الفكر الإسلامي
الفكر هو الجسر الواصل بين التصورات والتطبيق
مفاهيم – تغييب طرح الفكر الإسلامي البشري يعني تغييب تطبيق الإسلام نفسه
مفاهيم
أصبحت فوضى المصطلحات تستخدم في الصراع بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، والخير والشر، ويتطلب النظر فيها والتعامل معها قدرا كبيرا من الجهود الفكرية لإزالة الشوائب ونشر الوعي المعرفي العميق مع الرؤية الفكرية الثاقبة، وتتطلب محاولة الإسهام في ذلك الحرص على تبسيط الصياغة ووضوح العبارة والتزام الروية والهدوء في السرد المكتوب والمسجل.
في متابعة الموضوع نجد أن الفكر الإسلامي بالذات مستهدف، كمفهوم اصطلاحي؛ وكان الأقربَ للصواب تعريفُه على أرض الواقع بالقول، إنه الفكر الذي ينطلق من توجه إسلامي، وفي هذا تعميم لا يصمد حاليا ضمن ما يشبه معركة وجود؛ ولكن لا بد من الرجوع إلى الفكر الإسلامي باعتباره وسيلة ضرورية لمراجعة ما يواجهنا في عالم الأفكار والمصطلحات عموما، وهذا رغم حالة مرضية من العزوف عن الاهتمام في أوساطنا العربية والإسلامية بعالم الفكر عموما، على النقيض من واقع الحال لدى أمم أخرى؛ وهو عزوف يقترن بأقوال متناقضة، منها ما انتشر من اتهامات بأن المفكرين يبالغون في التنظير ونحن نحتاج للعمل، ومنها بالمقابل مزاعم تتحدث عن غيابنا الفكري أو ركود الفكر لدينا، ناهيك عمن ينبهر بأطروحات فكرية على مستويات عالية، غالبها ما ينطلق من خارج دائرتنا المعرفية والفكرية، حتى انتشرت لدينا دعوات للانضواء تحت أجنحتها لنتجاوز الركود الفكري لدينا، وهذا يزيد جمود الفكر وخموده ولا ينعشه.
من هنا السؤال المضادّ:
أليس فيما سبق توصيف لجانب من واقع الدفع بالفكر الإسلامي في اتجاه الركود والإفلاس؟
إن فكرنا الإسلامي صادر في الأصل عن منطلقات عقدية صنعت تاريخيا بوتقة حضارية جامعة متكاملة في دائرة ثقافية وفكرية تعددية متميزة؛ وأصبحنا نرصد في مراجعة مصطلح الفكر الإسلامي جانبا من المساعي لتغييب المصدر العقدي والحضاري الذاتي المتميز والمنفتح على ما سواه، والمقصود تغييبه عن مصانع الفكر ومدارسه ومراكزه البحثية لدينا؛ ولبيان ذلك ننظر في بعض الوسائل المتبعة:
أولا: من الوسائل تسليط الأضواء على تشكيلات تنظيمية شاذة تستخدم العنف، الثقافي والسياسي وحتى المسلح، وتنسب نفسها زورا لتوصيف “إسلامية”، وهي مجرد نتوءات جانبية مرضية الولادة والنشأة، ضيقة الأفق والامتداد، ولا تمثل ما يستحق الذكر من عموم ما ينتسب إلى الدائرة الحضارية الإسلامية انتسابا معرفيا تاريخيا راسخا ومعاصرا متميزا.
ثانيا: من الوسائل تزوير المصطلحات في الخطاب المضاد لتحرير إرادة الشعوب بعد ظهور قوة تأثير العنصر الإسلامي في مسارات التحرر، ومن ذلك طرح الحرب على الإرهاب مع الخلط بين كلمات إرهابيين وإسلاميين والإرهاب والإسلام والمقاومة والثورة، كما لو أنها كلمات مترادفة، والواقع أن من يجمع بينها لا يعبأ بأنه يحاول الجمع بين المتناقضات نشأة وواقعا حاضرا.
ثالثا: من الوسائل استهداف مصطلحات إسلامية أصيلة، مثل الجهاد والسلف، عبر التهويل من شأن جماعات محدودة العدد والعدّة، مع تسليط الأضواء على أخطائها وانحرافاتها وتعميم توصيفها المنحاز بالجهاديين والسلفيين، دون وجود توجه حقيقي يعبر عن جوانب مفهوم الجهاد اصطلاحا وأصل مفهوم السلف تاريخيا.
رابعا: من الوسائل شيطنة الفكر الإسلامي بشيطنة الفكر الحركي، بعد حملات معادية لحركات إسلامية بعينها، لا سيما التي اعتبرت نفسها أو اعتُبرت، وكأنها الممثل الشرعي الوحيد لهذا الفكر، بدلا من بيان أنها صيغة من بين صيغ عديدة تتفاعل وتنمو وهي بطبيعة الحال كسواها موضع المراجعة والإصلاح دوما.
٠ ٠ ٠
هذا جانب من تغييب مفهوم الفكر الإسلامي اصطلاحا، وإحاطته بالضباب وتهميش إبداعاته، ثم نقد صور من خارج نطاقه أو منحرفة عنه، واعتبارها زورا هي الصور المعبرة عنه.
ويطرح السؤال نفسه:
كيف نميز بين الفكر الإسلامي كمفهوم اصطلاحي وبين ما يحاط به من خلط وضبابية؟
وفي طيات ذلك السؤال:
هل المستهدف هو الفكر الإسلامي كإنتاج فكري بشري فحسب أم المستهدف هو الإسلام كدين، حاليا إن أمكن، أو في نهاية المطاف على الأقل؟
لعل الرغبة في تجنب غضبة جماهيرية تتجاوز حد السيطرة وضبط ما يترتب عليها، هي الرغبة التي تكمن وراء امتناع أصحاب المكانة الفكرية والسياسية في جبهة معادية إذا صح التعبير، عن التصريح باستهداف الإسلام، ومن الأمثلة على ذلك تركيز الاهتمام على حالات انفرادية عدوانية من الإساءات مع الزعم أنها تستند إلى مفهوم الحرية فحسب. إن الحصيلة الأخطر هي التعويد على تدنيس المقدس عند الآخر، بصيغة فجّة مرفوضة وإن زعمت لنفسها أنها تمارس النقد المشروع لإنتاج فكري بشري.
من هنا يجب الرجوع أولا إلى التمييز اصطلاحا بين الإسلام وبين الفكر الإسلامي:
أولا- الوحي والأخذ به مصدرا ربانيا للعلم هو ما يميز الدين، أي يميز الإسلام دينا عما سواه.
ثانيا- منطلق الفكر الإسلامي هو الإسلام ولكن ليس الفكر الإسلامي بحد ذاته جزءا عضويا من الإسلام؛ بل يبقى الحد الفاصل واضحا بين الإسلام دينا وبين الفكر الإسلامي إنتاجا أو عطاءً بشريا قابلا للتطور.
ثالثا- “الحكمة” بالمعنى الفكري الاصطلاحي للكلمة، يعرّفها بعض العلماء منذ مطلع الإسلام بأنها الإصابة خارج نطاق الوحي، أي ما تصل إليه جهود الفكر البشري اعتمادا على نعمة العقل، ويكون صحيحا، لا يتناقض مع ما يقرره الوحي وإن لم يستند إليه استنادا مباشرا.
رابعا- معيار الاحتكام لثوابت الوحي هو ما يميز الفكر الإسلامي البشري الذي يخطئ ويصيب، عن سواه من فلسفات وأطروحات فكرية بشرية متعددة، تخطئ وتصيب أيضا، وهو ما يسري منذ عصر سقراط وأسلافه إلى ما بعد حقبة ما بعد الحداثة.
٠ ٠ ٠
يحسن هنا التنويه بأمر آخر أنّ وصف الأيديولوجية لا يشمل الإسلام، وإن أراد ذلك بعض من يطرح مقولة انتهى عصر الأيديولوجيات؛ وهي تتحدث عن أطروحات فكرية بشرية ذاتِ مضمون عقائدي جزئيا أو كليا، كالشيوعية. وعنصر العقائدي هنا يعني التصديق بأمر ما يفترض هكذا دون دليل منطقي، وهذا ما يجعله متناقضا مع مفهوم الوحي في الإسلام، الذي يدعو إلى التفكر والتدبر للوصول إلى مرحلة اليقين بما يقول الوحي به. وهذا نهج قريب من نهج علمي يبدأ بطرح فرضيات دون دليل قطعي، فيعتمد عليها، ويعمل على تعزيز قيمتها العلمية ببيان ما يُكتشف تدريجا من أدلة على صحتها.
