المشردون من جيل المستقبل في ألمانيا
بين إيجابيات وسلبيات
تحليل – الرعاية المطلوبة للمشردين واستحضار الاحتياجات الفعلية لهم
تحليل
أصبح كثير من أهلنا من سورية يخاطرون بحياتهم وهم يبحثون ضمن ما يسمى الهجرة غير القانونية عن ملاذات لهم بعيدا عن صناع الموت من الأسديين ومن وراءهم، وشاع في هذا الإطار أن الوصول إلى ألمانيا أشبه بالوصول إلى “جنة التشريد” بالمقارنة مع بلدان أخرى، حتى ولو استثنينا أوضاع أهلنا في مخيم الزعتري مثلا أو في بلد يمارس “الحاكم العربي المسلم” فيه من الإساءات ما يستحيي الإنسان العاقل من مجرد ذكره.
أجواء عامة
الإشاعات الإيجابية عن ألمانيا تدفع كثيرا من أهلنا لسلوك أخطر الطرق، وعدم الاستقرار حتى في تركيا مثلا، التي يعتبر تعاملها مع السوريين متميزا. وقبل الحديث عن التعامل الرسمي مع المشردين السوريين في ألمانيا ينبغي التنويه أن التعاطف الشعبي معهم انتشر بدرجة واسعة، بسبب مأساوية التعامل الصارخ مع الثورة الشعبية في سورية، وكذلك -على الأرجح- بتأثير صور إيجابية قد تمثل حالات فردية ولكن أصبحت لتعددها أشبه بالظاهرة، من ذلك مثلا:
نشر الموقع الشبكي الرسمي للشرطة في ولاية راينهالد بفالس الألمانية خبرا وجد خلال ٢٤ ساعة إعجاب ١٧ ألفا من رواد الموقع، ومفاده أن فتى سوريا حديث اللجوء عثر على محفظة نقود فيها زهاء ١٤٠٠ يورو فسلمها لمركز شرطة، وأمكن تسليمها لاحقا لسيدة ألمانية كانت قد أضاعتها.
وتزامن ذلك مع خبر حصول الطالبة السورية اللاجئة نور ياسين قصاب، على الشهادة الثانوية بدرجة امتياز، إلى جانب ما تمارسه من أنشطة دراسية والمساعدة في الترجمة للاجئين حديثا.
وشبيه ذلك تفوق أحمد الطفل السوري المشرد من حلب وهو في السابعة من عمره على أقرانه الألمان بولاية ساكسونيا السفلى في القراءة بالألمانية بعد أن تعلمها خلال ٨ شهور.
وتوجد حالات تفوق ونجاح مشابهة لأطفال وناشئة مشردين تحدثت عنها وسائل إعلام فرنسية وقبرصية وأمريكية وتركية وأردنية، فجيل المستقبل المشرد عن أرض سورية -كأخواتها- قادر على النجاح والتفوق عندما يتوافر له حد أدنى من الرعاية والظروف الطبيعية، ولكن هل يتوافر ذلك فعلا هذه الأيام؟
أرقام باردة ومآسٍ ساخنة
كثير مما يشاع يركز على الاهتمام بجيل المستقبل من المشردين، وتختلف أوضاع هؤلاء عن عشرات الألوف من أطفال وناشئة سوريين ينتمون إلى أسر ألمانية الأصل أو من المتجنسين من الجيل الثالث، أي أحفاد الوافدين الأوائل، ولم تطأ أقدام غالبيتهم أرض الوطن الأم، فهم محرومون من ذلك – كأسرهم – بسبب الأوضاع الاستبدادية لعدة عقود.
وتتحدث الأرقام الآن عن أعداد متزايدة من المشردين تنذر بأخطار مستقبلية نتيجة الحرمان من الدراسة والاستقرار، ناهيك عن حياة أسروية، ولكن الأرقام تصور حجم المشكلة ووراء كل رقم منها مأساة.
ألمانيا لا تعتبر نفسها بلد هجرة كأستراليا أو كندا، ويعني ذلك اقتصار المدخل القانوني للأجنبي القادم حاليا أن يكون لاجئ حرب أو لاجئا سياسيا وقد يسقط في فخ الترحيل. وتعمل الأجهزة التشريعية من جهة أخرى لتقنين أساليب انتقائية لتوطين أصحاب الكفاءات العالية بسبب تنامي الحاجة الاقتصادية إليهم مع تناقص فئة القادرين على العمل في الهرم السكاني لذوي الأصل الألماني.
تفاوت المعاملة الرسمية
يسري على المشردين أن التعامل الرسمي معهم متفاوت بين ولاية ألمانية وأخرى بل في الولاية الواحدة أيضا، وهذا ما يبدأ في معسكرات تجميع القادمين قبل الفرز والتوزيع.
حكومة ولاية بافاريا – على سبيل المثال – امتنعت عن وضع برامج تنفيذية لمعايير مقررة رسميا بشأن المشردين السوريين وفيها تفاوت كبير في سلوكيات المسؤولين المحليين في المدن والبلدات، مثال عليها مستوى عال من الإيجابية في منطقة تحيط بمدينة لينداو على سفوح جبال الألب، وهذا ما يتحدث عنه لكاتب هذه السطور الصديق الموثوق د عدنان وحود (وهو من السوريين المقيمين في ألمانيا منذ أكثر من أربعة عقود، وأحد كبار المخترعين على مستوى عالمي، والناشطين منذ بداية الثورة في الإغاثة) ويحظى بمكانة عالية في المنطقة ساهمت في انتشار معاملة حسنة لصالح المشردين، ومن ذلك تأمين الضرورات المعيشية وفرص الدراسة وحتى الرعاية النفسانية والاجتماعية.
