النشأة في دمشق

الغربة في الوطن والغربة بالحرمان من الوطن

ذاكرة شخصية – في دمشق كانت الطفولة والنشأة الأولى حتى عام ١٩٦٥م سنة بدأ اغترابي في ألمانيا

0 42

ذاكرة شخصية

بعد إقامة قصيرة في صيدا انتقلت الأسرة إلى دمشق، وأول ما أعي منها من وراء ضباب ذاكرة الطفولة الأولى، بلدة دوما، قبل أن تصبح مدينة، حيث كان سكننا الأول في كنف جدّي لأمي نظمي حمزة رحمهما الله، أما جدي لأبي وهيب رحمهما الله فكانت الصور القليلة والحكايات الكثيرة هي بوابة المعرفة به.

مسجد دك الباب

كان أول عهدي بدنيا الأطفال في شارع الروضة في دمشق، حيث كان مسكننا عند مدخل شارع عبد الحميد الزهراوي، قريبا من ساحة عرنوس، وهي ساحة احتفظ السكان باسمها الأصلي، رغم تحويله من جانب السلطات إلى ساحة ٨ آذار، بعد هدم قسم من أبنيتها في أعقاب حريق ردد العامة في حينه أنه كان مدبرا.

وقد قضى على البناء القديم لمسجد دك الباب في شارع الصالحية قرب ساحة عرنوس، وكان لي فيه أول روضة من رياض الإقبال على الإسلام، بين يدي إمامه وخطيبه الشيخ عادل الدادا، وقد رأيته آخر مرة في إحدى زياراتي لدمشق لاحقا، وكان في صحبة مفتي سورية آنذاك الشيخ أحمد كفتارو، وأذكر أنه كان شديد الحيرة، لا يدري ماذا يفعل بعد أن فقد مسجده وأهل الحيّ.

عشت في دمشق حتى عام ١٩٦٥م سنة بدأ اغترابي في ألمانيا، وكانت آخر زيارة لي لدمشق عام ١٩٧٨م، وبعدها أصبح يسري علي حكم التشريد، فقد كانت العودة بحكم رحلة انتحارية، إنما دخلت الشمال السوري مرة واحدة في مطالع الثورة الشعبية في سورية.

طفولة قلم

في دمشق نشأت وفي مدرسة عمر بن عبد العزيز في حي الجسر الأبيض كان للأستاذ نجم الدين العجلاني، أستاذي في الصف الثالث الابتدائي، فضل كبير في تشجيعي على الكتابة في تلك السن المبكرة، لا سيما عندما عرضت عليه نصّ رواية كتبتها في خمسين صفحة أو أكثر، ولم تكن تصلح للقراءة قطعا، ولكن بادرني رغم ذلك بكلمات لطيفة مشجعة كما لو كانت رواية عالمية المستوى.

كنت في المدرسة أعشق دروس العربية والحساب، كما كنت لا أنقطع عن مطالعة مجلات الأطفال، وما أستطيع شراءه من قصص من مكتبة صغيرة في إحدى زوايا ساحة عرنوس، يبيعها صاحبها بسعر رخيص بعد أن يتقادم بها العهد، وكانت غالبا من روايات أرسين لوبين أو روايات طرزان، المترجمة عن الفرنسية والإنجليزية، فكنت أخفي القصة عن عيني أبي فأضعها داخل أحد الكتب المدرسية وأنا جالس على مقربة منه في متجره الصغير في الساحة، أو في البيت، وأحسب الآن أنه كان على علم بأمري آنذاك، كما أصبحت من بعد على علم بكثير من أمور أولادي أثناء صغرهم وهم يحسبون أنفسهم يخفون أمرا من الأمور، ولكنه كان يتغاضى متجاهلا، فما كنت مقصّرا في المدرسة، بل اختتمت المرحلة الابتدائية فكنت من العشرة الأوائل في سورية، وقد أصبحت توصف في هذه الأثناء بالإقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة، وحصلتُ مع آخرين من المحافظات السورية على جائزة، المشاركة في رحلة لمدة ٣٥ يوما إلى بلغاريا، وكان الجزء الأعظم منها في مخيم للشبيبة -ولنقل للأطفال والناشئة- على ساحل مدينة فارنا على البحر الأسود، ويبدو أن الهدف في ظل الاشتراكية التي حكمت مصر وسورية آنذاك، كان أن نتعرف في تلك السن المبكرة على منجزات الدولة الشيوعية البلغارية، فرأينا أجمل صورة يمكن أن تبقى في ذاكرة أطفال بين العاشرة والثانية عشرة من العمر، ثمّ كم كان ذهولي كبيرا عندما رأيت صورا أخرى تماما، وأنا أعبر بلغاريا بالسيارة بعد ١٥ عاما تقريبا، فأرى من كثب أهلها ومدنها وقراها وأحياءها، مرة بعد مرة، أثناء سفري زائرا لبلدي سورية، وقادما من بلد غربتي ألمانيا، حتى أنني كنت أحرص على ألا أتوقف بعد تجاوز حدود النمسا مع بلغاريا، إلا عندما أتجاوز حدود بلغاريا مع تركيا.

المركز الثقافي العربي وجولات مع أقلام الأمس

لم أقتصر في مطالعاتي على القصص الرخيصة كالتي ذكرت، فقد كان المركز الثقافي العربي التابع للدولة في عهد الوحدة، مقصدي المفضل في تلك الفترة، أطالع فيه الروايات العالمية خاصة، وأقرأ لمن اشتهر أكثر من سواه من كتّاب مصر في تلك الفترة التي حفلت بالأقلام المبدعة، على تعدّد الاتجاهات وصراعها فيما بينها، وكنت أستمتع بقراءة مسرحيات توفيق الحكيم، وروايات جرجي زيدان وأستصعب قلم طه حسين، ولكن كنت أسعى لقراءة ما أجده أيضا -وكان قليلا- بأقلام آخرين من عمالقة القلم، ممن تأثرت بالتزامهم الإسلامي وقلمهم الأدبي، من أمثال مصطفى صادق الرافعي وإبراهيم بن محمد بن عبد القادر المازني -الشهير بعبد القادر المازني، وهو اسم جده كما يقول الزركلي صاحب الأعلام- وأحمد حسن الزيات، وغيرهم، وأذكر أنني قرأت معظم ما كتب مصطفى لطفي المنفلوطي، إلا أنني ما أقبلت إلا متأخرا على كتب عباس محمود العقاد وآخرين ممن قد يطول المقام هنا بذكرهم، وكان هؤلاء بداية الإحساس بما يمكن أن يصنعه القلم في النفوس، وما يمكن أن يؤدّي من خدمات، وأن يؤثر به في مختلف ميادين الحياة.

ثانوية جول جمال

أصبحت في هذه الأثناء في ثانوية جول جمال حيث استأنف تشجيعي معيد المدرسة الأستاذ عبد القادر عرب أوغلي رحمه الله، والذي شاء الله تعالى أن يزوجني بابنته هناء بعد أكثر من عشرة أعوام، وأصبح لنا ابنتان وثلاثة بنين، الأصغر جهاد الذي صمّم الإصدارة الأولى لهذا الموقع أثناء إعداده لامتحانات الشهادة الثانوية، وطوّره إلى إصدارة ثانية وثالثة أثناء دراسته الجامعية، والتي انتقلت منها إلى إصدارات تالية، بعد أن بلغ عدد زيارات الموقع أكثر من خمسة ملايين و٥٠٠ ألف زيارة.

وأصبح لي أحفاد بعد الأولاد، وأسأل الله أن يبارك فيهم وفيمن يليهم، ويجعلهم قرة أعين لأهليهم ويسدّد دربهم إلى ما فيه خيرهم وخير أمتهم دنيا وآخرة.

* * *

بين المهد واللحد

هِيَ الحياةُ بِغَيْبِ اللهِ قَدْ حُجِبَتْ

إِنْ يُزْهِرِ الزّهْرُ قَدْ لا يُثْمِر الثّمَرُ

فَاعْلَمْ بِأَنّكَ مَهْما عِشْتَ في رَفَهٍ

فَسَوْفَ تَفْنى وَيَفْنى عَيْشُكَ النّضِرُ

فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ تَقْوى اللهِ تَحْمِلُها

زاداً لِحَيٍّ.. فَما تَدْري مَتى السّفَر

أَمّا المَتاعُ.. فَما الدُّنْيا بِباقِيَةٍ

إِلاّ لِبِضْعِ سُوَيْعاتٍ.. هِيَ العُمُرُ

يَكْفيكَ ما خَفَّ.. هَلْ يَبْقى سِوى عَمَلٍ

وَالَوَعْد أَنْ يَرْحَمَ الرحْمنُ مَنْ صَبَروا

في ثانوية جول جمال تعرفت على أستاذي، وحماي من بعد، عبد القادر عرب أوغلي رحمه الله، وقد اختارني في أحد الأعوام مع مدير المدرسة لأكون الخطيب باسم التلاميذ في احتفالهم بعيد الأم، فكنت شديد الاعتزاز بذلك إذ رأيت فيه شهادة على سلامة لغتي العربية، وقدرتي على الخطابة، وفي هذا الطريق في آخر عام قضيته في ثانوية جول جمال ثم في عام الحصول على الشهادة الثانوية (التوجيهية كما توصف في بلدان عربية أخرى) في ثانوية ابن العميد، ساعدني تردّدي على مسجد أبي النور الذي كان يوصف بمسجد الشيخ كفتارو، فكان لتعلم تلاوة القرآن الكريم أثره الكبير، وقد بدأت أتميز بأن لي اتجاها إسلاميا بين أقراني من تلامذة المدرسة، وأذكر منهم عماد غازي الذي طالما أعجزني تفوقه على الجميع في لعبتنا المفضلة كرة الطاولة، ورياض جابر الذي طالما صدّع رؤوسنا بحديثه الدائم عن كتاب كفاحي لهتلر وكان معجبا به إعجابا كبيرا، وإياد شعبان الذي كان أشدّ المنافسين لي على المرتبة الأولى في الصف، وغياث سابق أكثرنا هدوءا وتحملا لمقالب الزملاء في المدرسة، وبشار حفار التلميذ الأثرى من سواه بيننا والمحبب إلينا جميعا، ثم وضاح العظم وفواز طباع وكنا نشكل الثلاثي الذي لا يفترق في المدرسة ولا خارجها، وسمعت بعد عشرات السنين أن الأول يقيم في أمريكا، أما الثاني فاجتمعت به في زيارة للرياض في السعودية، حيث أصبحت له عيادته الخاصة، إذ أصبح طبيبا كأبيه؛ وكان من أصدقاء الحي السكني في تلك الأيام ماهر طلعت، وانقطعت أخباره عني، ورضوان غيبة، الصديق الذي تعرفت عليه في مسجد أبو النور، ووصلني خبر استشهاده في حرب ١٩٦٧م (١٣٨٧هـ).. وغير هؤلاء كثير.

مدينة الشيوخ والعلماء

في ثانوية ابن العميد في حي ركن الدين بدمشق -وكان يعرف باسم حي الأكراد- كانت المحطة الثالثة من محطات التشجيع المبكر على الكتابة، وجدتها لدى أستاذ العربية الفاضل محيي الدين القضماني، الذي التقيت به في المدينة المنورة بعد سني المدرسة بأكثر من ربع قرن، وقد أصبح شيخا جليلا مهيبا أحرص ما يكون على البقاء في جوار مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان في مدرسة ابن العميد عنوان الصبر والأناة في التعامل مع الزلات والأخطاء التي يرصدها خلال حملي المسؤولية عن اللجنة الثقافية في المدرسة، وإشرافي على المكتبة والإذاعة وجريدة للحائط لتلاميذ المدرسة، وما كان ذاك الإنتاج الصحفي المبكر سهلا في تلك الفترة بين عامي ١٩٦٤ و١٩٦٥م (١٣٨٤هـ)، وقد بدأ الاستبداد البعثي في سورية يكشر عن أنيابه بمعنى الكلمة، ويضاعف من بطشه ذات اليمين وذات الشمال نتيجة انقساماته وصراعاته الداخلية كحزب، ونتيجة رفض الشعب لسياساته التي ناصبت العقيدةَ العداء، وهو ما بلغ الحضيض الأدنى في قصف مسجد السلطان في حماة، واقتحام المسجد الأموي في دمشق بالدبابات.

 كانت دمشق آنذاك مدينة الشيوخ والعلماء وكلّ منهم يستقطب أعدادا كبيرة من الشباب في أحد مساجد المدينة، وكان أحب ما أسمعه إلى نفسي -ككثير سواي رغم حداثة السن- دروس الشيخ الفاضل والمربي الكبير علي الطنطاوي رحمه الله، فكانت الحلقات حول المذياع لا تجمع الشباب في البيوت وخارجها إلا على دروسه الإذاعية، قبل أن يخرجه البعثيون من سورية مثلما أخرجوا من بعده جل العلماء والدعاة الأفاضل، وكان لحديثه -وكتبه من بعد- فضل كبير في تقويم ما اعوجّ به اللسان والقلم تأثرا بكتب ومجلات أو برامج إذاعية جعلوها سهلة المتناول على الشبيبة، في أيام لا يدري الشاب فيها هل كان ذلك نتيجة سياسة مرسومة، أو حصيلة سياسة معوجّة من الأصل كي تتسلل الانحرافات عبر تلك الكتب والمجلات والبرامج الإعلامية إلى القلوب والعقول وتستفز ما استقر فيها من ثقافة الإسلام وأدبه وفكره. 

وإلى لقاء قادم مع ذاكرة الأيام، أستودعكم الله، ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب

* * *

حرر النص الأصلي لأولى إصدارات مداد القلم ونشر يوم: ٢٣/ ٩/ ١٤١٨هـ و٢١/١/١٩٩٨م، وينشر مجددا في هذه الإصدارة من محطة إضاءات بعد تعديل التبويب والإخراج.