قد يفيد في هذا الموضع طرح قائمة ببعض الضوابط للتمييز بين التعامل مع كل من الإسلام، والفكر الإسلامي، والأيديولوجيات:
١- الإسلام.. دين رباني، يتميز عن الفكر الإسلامي وعن أيديولوجيات بشرية، بما يقرره الوحي بنصوص قطعية الورود والدلالة، فأصبح ثابتا لا يزيد ولا ينقص بعد انقطاع الوحي.
٢- الوحي.. يشمل في الإسلام النصوص الشرعية، أي آيات القرآن الكريم ومتون الحديث الصحيح.
٣- من النصوص الشرعية ما هو قطعي الورود وقطعي الدلالة، ومنها ما هو قطعي الورود متعدد الدلالة.
٤- يسري على الفكر الإسلامي ما يسري على الاجتهاد الفقهي، عندما ينطلق من النصوص الشرعية ويعتمد على أسس أصولية، كفهم النص وفق اللسان العربي عند نزول الوحي، وربط الاستنباط بقواعده، مثل لا ضرر ولا ضرار، والحاجات تبيح المحظورات، والمشقة توجب التيسير، وغيرها.
٥- يشمل الفكر الإسلامي استنباط مقولاته من نصوص شرعية متعددة الدلالة، وإضافة مقولات جديدة تفاعلا مع المستجدات، ويبقى في الحالتين نتاج جهود بشرية، تخطئ وتصيب، فتسري عليه قاعدة “يؤخذ منه ويترك”.
٠ ٠ ٠
إن مراجعة الفكر الإسلامي المعاصر وما ورد منه في التراث، ليست مسألة خلافية بحد ذاتها، بل هي واجب بدأت ممارسته منذ العهد الإسلامي الأول، وكان الجمود الفقهي والفكري لاحقا مقترنا بانقطاع تلك الممارسة، ومما يشهد على العطاءات الفكرية المتميزة ما خلّفه السجال حول الفلسفة بين الغزالي وابن رشد.
الإشكالية الآن هي في كيفية التعامل مع الفكر الإسلامي؛ فشيطنته كلِّه، ولا سيما الحركي منه، سلوك عدائي تجاه الإسلام نفسه، لأن تطبيق الإسلام مرتبط ارتباطا مباشرا بوسائل التطبيق، أي بالاجتهادات البشرية ضمن الضوابط المشروعة، فتغييب الفكر الإسلامي هو تغييب تطبيق الإسلام، كما أن الوسائل الفكرية ضرورية للتطور عبر التفاعل مع متغيرات الزمان والمكان والحال.
ومراجعة الفكر الإسلامي واجبة ولكن لا تسري عليها مقولات صادرة عن مراجعة الأيديولوجيات الفلسفية، أي التي أباحت لنفسها صنعة أطروحات عقائدية؛ وهذا ما كان يعنيه ابتكار تعبير “الأيديولوجية” باعتبارها علم الأفكار حسب مؤسسها الفيلسوف الفرنسي أنطوان دي تريسي / Antoine de Tracy توفي (١٨٣٦م) وقد شرحه في كتابه عناصر الإيديولوجية؛ ثم لم ينقطع الاختلاف الفلسفي الغربي حول تعريف الكلمة، ما بين معاصري تريسي وقولهم إنها أفكار موروثة، ثم مدارس فلسفية ألمانية قالت إنها أفكار مرتبطة بروح حقبة تاريخية، ثم فلاسفة الماركسية إذ قالوا إنها أفكار مرتبطة بالبنية الاجتماعية، بينما انفرد نيتشه بالقول إنها مجموعة أوهام وتعليلات؛ ويبقى أن ما شاع في وصفها بأقلام عربية أنها “العقائدية ومصدرها الأفكار البشرية”، ومن هنا لا يصح وصف الفكر الإسلامي بالأيديولوجية أو محاولة أن تسري عليه مقولة انتهاء عصر الأيديولوجيات فذاك من الشطحات التي لا تصمد أمام ما يقول به المنطق الفلسفي الغربي نفسه، ولا سواه من ضروب المنطق الفكري البشري.
لا علاقة لذلك كله بضرورة مراجعة الفكر الإسلامي دوما، عبر السؤال عن كونه “إسلاميا“ بمعيار التوافق مع الوحي، وكونه قويما بمعيار الاستناد إلى قواعد أصولية، وكونه “صائبا“ بمعيار ملاءمته للمتطلبات البشرية الواقعية ومستجداتها.
وأستودعكم الله وأستودعه الفكر الإسلامي والمفكرين ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب