزَلْزِل الذي وقع في بلادنا بأمَسِّ الحاجة إلى التوقُّف، وإلى الفهم والتدبُّر، وإلى التجرّد الكامل لله عزَّ وجلّ، والارتفاع الصادق البَصير فوق الصداقات والعداوات، والصغائر والتفاهات، والاعتبارات الشخصيّة من كلّ حجم وصنف، إلى مستوى القضيّة، والمسؤوليّة التاريخيّة، والواجب العربيّ والإسلاميّ الكبير.. وإلى أن ينصرف تفكيرُنا وجهودُنا إلى علاج الوضع ورأبِ الصدع، لا إلى توسيع الهوّة، وتقطيعِ ما بقيَ من الوَشائج، فهذا لا يعملُه أيُّ فرد مخلص يدرك دلالات الانفصال وآثارَه، ويَرَى أبعادَه الخطيرة على كلِّ صعيد
لقد كان بعضُ من يهاجمون عبد الناصر الآن، وينتقدون سُكوتي عنه بعدَ زوالِ حكمِه وسلطانِه، يُؤَلِّهونَهُ قبلَ أيّامٍ من الانفصال، ويَعْبُدونَه مع الله عزَّ وجلّ، أو دونَ الله عزَّ وجلّ، فلمّا وقعَ الانفصال تَحَوَّل جمال عبد الناصر على ألسنتِهم وأقلامِهم بلمْحَةٍ واحِدَة، عندما اطمأنوا إلى نجاح الانقلاب، إلى شيطانٍ رَجيم يلعنونَه، ويُريدون أن يلعنَه مَعَهُم سائِرُ الناس
لِماذا ألّهوه؟ لماذا جعلوهُ شيطاناً ولعَنوهُ ورَجَموه؟!.
أنا بصراحَة لا تعجبُني هذه الأخلاق، ولا هذه التصرّفات، وأحسب أنّ هذا الطراز من الناس من أسباب انحِراف المنحرفين، وطغيان الطاغين، واضطراب الأمور، ومن أسبابِ كثيرٍ مِمّا نزل -وما يزال ينزِل- بأمّتنا وبلادنا مِنَ البلاء
وبَعْدُ أيّها الإخوة المؤمنون،
فإنّ قضيّة الوحدة أكبرُ كثيراً مِنّا ومن جمال عبد الناصر، وأعوان جمال عبد الناصر
إنّ الوحدة ليستْ مِلْكَ حاكم نقبَلُها إنْ قبلناه، ونرفُضُها إنْ رفضْناه، ونختلفُ مَعَها إن اختلفنا مَعَه
إنّ الوحدة لنا جميعاً في الحاضر، ولأجيالنا من بعدنا في المستقبل، ولأمّتِنا وبلادِنا على امتداد المكان والزمان..
إنّ الوحدة ضَرورة مِنْ ضَروراتِ وجودِنا الماديّ والمعنويّ، وضَرورة مِنْ ضَرورات وقايتِنا ونهضتِنا ونموِّنا وتقدُّمِنا وأداءِ رسالتِنا في العالم وإلى العالم.. بكلِّ مقياس من المقاييس، وفي كلّ مَجال من المجالات
إنّنا لا نستطيع بإمكاناتِنا القُطريّةِ وحدَها أن نواجهَ إسرائيل والصهيونيّة والصليبيّة والإمبرياليّة والاستعمار القديم والجديد.. وأن نحمِيَ أرضَنا وحقّنا وحريّتَنا واستقلالَنا ووجودَنا المادّيّ والمعنويّ نفسه.. فلا بُدَّ لنا من الوحدة، وتجاوز التجزئة، فقبولُ هذه التجزئة نهائيّاً قبولٌ للعبوديّة والهيمنةِ الإسرائيليّةِ والإمبريالية، ولخسارةِ الأرض والعِرْض والشرَف، وللهزائمِ المتوالية على كلّ صعيد، وللضَّياعِ والهلاك الذليل على المَدَى الطويل
ونحن لا نستطيع في حدودِنا القطريّة الضيّقة أن نحلّ مشكلاتِنا الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة والتكنولوجيّة.. فلا بُدَّ من الوحدة وتكامل الإمكانات والجهود على الصعيد العربيّ على الأقلّ لِحَلِّ هذه المشكلات وغيرِها، وتخليصِ أنفسِنا من التبعيّة الواقعيّة القائمة الآن للشرق أو للغرب، وتوفير الإمكانات والشروط الضروريّة لتنميةٍ حقيقيّة معقولة مثمرة، تُلَبّي حاجاتِ أمَّتِنا وبلادِنا، وآمالَها المشروعة في التحرّر والقوّة والأمن والكفاية والعدالة والازدهار.. وفي أداءِ دورِها الإسلاميّ والإنسانيّ والتاريخيّ الكبير
والعرب والمسلمون -أيّها الإخوة المؤمنون- هم في قلوبنا وعقولِنا، في إحساسِنا وشعورِنا، في تفكيرِنا وتقديرِنا وتطلّعاتِنا للمستقبل.. أسرةٌ واحدة، وأمّة واحدة، ومصير واحد، تجمعهم مشاعرُ الأسرة، ووشائِجُ الأسرة، وواجباتُ الأسرةِ المتبادَلة، ومحبّةُ بعضِها لبعض.. ويجب أن يكون بينهم من المودّة والرحمة والإخاء، ومن الترابُط والتناصُر والوحدة، ما يحمي الجميع، ويُقَوّي الجميع، ويضمنُ لهم جميعاً كلّ ما يمكن ضمانُه من ضروب الخير
ووحدةُ العرب والمسلمين قبل ذلك كلّه، وبعد ذلك كلّه، جزءٌ من عقيدتِنا، ومن فرائضِ دينِنا، ومن ثمراتِه ومقتضياتِه الطبيعيّة والواجبة على كلّ صعيد.. عندما نفهم عقيدتَنا ودينَنا، ونلتزمُه صادقين مخلصين في مختلف جوانب الحياة
ولذلك فإنّني أعْلِنُ أمامَكم هنا، وأعلنُ مِنْ خلالِكُم لبلادِنا وأمّتِنا كلّها، وُقوفِيَ الواضِح الصّريح مع الوحدة وضدّ الانفصال، واستئنافِيَ العملَ والجهاد لإقامةِ الوحدة من جديد على أُسُسِها الدستوريّة والواقعيّة والموضوعيّة الواعية الرّاسخة السليمة، التي تضمن لها الاستقرار والاستمرار والنموّ والاتساع، وتضمن للفرد وللشعب في ظلّها الحريّة والكرامة والعدالة والتقدّم، وتُسْلِمُ أمورَ الشعب للشعب عَبْرَ اخْتِيارِهِ الحُرّ، ومُؤَسَّساتِ المُراقبة والمُحاسبة والشورى الحقيقيّة والقرار والحكم
لقد أقاموا الوحدة عندما أقاموها سنة ١٩٥٨م بأسلوب مرتجل خاطئ، وعلى أسُس وصُوَر مرتجلة أو ناقصة، فغرسوا فيها من أيامها الأولى بذور المشكلات والانحرافات والمآسي
ولقد مارس النظامُ الحكمَ في الإقليم الشمالي (سورية كما كانت تُدْعَى أيام الوحدة) بأسلوب بوليسيّ ظالم جارح لا يقيم وزناً لحقوقِ الشعب وحريّتِه وكرامتِه ومشاعرِه وقِيَمِه، فشَمِلَ الألم والسخط والتذمّر كثيراً من الناس، وتهيّأتِ النفوس بالقَمْع والكَبْت والإساءات المُتَوالية للانفجار، فكان ذلك من أهمِّ عوامِلِ الانفصال الذي أسهم فيه مخلصون غيورون، وانتهازيّون وُصُوليّون، ومَصْلَحِيّون أنانيّون، ومُضْطهَدون موتورون، وعملاء داخليّون وخارجيّون، ومتآمرون آثِمون على الصعيد المحليّ والعربيّ والدوليّ
إنّني -أيها الإخوة- أرى ذلك كلّه بالطبع، وأدرك عوامل الانفصال السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة والفكريّة والمذهبيّة والمحليّة والدوليّة، الظاهرة والمستترة، والمُعْلنَة والمُكْتَتَمَة، والبريئة والمتّهمة.. ولكنّه لم يكن يجوز لنا أبداً أن ننظر إلى الوحدة من زواياها السلبية الموقوتة وحدها، بل كان علينا أن ننظر إليها من سائر الزوايا، ولو أنّنا فعلنا ذلك بوَعي وتجرُّد لرجحتِ الإيجابيّات على السلبيات بما لا يُقاس، فضلاً عن أنّ الوحدة أمر عقيديّ حيويّ مقدّس، لا يمكن أن يوزن بالموازين التي يزن بها دعاةُ الانفصال الإقليميّون، أو الذين لا يفرّقون بين العَرَض والجوهر، والوقتيّ والمستمرّ، فالوحدةُ بالنسبة إلينا هي قضيّةُ عقيدتِنا ورسالتِنا، قضيّةُ تحرُّرِنا أو عبوديّتِنا، واستقلالِنا أو تبعيّتِنا، وانتصارِنا أو هزيمتِنا، وتقدّمِنا أو تخلّفِنا في حاضرنا ومستقبلنا، بل هيَ قضيّةُ وجودِنا نفسِهِ على المَدَى الطويل
هل معنى ذلك أنّني كنتُ أرضَى بسلبيّات عهدِ الوحدة، وأدعو إلى قبولِها والسكوت عنها؟
كلاّ، فأنا أوّل من ارتفع صوتُه في إنكار هذه السلبيّات بكلّ وضوح وقوّة -كما تذكرون- على رؤوس الأشهاد، ولم يرض بالسكوت عنها، والتعاون مع أصحابها بحال من الأحوال، رغم ما كان يُعرِّضُه له ذلك من الضغوط والأخطار.. ولكنّني كنت أودّ أن ننكر هذه السلبيّات، وأن نعمل جميعاً متكاتِفين متكامِلين على التخلّص منها ضمن إطار الوحدة، ومن أجل الوحدة أيضاً، وأن نصبرَ على جراحاتِنا وآلامِنا، ولا نضحّيَ بالوحدة إن لم يتحقّق لنا في نطاقِها كلُّ ما نريد، في الوقت القصير الذي نريد
إنّني -أيها الإخوة- لا أستطيع أبداً أن أقبل الانفصال، ولا استمرار الانفصال
لا أقبل أبداً أن يكون الانفصال منطلقاً وهدفاً، وأن تتجزّأ أمّتُنا وبلادنا، وتغدُوَ فريسةً سهلةً مؤكّدَةً لإسرائيل، أو لهذه الدولة أو تلك من دول العالم الكبرى، أوْ لِرَكائِزِها وأتباعِها داخل حدودِنا وأرضِنا
ولذلك فإنّني أدعو إلى تهيئةِ الأجواء، واتخاذِ سائِرِ الخطوات الأخويّة الإيجابيّة الضروريّة، والإجراءات المنهجيّة الموضوعيّة المُناسبة للتفاهم مع مصر واستئناف الوحدة مَعَها على الأسُس الصحيحة السليمة، التي تضمن لها، وتضمن للشعب في ظلها، كُلَّ ما نرجوه من الخير، ونعقِدُهُ من الأمَل، وكُلَّ ما يُرَغِّبُ ويُمَكِّنُ ويُساعِدُ على قيام وحدةٍ أرسخَ وأكملَ وأوسعَ وأكبر
إنّ قضيّةَ الوحدة عندَنا أغلى وأخطر من أن نتركَها لعسكريّين مُغامرين أو مُتآمرين، تأتي بها دَبّابة، وتذهب بها دبّابة
أو لانتهازيين نفعيّين، تأتي بها مصلحة خاصة وتذهب بها مصلحة خاصّة
أو لجاهلين واندفاعيّين سطحيّين متعجّلين، يقيمونَها على غيرِ أساس، أو على أساسٍ فاسِدٍ واهِن لتنهار بعد حين، وتنهار معها الآمال، وتضيع إمكانات أو فرص إقامتِها على أسُسِها الصَّحيحة الراسخة المثمرة
أيها الإخوة المؤمنون
إنّ قضيّةَ الوحدة هي أمانةُ الله، وأمانة الأجيالِ في أعناقنا جميعاً، ويجب أن نؤديَ أمانة الله والأجيالِ على أفضل وجهٍ ممكن، وأن نبذل في ذلك كلّ ما نستطيع
عصام العطار