أما الصورة السلبية المعاكسة ففي مشهد آخر سمع عن تفاصيله وعايش بعضها كاتب هذه السطور في لقائه مع أسرة سورية من أب وأم وطفلين دون السادسة، وصلت خلال رمضان ١٤٣٦هـ إلى معسكر تجميع في إحدى ضواحي مدينة نورنبيرج، في ولاية بافاريا أيضا، وهذا بعد ترحال بدأ قبل أكثر من عام من سورية إلى الأردن، ثم قبل شهور إلى تركيا فاليونان فصربيا فالمجر، وهذا طريق يسلكه كثير من الراغبين في الوصول بأي ثمن إلى ألمانيا، ومن “الثمن” أن هذه الأسرة أيضا تعرضت للغرق في المياه البحرية اليونانية، واستهلكت الجزء الأكبر من مدخراتها بسبب استغلال المشردين، فالانتقال في طرق ملتوية لعبور الحدود مثلا، يكون في سيارة تحمل ضعف ما تستوعب عادة، ويستوفي صاحبها لقاء بضعة كيلومترات، أضعاف كلفة السفر مئات الكيلومترات في أوروبا، أما المسافة الأكبر فكانت الأسرة تقطعها مشيا على الأقدام، عبر الجبال والوديان، وتبلغ مئات الكيلومترات فعلا، فتنهك أقدام الأب ويتحمّل، وتنهك أقدام الأم وتصبر، ولكن ماذا عن الطفلين الصغيرين؟
هذه الأسرة أحيلت إلى معسكر تجميع المشردين قرب نورنبيرج، وكان اللقاء معها خارج أسواره، ولكنها ملزمة بالعودة إليه فالمبيت خارجه محظور، وعندما عادت قبيل منتصف الليل، أحالها أحد المسؤولين عن الأمن على بوابته بكامل أفرادها، إلى مخفر للشرطة حيث وضعوا داخل قفص حديدي ساعة من الزمن قبل التأكد من سلامة أوراقهم والسماح لهم بدخول المعسكر.
مرة أخرى، ماذا عن هذين الطفلين في تلك الساعة وهما دون السادسة؟
الاحتياجات معيار تقويم الرعاية
ينبغي لمن يتحدث عن الرعاية المطلوبة للمشردين أن يستحضر احتياجاتهم الفعلية، وتكشف المقارنة أن جميع ما يبذل قطرة ماء في بحر هائج. لا يستهان بقيمة الطعام والشراب والملبس والمسكن كاحتياجات معيشية ضرورية، ولكن الحاجة كبيرة أيضا لرعاية نفسية واجتماعية وتعليمية وأسروية، وتتضاعف بالنسبة إلى الأطفال والناشئة، لا سيما من الأيتام.
سبق أن أعلنت الحكومة الألمانية عن برنامج خاص لاستيعاب خمسة آلاف يتيم سوري، ولم يكتمل تنفيذه، والمفروض أن يشمل تدريجيا ٥٥ ألفا، أي ١ في المائة من خمسة ملايين ونصف المليون سوري دون ١٧ عاما من العمر في حاجة إلى الدعم وفق منظمة يونيسيف، وهم أيتام أو أولاد معتقلين وملاحقين في سورية، أو “تاهوا” فهم لا يعلمون شيئا عن أسرهم وأقربائهم. وهذا البرنامج المحدود مقيد أيضا بنظام تنفيذي مرحلي في البحث عن أسر حاضنة، فالحد الأقصى هو ٥٠٠ يتيم في كل مرحلة، ولهذا قد يتطلب عدة سنين.
لا توجد في ألمانيا معاملة نمطية سارية المفعول في كل مكان، ولا نتحدث هنا عن ازدياد تعرض مراكز إيواء المشردين لاعتداءات متطرفة، بل عن جوانب إيجابية مثل قوانين جديدة تسمح للمشرد بالعمل، إن وجده، أو حالات لمّ الشمل وكفالة المشرد، ولكنها مقيدة أيضا، تقتصر على طلبات المشردين في الجوار السوري، وإجراءاتها معقدة، تعرقل تحقيق الهدف، كما تؤكد هيئة الصليب الأحمر في رسالة رسمية وجهت إلى مؤتمر وزراء داخلية الولايات الألمانية يوم ٢٤/٦ / ٢٠١٥م.
يضاف إلى ذلك ميل كثير من المسؤولين لتنفيذ مشاريع الرعاية خارج ألمانيا وآخر الأمثلة على ذلك تبرع الحكومة الألمانية عبر سفيرها في أنقرة إيبرهارد بول، بمليوني يورو (يوم ٢ / ٧ / ٢٠١٥م) لدعم اليونيسيف في إنشاء مدرسة في تركيا.
ويحسن التنويه ختاما إلى قصور الرعاية الذاتية رغم جهود مشكورة يبذلها بعض ذوي الأصول السورية أو العربية والإسلامية، فهي متفرقة ومحدودة بالمقارنة مع حجم المشكلة، وقد انصرفت جهود مشكورة لمنظمات عربية وإسلامية عديدة إلى دعم المشردين من أهلنا في سورية في دول الجوار كتركيا والأردن، وبالمقابل يغيب أي عمل جماعي مشترك لمتابعة احتياجات من استقر بهم المقام في ألمانيا، لا سيما من جيل المستقبل، في مجتمع جديد عليهم جملة وتفصيلا.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب